فاضل الربيعي

الجماهيريات العنيفة فى العلاقَةَ بين السياسمةّ والمعرفةَ والجماهير

-1-

في الثامن عشر من آب/ أغسطس 2003؛ وبينما كان العراق يغطس في المغطس الرهيب للاحتلال الأمريكيء وتتعاظم عذابات العراقيين من المهانات والقتل» وعمليات المداهمة التي طاولت كل متر مربع في طول البلاد وعرضها؛ وفيما الجدار الأمني يتلوى كالثعبان في بطن الضفة الغربية من فلسطين المحتلة كما يقول وصف الرئيس الأمريكي بوش حيث تظهر إحدى تفرعاته في صورة جدار آخر يفصل رفح المصرية ويفلقها نصفين» وليجري عندئلٍ عزل عشرات المئات من المواطنين الفلسطينيين عن أهاليهم ومزارعهم وبيوتهم في رفح الفلسطينية؛ كان تلفزيون المستقبل اللبناني الذي يديره رئيس الوزراء رفيق الحريريء بالتعاون مع شركة سيرتيل السورية للهاتف النقال؛ يقومان في كل من بيروت ودمشق وعمان بتنظيم أكبر تظاهرة جماهيرية؛ احتفالاً بنهاية السباق في آخر حلقة من برنامج المسابقات الغنائية سوبر ستار» بين المطربين الشباب الهواة» لاختيار سوبر ستار الغناء العربي لهذا العام. بلغت المسابقات الغنائية مساء ذلك اليوم القائظ من شهر آب / أغسطس 2003 ذروتهاء وكان البث الحي على اللمواء يشمل كل المحافظات والمدن» وحتى القرى في سورية ولبنان والأردن وبعض البلدان العربية الأخرى» حيث نُصبت شاشات تلفزيونية عملاقة وامتلأت الشوارع والساحات العامة» ومطاعم الهواء الطلق والحدائق العامة مثل حديقة الجاحظ في قلب العاصمة السورية» بمئات الآلاف من الشباب والرجال والنساء والمراهقين الذين بدوا مشدودي الأعصابء وهم يتابعون بقلق بلوغ المسابقات مرحلة من التنافس امثير بين مطربتين شابتين هاويتين.

ونحو الساعة العاشرة ليلا اضطرت الشرطة الأردنية إلى الزج بأعداد جديدة من أفرادها للسيطرة على انفعالات الحشود الجماهيرية الهحائلة التى تدفقت إلى الشوارع والساحات والميادين الرئيسية» تهتف للمطربة الهاوية ديانا كرزون الأردنية من أصل لبناني» بينما بلغت الانفعالات ذروتها ني المدن والشوارع السورية» حيث انهمرت الدموع واختلطت بهتافات الابتهاج, لوصول المطربة الشابة رويدا عطية المرحلة الأخيرة من السباق. هذه المرحلة التي ضمت اثنا عشر متسابقاً من الوطن العربي كانت هي الأخرى ذروة التنافس والانفعال. كانت الحشود الجماهيرية التى تدفقت إلى الشوارع في البلدين العربيين المجاورين للبلدين الشقيقين والمحتلين العراق وفلسطين» تتجاوز في أعدادها أي إمكانية للإحصاءء؛ وكانت المشاعر والانفعالات تفوق كل تعبيراتها المباشرة» حين صوّت للمطربتين المتنافستين نحو أربعة ملايين و800 ألف مواطن؛ تصويتاً مباشراً وحراً ونزيهاً خالياً من أي تلاعب. وفوق ذلك بواسطة الحائف النقال وشبكة الإنترنت.

يعد برنامج المسابقات الغنائية الجديد سوبر ستار الذي تشرف عليه شركة (1125111 ©121151) من البرامج الناجحة في بريطانيا وهولندا والكثير من البلدان الأوربية» وهو برنامج تبثه إحدى القنوات التلفزيونية البريطانية في الأصلء باسم بوب آيدل. وحظي في أوربا بشهرة واسعة حتى أن التلفزيون المولندي صار يعرض نسخة هولندية منه باسم 14015 . ولكنه نادراً ما حظي بمثل هذا النوع المسبوق من الحفاوة والاستقبال الجماهيري في أي من العواصم الأوربية» وبالكاد يمكن رؤية اهتمام واسع النطاق بالمتسابقين كالذي حظي به في لبنان وسورية والأردن. وقد يكون نجاحه. من هذه الزاوية؛ محدوداً أو مقتصرا من الناحية العملية على جمهور شديد الخصوصية. خارج استوديوهات

6

نمهيد

التلفزيون ال هولندي أو البريطاني. على العكس من ذلك أظهرت بيروت ودمشق وعمان اهتماماً استثنائياً بالحدث» حين راحت تهدف باسم المطربتين المتنافستين على اللقب رويدا عطية وديانا كرزون» بل ورّفعت الأعلام والصور واللافتات التي تنادي بالتصويت لمما. وكان لافتأ أن غالبية الجماهير الحتشدة والساهرة في الشوارع, هي من الشياب الذين انضم إليهم رجال ونساء ينتمون إلى جيل أكبر سنأء وحتى بعض العجائز اللواتي انهمرت دموع الكثير منهن» حتى اختلطت صلوات الدعاء الديني بالفوز والنصر مع صيحات الإعجاب والطرب.

على ماذا تدل هذه الظاهرة؟

قد تكون سيريتل نفسهاء المشرفة على ترتيبات الحفل الموسيقي وإعداد الحشود الجماهيرية وتنظيمها وقامت بتدابير استقبال البث في سورية» بالتعاون مع التلفزيون الرسميء مبهورة بالحدث الذي ساهمت في صناعته؛ وربما فوجئت بحجم الاهتمام والحفاوة الجماهيرية. وبنوع وطبيعة المشاركات الواسعة الى حظيت بها عملية النصويت

- التى تدّر بلا شك ربحاً وفيراً على الشركة بفضل تسعيرة المكالمات بواسطة الهاتف النقال ‏ ولكنها مع ذلك» ستبدو سعيدة لا بنجاحها هذا وحسبء. بل وبصعود دورها الاجتماعي؛ فهي لم تعد بعد اليوم, مجرد شركة للهاتف النقال مُتجهمة الأبواب ومُحاطة بالحراس والتدابير الأمنية؛ بل أضحت جزءاً عضوياً من النسيج الاجتماعي والاقتصادي للبلاد. لا يتعلق الأمر بالنسبة لي وفي ما يتصل بتفسير هذه الظاهرة ‏ بتعطش الجماهير إلى التصويتء أو التلهف إلى الممارسة الانتخابية وحسبء فهذا أمر فرغنا من النقاش حوله منذ وقت طويل وقد لا يستحق الكثير من الكلام والاستطراد؛

0

03

تمهيد

بل بأمر آخر أكثر أهمية» هو صناديق الاقتراع الإلكترونية الجديدة التى تعد بها الشركات أجيالاً من الجماهير.بكلام آخر: أريد أن أقرأ هذه الظاهرة من خلال الحدث الملعي الذي رافقهاء أعنى: احتلال العراق وصعود أدوار الجماهير المسلمة ( أو الإسلامية». 00

فهاهنا شركة تجارية» سواء أكانت تلفزيون المستقبل أم سيرتيل» وقد لعبت دور الحزب السياسي الذي ينظم نوعاً جديداً من الانتخابات أو الاستفتاء. وهذا هو بالضبط المضمون الحقيقي للحفل الموسيقي والغنائي. ومنذ الآن سوف تتنافس الشركة مع الحزب القديم؛ وقد تقوم بسرعة غير متوقعة يإزاحته لام وتعومة لتر ضقي النهاية سيطرتها الطلقة على الجماهير التى كانت حتى الآن من المنظور التجريدي. حقيقة سياسية من حقائق واقع يعج بالتجريد, أي أن تفرض سيطرتها على امادة التي كانت وما تزال تشكل عصب حياة الحزب. ومصدر وجوهه التاريخي الأيديولوجي والسياسي والاجتماعي. لقد تساءلت وأنا أشاهد انفعالات الشباب وأراقب توتر أعصابهم المشدودة» دموعهم وهتافاتهم ولافتاتهم الحماسية؛ والأعلام التي يلوحون بها وتحمل علامة شركة سيرتيل» عما إذا كان بوسع الأحزاب الجماهيرية في العالم العربي أن تقول شيئاً في هذه المناسبة؟

لا شك أن الحدث يستحق أكثر من تعليق؛ فهو على الأقل يطرح معضلة جديدة أمام الحزب الشيوعي - مثلاً أو أي حزب جماهيري آخر- بما هو حزب جماهيري» كما يطرح على الحزبء. أي حزب بصرف النظر عن اسمه وعقيدته وخططه السياسية» والذي باتت وسائثله في الحشد الجماهيري أكثر تضاؤلاً مع تعقد أوضاعه الداخلية وتفاقم المصاعب بوجهه. وربما مع تقلص أدواره السياسية في عالم عربي مُمزق ومُضطرب؛ أسئلة من نوع غير

- 8

نمهيد

مألوفء مثلأء هل بوسع الحزب أن يرتب وينظم تجمعاً لحشود جماهير بهذا الحجم؟ ومن أجل مناسبة قومية أو وطنية ساخنة؟ وما هو الخطاب الذي يستطيع بواسطته تحريك هذه الكتل البشرية الجديدة؟ وأخيراً: ما هي الطرق والوسائل التي يملكها الحزب في التعامل مع جماهير جديدة؛ تغير مزاجها الاجتماعي وتبدلت اهتماماتها على نحو غير مألوف من قبل؟. والأمر ذاته ينطبق وبنفس الدرجة من الإلحاح» على سائر الأحزاب التى قدمت نفسها على أساس أنها أحزاب الجماهير في طول الوطن العربي وعرضه. 5

لاريب أن الحزب الجماهيري العربي فوجئ - هذا إذا كان قادراً على قراءة الحدث قراءة موضوعية وسليمة ‏ بالقدرة المذهلة للشركة والمحطة الفضائية والجيل الجديد من منظمي الحفلات والتجمعات كذلك؛ على حشد الجماهير والزج بها في الشوارع في إطار نشاط من نوع مختلف. الحدث نفسه يتضمن فضلاً عن هذه الدلالة» فكرة جوهرية أخرى: القدرة على تنظيم انتخاب حر ومباشر ونزيه وغير مُسيطر عليه؛ وبواسطة تقنيات الحاتف النقال؟ في حلب كما في مشتى الحل؛ كما في عمان وبيروت وحديقة المجاحظ وباب توما بدمشق» أظهرت الجماهير الشبابية قدرة عالية على الانضباط» ومقدرة أكبر في الحفاظ على الطابع السلمي للتصويت؛ وهذا أمر هام للغاية بخلاف ما يجري في ملاعب كرة القدم؛ حين تأخذ الحماسة والتنافس أشكالاً من الهياج والعنف. وفي المقابل كشفت الشركة ومؤسسة التلفزيون عن أنهما تمتلكان؛ بالفعل» قدرة مذهلة على تنظيم الحشد الجماهيري والسيطرة عليه وهو أمر يفتقده الحزب الجماهيري اليوم كما بالأمس مثلما بينت المسيرات الشعبية التقليدية في العالم العربي» والتى غالبا ما تتسم بالفوضى وسوء الانضباط

9 -

03

تمهيد

والافتقاد إلى الحماسة المطلوبة» بل وإلى الرغبة في المشاركة عند قطاعات واسعة من المرغمين على الخروج في هذه التظاهرات.

بهذا المعنى تصبح سيرتيل أكبر وأهم حزب جماهيري في سورية المعاصرة من حيث إمكانياته المالية ونفوذه ‏ وتغدو قدرة تلفزيون المستقبل على التأثير المباشر في الرأي العام؛ أكبر من أي حزب لبناني» بينما تغدو ديانا كرزون أكثر شعبية من أي سياسي في الأردن.

إن القدرة على فهم التبدل في المزاج الجماهيري. وفي ثقافة الجماهير ونمط اهتمامهاء والتعرف على همومها وأفكارها وأحلامها وطموحاتهاء يجب أن يكون من أولى مهام وواجبات النخب الثقافية والسياسية في العالم العربي؛ فهذا الحدث الصغير ربا التافه بالمقاييس السياسية التقليدية» هو في الواقع من بين أهم الأحداث الاجتماعية خلال السنوات العشرين الماضية على الإطلاق» من حيث دلالاته الرمزية والمباشرة. هذه هي المرة الأولى التي يتسنى فيها التعرف على جماهير من نوع جديد؛ لن تعود ‏ بعد الآن - مجرد حقيقة سياسية تجريدية في واقع شديد التجريد» بل أضحت جزءاً من حقيقة أخرى سوف تطرح الكثير من الأسئلة. من المؤكد أن الذين شاركوا في تظاهرات مساء الخامس عشر حتى الثامن عشر من آب / أغسطس» في العراصم والمدن والقرى في البلدان العربية الثلاثئة» ليسوا مجرد كتل كبرى من البشر المعزولين عن الأحداث الجارية والساخنة في المنطقة والعال» بل لعلهم في قلب هذه الأحداث. بيد إنهم مع ذلك خرجوا للتعبير عن شيء أخرء يبدو بعيداً كل البُعد عن السياسة بمعناها الضيق والمحدود والمتداول. لقد كان منظر الشبان والشابات والرجال والمراهقين والنساءء بحشودهم الكبيرة التىي ضاقت بها الشوارع والميادين العامة» هو التعبير الأكثر بلاغة عن الارتعاشات الأولى

10

نمهيد

مجتمعات ضاتت ذرعاً بالماضي الل وباتت أكثر حنقاً على الحاضر المستعصي على أي بادرة انفراج حة جين ولداراحت بطع عدر دا الخوم الجديد من المشاركة إلى نوع آخر من الاهتمام بصوتها الاتتخابي وآخيراً: إلى تقديم نفسها كشريك اجتماعي وسياسي في صناعة الأمل وفي التقدم نحو المستقبل. ليس ما يبدو 5 أبصارنا المشدودة إلى الشاشات العملاقة المنصوبة في الساحات العامة في دمشق ى وبيروت وعمان» مجرد حدث موسيقي يتعلق بالأغاني الشبابية؛ وبهوس جماهير بمسابقة من صناعة غريبة؛ بل هو حدث جماهير بكل المقاييس؛ لم يشرف عليه الحزب ولم تنظمه النقابة الرسمية ولم يرتب له الاتحاد الطلابي أو الشبابي الرسميء وإنماهو حدث من صنع الشركة» والشركة وحدها.

هذا هو جوهر التبدل الذي يطرحه حدث السوبر ستار.

فهل مات الحزب الجماهيري؟

هل حل محله حزب من نوع جديد, أكثر تنظيماً وأفضل قدرة على السيطرة؟ هل نحن على أعتاب عصر عربي جديد تكون فيه السيطرة الفعلية للشركات؟ هل هذه الصورة الأولى وحسب. لسيطرة الشركات الكبرى على الجتمع؟ وهل يبدو الحزب الجماهيري من هذه الزاوية معنياً بالأمر؟ وهل هذا هو التمرين الأول لقوى جديدة ستفرض نفوذها منذ الآن حتى عقود تالية على الأرجح - على عقول وقلوب الملايين من الشباب العربي ‏ وذلك من خلال قدرتها الفريدة على تنظيم نشاطات جاعية حاشدة على امتداد أيام وأسابيع متواصلة؟ وهل بوسع الحزب الجماهيري» بعد اليوم, التنافس مع الخصم الجديد والفتى؟ ثم: ما هي اللغة التى تمكنه همن مخاطبة الحشود؟ وما

- 11 -

نمهيد

نوع الخطاب الاجتماعي أو الثقاني أو السياسي الذي يملكه الحزب. بحيث يصبح قادراً على البقاء وقتاً أطول على قيد الحياة في هذا التنافس المحموم؟.

سوف يخطئ من يظن أن الحشود التي اندفعت إلى الشوارع والساحات العامة» من أجل التصويت لرويدا عطية وديانا كرزون» هي حشود لا تهتم أو لا ترغب ‏ أصلاً ‏ في إظهار أي نوع من التعاطف أو الاهتمام بما يجري في العراق وفلسطين. أو أن اهتمامها محصور في نطاق ثقافتها الموسيقية» أو أنها جماهير جرى التلاعب بها. على العكس من ذلكء برهنت الكثير من الأحداث والوقائع على أن المستوى الرفيع من المعرفة بحقيقة ما يجري» والدرجة العالية من الانفعال الواعي بأحداث المنطقة» وخصوصاً في أوساط الشباب العرب في سورية ولبنان والأردن والمملكة العربية السعودية والكويت وبلدان الخليج وتونس والمغربء بل والقدرة على ابتكار أساليب وأشكال للمشاركة كما حدث إبان غزو العراق ‏ حين اندفع مئات الشبان المتطوعين للقتال دفاعاً عن بغداد ‏ هي من الخصال الفريدة لجيل مُفعم بالحيوية والذكاء والطاقة والقدرة على التكيف مع شروط الالتحاق بالعصر.

لقد تبدلت الجماهير جذرياً بينما ظل الحزب الجماهيري في مواقعه القديمة» مترهلاً وعاجزاً عن القيام بأي نوع من التغيير» وبات أكثر شبهاً بماكينة عتيقة كثيرة الأعطال تبحث عمن يهديها للمتحف الوطني. وني نطاق هذا الاختبار العلني» بوسع المرء أن يلاحظ الحقيقة التالية وقد شخصت أمام أنظاره: إن مجتمعاتنا تتجه وإن ببطء؛ صوب تغيرات حاسمة في الأغاط الثقافية القديمة؛ وإن فكرة الحزب السياسي عن الجماهير التى تلتف من حوله أو قام هوء ذات يوم, بالاستيلاء عليهاء هي فكرة لم يعد لها من أساس واقعي لسبب بسيط واحدء, إن هذه الجماهير تحتشد اليوم من حول ثقافة أخرىء وبجذبها

وات

- 12 -

نمهيد

خطاب من نوع آخر. لقد كفت عن أن تكون مجرد حقيقة سياسية؛ وعادت إلى حقيقتها الإنسانية المطلقة وانتقلت إلى طور جديد ومفاجئ لم يتهيا الحزب ولم يستعكل. بعل» للتعامل معه.

إن دراسة هذه الظاهرة بعمق, وقراءة الدلالات الاجتماعية والسياسية التي تنطوي عليهاء قد تساعد في رسم مقاربات أخرى للمشكلات العالقة في مجتمعاتنا العربية. لقد تنبأ فيلسوف ألماني عجوز قبل بضع سنواتء بأن الوظيفة التاريخية للحزب قد انتهت. وإن العالم يتجه بكل قواه إلى ملاقاة حقيقة من حقائق العصر الجديدة» وهي أن الشركات والبنوك قد تحل» فعلياً في المستقبل المنظور محل الأحزاب في أوربا وأمريكا والعالم. ولكن: إذا كان العالم يتجه؛ بحق» نحو إزاحة الحزب القديم من الحياة العامة وإعادته إلى موضعه. وتقليص درجة تدخله المباشر في المصائر التاريخية للمجتمعات» بفضل التطور المثسارع في التقنيات وشبكات الاتصال. وبفضل ما يجلبه هذا التطور من تبدل في النظام الثقافي والاجتماعي؛ فمن المؤكد أن مجتمعاتنا ما تزال ابعد ما تكون عن مثل هذا الحدث أو ملاقاة نتائجه المباشرة. ومع ذلكء فإن التغيّر الأهم. والذي سوف ينجم عن تعاظم نفوذ الشركات والبنوك, في الحياة العامة العربية خلال العقود القليلة القادمة» سوف يتبدى في نطاق هذه الحقيقة: إن عصر الأحزاب الجماهيرية قد تلاشى مع دخان المصانع التى جاء بها القرن التاسع عشر وأن عصراً جديداً يقرع أبواب الجتمع والحزبء بقوة» ويتعيّن عليهما أن يجيبا عن الأسئلة الحرجة. إن ظاهرة التنافس والحشد الجماهيري كما عرضتها تجربة تنظيم حفلات السوبر ستار وشكل وثمط الاقتراع» خليقة بأن تشجعنا على العودة إلى جوهر المشكلة وإلى التاريخ.

010

ولذا سوف تقتصر دراستى على قراءة النموذج العراقي للحزب الجماهيري من هذه الزاوية» طوال الحقبة الممتدة من الاستقلال الأول عام 8 حتى سقوط بغداد في العام 2003 بوصف هذه الحقبة هي التاريخ الحقيقى للحزب الجماهيري في العراق.

ولسوف أكرس الفصل الثاني من الكتاب لشرح مفهوم الدولة الكاريزمية. الأسباب الحقيقة من وجهة نظريء؛ لإخفاق القوميين والبعثيين والشيوعيين العراقيين» وهم الأطراف الرئيسة في الصراع حول موضوعة الوحدة بين العراق ومصرء في فهم واستيعاب أو التعرّف على العائق الحقيقي؛ الذي كان يحول وسوف ستتمر في الحيلولة دون قيام أي شكل من أشكال الاندماج بين البلدين. كما سأكرس الفصل الثالث لناقشة مأزق التحديث في عراق الأربعينات والخمسينات» وذلك في سياق تحليل الأسباب والعوامل والظاهرات التى تلازمت مع تطور الأحزاب الجماهيرية.

إن النموذج العراقي ‏ في هذا الكتاب ‏ هو نموذج دراسي وتحليلي؛ القصد منه تقديم إمكانية أخرى لقراءة العلاقة بين السياسة والجماهير في الوطن العربي في ضوء الحدث الملعي الأكبر ني حياة العرب منذ نهاية الحرب الباردة. أعنى سقوط العاصمة التاريخية للوسلام واحتلال العراق.

كا قبل أن أفرغ من وضع اللمسات الأخيرة على أفكار كتابي كبش المحرقة:

- 14 -

03

تمهيد

أشرت بشيء من الإسهاب إلى الفكرة التالية: إن الحزب الشيوعي في العراق هو حزب الشيعة بامتياز» نظراً للطابع الخاص لنشأة وتكوين هذا الحزب في بيئة شيعية؛ وذلك ما ينجلى بوضوح في تشبع الحزب ومنذ وقت مبكرء بفكرة التضحية بكل رموزها وظلاها الكربلائية» التى ميزت الحزب عن سواه من الأحزاب الشيوعية في العالم العربي. لسوف تطبع هذه الفكرة المحولة إلى عقيدة سياسية؛ بطابعها الخاص والاستثنائي؛ كامل سلوك الحزب وجماهيره. ثم جاءت الأحداث مع سقوط بغداد لتؤكد صحة هذا التحليل» إذ عاد الحزب الشيوعي إلى طائفته التى حلت - عملياً ‏ محل الطبقة ومحل فكرة الشعب. حين تقبل الحزب ردون أدنى مراجعة أو تساؤل؛ فكرة اندراجه ضمن الحصة الشيعية في مجلس الحكم الانتقالي الذي نصبه الأمريكيون.

ولكن؛ بمقدار ما ينطبق هذا التحليل على الشيوعيين؛ فإنه قابل بطبيعته لأن ينصرف إلى الأحزاب الجماهيرية الأخرى. لقد عبرت الأحزاب الجماهيرية في العراق من الناحية العملية ‏ في أفكارها وتصوراتها وبُناها التنظيمية ‏ ومنذ ظهورها على المسرح السياسي والاجتماعي في أعوام 1934 حين نشأ الحزب الشيوعي في العراق» وفي 1947 حين أعلن عن تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي ومطلع الخمسينات حين ظهر حزب الدعوة الإسلامية والأخوان المسلمون؛ لا عن الطبقات التى زعمت تّثيلها ولا عن الأفكار والأهداف الكبرى التي كانت تتطلع إليها الأمة» وإنما بدرجة أكبرء عن نحط من الانتماء جسدته وعبرت عنه ببلاغة تامة ثقافة تاريخية وسياسية» كانت تستلهم رموزاً ذات دلالات خاصة في التراث العربي والإسلامي.

لقد ركز الشيوعيون ‏ مثلاً في نشاطهم التبشيري بأفكارهم ومُعتقداتهم» على الجماهير الشيعية الفلاحية في الغالب في الأرياف وأطراف

- 15 -

03

تمهيد

المدن وداخل حزام الفقر في بغداد. وعلى ما يُدعى الأغلبية الشيعية بطابعها الفلاحي. كما جرى التماهي مع ثقافة ورموز الشيعة» وإلى الدرجة التى أصبح فيها الحسين بن علي حاضراً بقوة في فكرة التضحية الشيوعية» وذلك عندما ركز الشيوعيون على فكرة التضحية من أجل الحزب في فكرهم وسلوكهم السياسي؛ وكأنها مُمائلة لفكرة التضحية في طقوس الشيعة. أي أن الشهيد الشيوعي سيرى في نفسه صورة مُطابقة لاستشهاد الحسين وهذا واضح من قيادة الشيوعيين لسنوات طويلة؛ المواكب الحسينية في النجف وكربلاء حيث حولوا الأغاني الدينية إلى أناشيد سياسية. لقد بدا الحزب الشيوعي بفضل هذا التماهي؛ كما لو كان حزبا شيعياًء أي حزباً للطائفة وليس للشعب. ولكنء وبينما كان الشيوعيون يغطسون في مغطس الطقوس الترائية الشيعية» اتجه البعث إلى الجماهير السنية في أحياء بغداد الفقيرة» شبه المدنية مثل أحياء الكرخ وفي أطراف المدن الغربية الكبرىء بطابعها البدوي السنيى مثل الرمادي وتكريت والفلوجة وبلد وسواها. ذلك ما عزز فعلياً من ظهور ما يمكن اعتباره الشكل الموازي من أشكال التماهي مع الثقافة الشعبية السنية» التى يتم في إطارها تصعيد الصور والرموز البطولية السنية؛ وبالتالي بروز نمط من الإحياء المتسلسل والمتعاقب لرموز بعينها في التاريخ العربي الإسلامي. وهذه جرى النظر إليها بالطبع ومن دون ترد. وخصوصاً في المراحل اللاحقة من الصراعء على أنها رموز سنية وعلى نحو بدا فيه البعث كما لو كان حزب أهل السنة بالفعل. ْ

ولكن ومن دون أن يعني ذلك خلو تنظيمات الحزبين من جماعات أخرى؛ تنتمي إلى أقليات دينية وعرقية؛ لأن أعداداً من أبناء السنة والصابئة والمسيحيين والأكراد والتركمان ‏ مثلاً ‏ انتسبوا إلى الحزب الشيوعي بفعل

5

تمهيد

درافع وبواعث ثقافية وشخصية متنوعة.؛ فيما انتسب بعض من هذه الجماعات. بالإضافة إلى أعداد صغير من أبناء الشيعة؛ إلى البعث العربى الاشتراكى بفعل قوة الثقافة الصاعدة في هذا الوقت.

وقبل أن انتهي من الإشارة إلى هذه الفكرة في كتابي السابق ( كبش المحرقة: نموذج مجتمع القوميين العرب) أعدت التأكيد على رفضي القاطع للفكرة التى ثبتها المؤرخ الفلسطيني حنا بطاطو في كتابه الطبقات الاجتماعية القديمة والحركات الثورية في العراق ‏ 11978 والقائلة بعدم وجود أهمية لعامل الانتماء الطائفي للأفراد» وفي نشأة وتكوين الأحزاب العراقية التاريخية» أو في التاريخ السياسي والاجتماعي في العراق عموماً. وعلى العكس من ذلك برهنت أن لهذا العامل بالأمس كما اليوم» قوة تأثير هائلة في صياغة الصور شبه النمطية للأحزاب العراقية. لقد جاء غزو العراق وسقوط حكم البعث ليؤكد على هذه الحقيقة المسكوت عنها؛ إذ تم دمج صورة البعث ومن غير إرادته ولا قبوله ومن غير حق بالطبع» بالصورة النمطية الجديدة» وهي أنه حزب أهل السنة وحزب أهل تكريت خصوصاًء وهذا أمر غير مقبول من جانبنا ومرفوض كلياً ولا أساس له. ومع ذلك فإن وجود مثل هذا المعتقد في أوساط ناقدي البعث يدل إلى نوع المعضلة:؛ الناجمة أساساً عن تأثير هذا العامل الثقافي في تكوين ونشأة الحزب. ومع أننى أرفض هذا الاستنتاج بالصورة التعسفية التي يطرح فيها ‏ ني وسائل الإعلام وخصوصاً حين تجري عملية خادعة لتصوير المقاومة الباسلة وكأنها مقاومة محصورة في مثلث سني مزعوم 5 فإنني في المقابل أجد نفسي كباحث. ملزماً بدراسة مغزى هذا الزعم من أجل التعرف على الظاهرات التي رافقت نشأة الأحزاب الجماهيرية في العراق.

- 17 -

ومع أن حزب البعث العربي الاشتراكي بدأ فور سقوط بغداد؛ مقاومة باسلة وبطولية ربما اشتدت وتميزت. بالفعل في المناطق السنية مثل الفلوجة والرمادي وهيت وحديثئة وال موصلء» دون غيرها من مناطق العراق الأخرى. فإنه ظل يقدم نفسه كحزب لا يقرٌ الطائفية ولا يعرف بها؛ بل ويقاومها بضراوة ويدعو إلى نبذها وعدم الاعتراف بها سياسياً.

المحزن في الأمر أن اضطرار البعث إلى تفجير المقاومة في البداية» داخل المناطق السنيّة الصغيرة» قبل أن يتمكن وبسرعة خارقة من قيادة فصائلها الأساسية والتمدد خارج المثلث المزعوم؛ فرض - تلقائياً ومن دون رغبته ولا إرادته كحزب قومي ‏ مثل هذا المطابقة مع الواقع الجديد والقائلة: إن البعث عاد إلى طائفته التى عبر عن ثقافتها الشعبية. إن هذه المطابقة زائفة ولا أساس لها مالم 3 تقرأ في سياق مختلف.

لقد صار أمراً مألوفأ في التحليل السياسي السائد» مع سقوط بغداد. أن يقترن البعث من جانب خصومه بمحيز جغراني وطائفي بعينه ‏ ما بات يغرف بالمكلث السني

- ولذا أصبح الكلام عن فلول البعث وقادته ومقاومته» مقترناً بمقاومة أهل السنة للاحتلال. لا يعنى هذا أننى أؤمن بمثل هذه الصور النمطية» ولكن في المقابل» أجد من واجي التذكير بها من أجل التحليل والدراسة لا أكثر. عاق العكتن .ين :ذلك وبيدها كان ارت التسيوغي العرافي حالف جع الأحزاب الشيعية ويتواطا سرأ وعلناً مع الاحتلال نفسه؛ ويغدو جزءاً من مجلس الحكم؛ صار الشيوعيون العراقيون أكثر استعداداً لأن يروا أنفسهم. بل وأن يتصرفوا داخل المجلس وخارجه كجزء من الحصة الشيعية. وبالفعل» فقد ارتضى الحزب الشيوعي المشاركة في الجلس لا على أساس كونه حزب الطبقة

- 18 -

03

تمهيد

العاملة الثورية بالغريزة؛ عدو الاستعمار القديم والجديد كما كان يزعم؛ بل على أساس أنه حزب شيعي بفضل قبول الأمين العام معاملة حزبه كحزب من أحزاب الطائفة الشيعية.

وكانت هذه ذروة المفارقة في التاريخ الاجتماعي والسياسي في العراق المعاصر, إذ أصبح حزب الطبقة العاملة فجأة» مثلاً لطائفة من طوائف المجتمع وليس طبقة من طبقاته ‏ كما كان يزعم طوال الوقت -. وبكل تأكيد تبخر ادعاؤه القائل إنه حزب الشعب. على هذا النحو عاد الحزب الجماهيري في العراق» فعلياً وبعد أكثر من خمسة عقود من العمل والنشاط الفكري والسياسي» ومن الادعاء إنه حزب الجماهير؛ إلى طائفته وليصبح تمثلها في مجلس الحكم المنصب من قوات الاحتلال؛ وليكتشف العراقيون بمرارة الحقيقة التالية:

إن الأحزاب الجماهيرية في العراق لم تكن سوى التجسيد العملي للتوزيع الطائفي؛ وأنها لم تكن أحزاباً جماهيرية داخل الجتمع؛ كمالم تكن أحزاباً للشعب الذي صدحت بأمجاده. بمقدار ما كانت أحزاباً جماهيرية داخل الطوائف. ما أهمية هذه الوقائع؟.

يتحتم علي القول هناء أن الحزب الجماهيري هو اليوم وجهاً لوجه أمام جماهير جديدة» يمكن أن تحتشد من حول مسابقة غنائية وتمضي الليل كله مشدودة الأعصاب. إلى الشاشات العملاقة لمعرفة نتيجة التصويت حول المغنية المفضلة مثلاً. فما الذي يملكه هذا الحزب ليقدمه؟ هل يُعيد إنتاج توزعه الطائفي القديم؟ هل بوسعه الانتماء إلى هذه البيئة التى تتشكل لسرعة مُذهلة؟

- 19

03

تمهيد

إنني وعلى خلاف كثيرين» أفضل عادة استخدام اصطلاح الحزب الجماهيري؛ بديلاً من استخدام الاصطلاح الشائع: الحزب الثوري؛ وذلك لأسباب عدة لعل من أبرزها أن هذا التعبير يوفر للباحث فرصة العودة إلى الجذور التاريخية» الي صاحبت ورافقت نشوء وتطور الفكرة العقائدية المؤسسة لهذا الحزب» فقد نشأ الحزب الجماهيري وترعرع أصلاً في عصر جماهيري زائل» فضلاً عن أنه ولد من رحم أيديولوجيا جماهيرية ازدهرت وراجت في القرن التاسع عشر. ولذا اقترنت ولادته ببزوغ عصر المحتشدات العمالية في المصانع والمنتتديات السياسية. بكلام آخر: لما كانت الأحزاب الثورية والعمالية الحديئة ولدت في عصر بزوغ الرأسمالية» ومن رحم عصر المداخن بتعبير آلفين توفلر؛ فإنها اقترنت بأفكار هذا العصر ورؤاه وتصوراته للعالم وللحياة السياسية والفكرية والاجتماعية»وهي تصرفت باستمرار» على أنها تنتسب إليه وتعبر عن مشكلاته وحلوله.

وليس مُصادفة أن هذا العصر أنجب إلى جانب الشيوعية؛ كلاً من النازية والصهيونية؛ وكلتاهما اتسمتا بكونهما أيديولوجيتان تبشيريتان بعصر الخلاص. وبتعبير آلفين توفلر مرة أخرى ( توزع السلطة: نيويورك 1987 فقد زالت بزوال عصر المداخن هذاء أيديولوجيا ورؤى وتصورات وأفكار وعقائد. حتى الصهيونية باتت اليوم موضع تساؤل ونقد ومراجعة بعد أن استنفذت أغراضها التاريخية بتحقيق وجود دولة يهودية» كما يقول المؤرخون الجدد في إسرائيل ( بني موريس - مثلاً قبل تراجعه المخزي عن أفكاره) والذين يُجادلون بأن الصهيونية فقدث. من الناحية الواقعية» أهميتها كإيديولوجية وتلاشست وظيفتها التاريخية» وإن حقبة جديدة هي ما بعد الصهيونية قد بدأت.

- 20 -

في هذا النطاق يتعين التميبز - على غرار ما فعلت حنة أرنت 1122118 260*1 بين مفهوم الشعب ومفهوم الجماهير. فالجماهير لا تعني البتة الشعبء وهذا بدوره لا يمكن أن يكون مُرادفاً للطبقة» كما أن مفهوم الشعب لا يعنى الجماهير» لآن الأخيرة كتلة هلامية قد يستحيل تعيين وتحديد مطلقاتها أو روابطها المشتركة. لقد أخفق الشيوعيون العرب, مثلأء كما يُبين تاريخ الحركة الشيوعية في الوطن العربي» في استيعاب وفهم الفكرة التنبؤية الرائعة لماركس والقائلة: إن مستقبل الحزب سيكون رهن بمقدار تحوله إلى كتلة شعبية وليس بمقدار تعبيره عن الطبقة. إن لهذه الفكرة صلة عضوية عميقة بمفهوم الديمقراطية كما عبرت عنها ماركسية القرن التاسع عشر.

يروي أنجلز ( رسائل أنجلز إلى ماركس) إن الحزب الاشتراكي الألماني بزعامة تلميذه وتلميذ ماركس؛ كارل ليبكنخت» خاطبه برسالة رقيقة يطلب فيها منه أن يكتب مقالاً لصحيفة الحزب. وهذا ما فعله أنجلز على الفور؛ ولكنه فوجئ بمقالته عندما نشرت في العدد التالي وقد قطعت إربأ إرباً. وحين تساءل أنجلز في رسالة عتاب لتلميذه ليكنخت عن السبب الذي دعا محرر الصحيفة للتلاعب بأفكارهاء رد هذا مُفتخراً: لقد حذفنا منها كل ما يتعارض مع خط الحزب. في اليوم التالي كتب أنجز مُقرعاً تلميذه قائلاً: ومتى علمناكم» ماركس وأناء أن السياسة أهم من الفكر؟. في الواقع؛ تلازم هذا الفهم المأسوي للسياسة بوصفها أكثر أهمية من الفكرء تلازماً عضوياً مع نشوء وتطور الحركة الشيوعية في العالم العربي» ومع تفاقم معضلة بدت غير قابلة للحل آنذاك» فقد تدفقت جماهير ليس لها سوى نصيب ضئيل من التعليم والمعارف, لتتبوأ مواقع أساسية ومقررة في الحياة السياسية والفكرية للأحزاب الشيوعية العربية. كان الاستحواذ أو الاستيلاء على الجماهير؛ فكرة طاغية ومحورية في تفكير

3-001

نمهيد

الأحزاب العقائدية في العراق» البعث والحزب الشيوعي؛ وحتى الأحزاب الإسلامية التقليدية ( حركة الأخوان المسلمون وحزب الدعوة في العراق). وهذا الأمر تحقق بصورة متفاوتة مرات عدّة من الناحية الشكلية. ففي العام 9, مثلاً بلغ عدد أعضاء الحزب الشيوعي العراقي كما يُزعم؛ نحو مليون عضو قام الحزب باستعراضهم في الأول من أيار / مايو من نفس العام في شوارع بغداد. وفي السنوات التالية حقق القوميون العرب أكبر حشد جماهيري مع صعود الناصرية في العراق بعد العام 23 وفي الثمانيدات من القرن الماضي أمكن لحزب البعث أن يحول بالقوة» أو بالإغراء نحو مليوني مواطن عراقي إلى بعثيين. بيد أن ما لم يتحقق من الناحية الفعلية هو اندماج المادة الجماهيرية وانصهارها وتحوها إلى قوة فكرية وسياسية تحديثية في امجتمع. على العكس من ذلك فاقمت هذه الجماهيرية من المشكلات الداخلية في الحزب؛ فقد جرت عملية إنزياح تدريجية للنخب وتلاشى مع الوقت. أي دور ممُحتمل ( للأفندية) أي للمفكرين والمثقفين والكتاب والمنُظرين» بينما ترسخت داخل الحزب. سواء أكان شيوعياً أم بعثياً أم قومياً أم إسلاميأء جذور جماهير فهمت السياسة باستمرار» لا كتجسيد أعلى للثقافة بحسب التعبير المحب لصديقي المفر السوري ميشيل كيلوء بل كفعالية تقوم على فكرة التضحية.

وذلك ما سبق لي وأن بيتتهٌ في كتابي كبش المحرقة.

هذا هو برأينا المظهر الأول الذي تجلت فيه مشكلة الديمقراطية داخل الحزب الجماهيري» وذلك عندما تبلورت في وقت مبكر من الخمسينات» معالم وملامح حقبة سياسية وحزبية لا يُسمح فيها إلا بدور محدود للغاية لتبادل الأفكار. كانت الستالينية في هذا الوقت» تخرج إلى العالم بانتتصار تاريخي بعد الحرب العالمية الثانية» لتنشر موديلا ( نموذجا) للحزب» سوف يجري استنساخه

322

03

تمهيد

حتى من قبل البعثيين أعداء الشيوعية آنئزء فضلاً عن حركة القوميين العرب؛ التي سوف تفرغ في العام 1967 من تأسيس أرضية انتقالها إلى أحزاب شيوعية أو شبه شيوعية أو ماركسية قومية» ولترث فعليأء ماركسية ستالين من الناحية التنظيمية» المؤسسة على قواعد الانضباط الحديدي والذعر من السجال الفكري.

على العكس من هذه التجارب. كانت حركة فتح ( حركة التحرير الوطني الفلسطيني) تبني بهدوء منذ القرن الماضيء حزبا هو بالضبط كما تصوره ماركس» كتلة شعبية عريضة يُسمح فيها وإلى أقصى حد ولكل عضوء أن يتبنى علنا خطابا ماركسيا أو إسلاميا أو قومياء ولكن في إطار هدف عام واحد هو تحرير فلسطين.

وبالطبع من دون وشائج تنظيمية صارمة؛ إذ كانت هذه الوشائج قابلة لأن تخلق طبقأ للحاجات النضالية اليومية الّلحة وطبقاً للمهام التي يقوم بها الأعضاء. وحسب التعبير الظريف والعميق لاني الحسن أحد القادة التاريخيين» فإن فتح لم تكن حزباً قط لأن كل من قال إنه من فتح فهو فتح. بفضل هذا العامل وحده؛ وربا لهذا السبب وحدث أيضأء أخفقت كل المحاولات الرامية لشق صفوف فتح أو التلاعب بها وبمصيرها كمنظمة سياسية؛ برغم الضغوط الهائلة والتدخلات المكشوفة من الدول والمنظمات المعادية. بينما راحث الجماعات الماركسية الخارجة من رحم حركة القوميين العرب تتشظى» وتنقسم على نفسها دون توقف تقريباً بفعل أزمات فكرية دورية وحادة. وفوق ذلك مُستعصية على الحل كما حدث مثلاً مع انشقاقات الجبهة الشعبية المتعاقبة. كانت معضلة الديمقراطية في الأحزاب الجماهيرية في الأصلء معضلة فكرية تتصل بمفهوم القادة لأولوية الفكر على السياسة. وهو موضوع لا يزال يهيمن

- 23

نمهيد

على تصورات وسياسات سائر الأحزاب حتى اليوم في الوطن العربي. تاليا سوف تتفجر سائر المشكلات التنظيمية بفعل إخفاق الحزب الجماهيري في عرض حلول عملية لمشكلة أولوية الفكر على السياسة هذه.

ولأن هذا الحزب ولد وعاش بعمق هاجس الخوف من الخارج ‏ وهذه كما بينت في كتابي الجديد ( من أيقظ علي بابا المنشور على حلقات في جريدة القدس العربي - لندن 2003 ويصدر قريباً عن رياض الريس» بيروت) هي فكرة محورية في عقيدة الحزب الجماهيري؛ فإن الخارج لم يكن سوى الأفكار الهدامة المغايرة والمختلفة التي تهدد نقاوة النظرية عند الشيوعيين؛ أو تهدد مصير الأمة عند البعثيين والقوميين والناصريين أو تعرّض الإسلام لمخاطر البدع عند الإسلاميين. على هذا النحو تحول الحزب إلى مجتمع صغير ومُغلق. وبالطبع فعندما يجد المرء نفسه في مجتمع مُغلق هو الحزب الجماهيريء فهذا يعنى أن جماهيرية الحزب قد تقلصت إلى أقصى حدء. ول يتبق منها سوى العقيدة المبشرة بعصر الخلاص الأسطوري من التعاسة والشقاء والحرمان. وفوق ذلك كله سيجد الفرد نفسه وقد عاش داخل مجتمع صغير مغرم بعقيدته» يُحجب فيه حق تبادل مُسيطر عليه للآراء» ولذا؛ فإن أزمة الحزب الجماهيري سوف تنتقل من مجرد أزمة داخلية إلى معضلة غير قابلة للتسوية. بين حق الأفراد في إعادة السياسة إلى جذرها الحقيقي كفكر وبين مفهوم القادة للسياسة كبرنامج يفوق في أهميته كل فكر.

إن تلاشي وتآكل مكانة الحزب الجماهيري فعلي وخروجه غير المعلن من المسرح السياسي» ليس ظاهرة عربية أو عالم ثالثية» بل هو النهاية المنطقية لعصر مضى وزال؛ كما إنه البداية المنطقية أيضاً لعصر جديد يولد وسوف يطرح منذ الآن وعلى الجميع؛ أفكاراً ورؤى وتصورات لا قبل لهم بها. ولذا

- 24 -

تمهيك

يرتبط تدهور وتراجع وحتى تلاشي مكانة الحزب الجماهيريء محقيقة أن تحولاً كونياً قد حدث؛ نجهم عنه زوال عصر المداخن وزوال أيديولوجياته الصارمة أي: زوال الحزب كما ولد في صورته التقليدية عند أعتاب القرن التاسع عشر. لقد حل» ببساطة» عصر جديد يستحيل معه التوفيق بين التصورات القديمة للعالم» وبين التطورات المذهلة الجارية فيه وفي كل ركن وزاوية من حياة البشر. 11

وفي صيف عام 1976 كنت أحد ثلاثة مسئولين عن تحرير صحيفة أسبوعية للحزب الشيوعي العراقي» يغلب عليها الطابع الثقاني والفكري السياسى هي صحيفة الفكر الجديد بيري نويه الصادرة في بغداد باللغتين العربية والكردية :.وكان أعد كناب الصحيفة اللذائمين عضوا بارزاً في خنة منطقة بغداد للمثقفين في الحرب.

تلقيت في مطلع ذلك الصيف مقالاً من هذا الكاتب. مُكرساً لنقد بعض الأفكار القومية بشكل شديد العمومية والتورية. ويبدو أن سياق المقالة أملى عليه اشتقاقاً لغوياً كان مألوفاً بالنسبة لى - إذ سبق لى أن قرأت مقالات لكتاب لبنانيين استعملوا الاشتقاق نفسه دون حرج - كانت الكلمة التي ظن الكاتب أنه نجح في تطويعها هي كلمة ( قومي) وسياق النص أملى عليه استخدام تعبير ( قوموي). فوجئت في اليوم التالي بالكاتب وهو يطلب مني أن أضع تعبير ( قوماني) بدلا من ( قوموي). وما كدت أفرغ من القيام بهذا التعديل بناء على إلحاحه» حتى فوجئت به يتصل بي هاتفياً راجياً أن أوقف نشر المقالة ريئما يحصل على موافقة المكتب السياسي للحزب على هذا التعديل. بدا لي الأمر في البداية مجرد مزحة ما لبعت أن تحولت إلى إالجحاح. وعندما سألته عما إذا كان جاداً في عرض المسألة على المكتب السياسي

- 25 -

03

تمهيد

للحزب, وما إذا كان لدى أعضاء المكتب السياسي أصلاء أي معارف لغوية حقيقية تؤهل أي عضو فيه تقديم فتوى لغوية من هذا النوع؛ رد هذا قائلاً أن الأمر خرج من يده.

بعد نحو أسبوع أبلغني أن أكبر الأعضاء سنأ في المكتب السياسي ( وكان شخصاً كثر الادعاء ومحاطاً بهالة مُصطنعة من المهابة الفكرية الفارغة) قد قرر وقف نشر المقالة بسبب البدعة اللغوية والسياسية فيها. لقد كان الاشتقاق اللغوي دليلاً دامغاً على وجود بدعة فكرية قد ثلحق ضرراً بالغأ أو فساداً من نوع ما بثقافة الحزبء ولغته الصافية الأنيقة والمشذبة ولكن الفارغة من الوحساس بعذاب الشعب. وللدق, تلحق دمارا بلغة الحزب التقليدية. وسوف نرى تاليا أن لكل حزب لغته الخاصة المقدسة» لسانه الخاص الذي لا يجوز تبديله أو تركه عرضة للحن اللغوي. والحال هذه فإنني لم أجد مُبررأً للنقاش ما دام المثقف نفسه. يُسلم بحدوث البدعة كما قرر الحزب مُمثلا بعضو مكتبه السياسي. ومع هذا قلت له إن بوسعي تزويده بسلسة من المقالات التي كتبها شيوعيون لبنانيون» يردُ فيها تنويع مُدهش على هذا الاشتقاق.

هذه الواقعة لا تخلو في نظري, من دلالة عن نوع وطبيعة الذعر حتى في أوساط مثقفى الأحزاب الجماهيرية من أي اقتراب؛ مهما كان بسيطأ وعابرأًء قد يلامس السياسة من جذرها كفكر. يجب أن نظل السياسة نقية وطاهرة بتعبيراتها الخاصة بهاء والتى يتعين على كل عضو في الحزب أن يظل مشدوداً إلى مداراتها التكتيكية واليومية ومُتشبثاً بها إلى النهاية» بحيث لا يعود بوسعه التطلع إلى الاهتمام الحقيقي بأهدافها الكبرى» بل بالمصالح الأنانية والضيّقة وحتى الانتهازية» التي يمكن ويجب على القادة تحقيقها حتى وإن كان ذلك على حساب المصالح العليا للمجتمع. وبالفعل؛ فإن المصدر المباشر للاحتقار

56

0

نمهيد

الممزوج بالخوف. من السياسة في العالم العربي عند عامة الناسء أنها لم تعد أداة تتجسد منم خلاها الأفكار العظيمة» وإنما الأداة الانتهازية التى يمكن لحفنة من المواطنين» أن يحققوا من خلالها وحسب. امتيازاً يستحيل عليهم بلوغها في ظروف أخرى.

إذا كانت كلمة واحدة في مقالة شديدة العادية» تطلبت رقابة المحزب المباشرة؛ فللمرء أن يتخيل درجة الازدهار الفكري في الحزب الشيوعي العراقي في ظروف النضال الديمقراطي العلني؟

وإذا كانت كلمة واحدة في مقالة صحفية» قادرة على أن تثير حيرة وارتباك مثقف الحزب. بحيث اضطر إلى تعديلها مرة وإلى التشكك في صحتها مرة أخرىء وانتابه بسببها المواجس والظنون مرات لا تحصى» وخشي جراء ذلك من مخاطر تورطه في التفكير ا حر؛ وأخيراً اضطراره إلى الخضوع المهين لرقابة الحزبء فللمرء كذلك؛ أن يتخيل نوع النقاش المسموح فيه داخحل الحزب الجماهيري. إن أي نقاش جذّي لمعضلة الديمقراطية في الحزب الجماهيري في الوطن العربي ولد وعاش معادياً للفكر في الأصلء وإن ذعره وهلعه من فكر آخرء هو مادة أصيلة وعضوية في مفهومه للسياسة: فهي لا تنشد رعاية المصالح العليا للمجتمع كما أنها لا تجسد ولا تعبر ‏ ولا تتمظهر فيها الأفكار العظيمة ‏ بل هي أداة تحقيق مصالح مجتمع صغير من النفعيين» ومجتمع جماعة معزولة عاشت كل وتقتها في وهم تمثيلها للمجتمع العرافي.

لقد كان ماركس على حق حين نبّْه وفي وقت مبكر من نشاطه الفكري والفلسفيء إلى الأضرار الناجمة عن الفهم السطحي لكلمة أيديولوجياء التي كانت تنتشر ‏ كمصطاح - في أوربا الرأسمالية انتشار النار في الهشيم؛ ففي نقده للأيدولوجيا ( الأيدولوجيا الألمانية 1845 - 1846 ) شدد ماركس بكل ما

ع أ ات

03

تمهيد

يلزم من الوضوح على أنه بنقده للمفهوم الألماني للأيدولوجياء التي لا تعني شيئا سوى الانعكاس الزائف للواقع ‏ حسب تعبيره؛ فإنه إنما ينقد من حيث الجوهر تحويل عقيدة الحزب إلى ما يشبه الدين. كانت الأيدولوجيا بالنسبة لماركس لا تزييفاً للواقع وحسب. بل وحجباً لتفاصيله وارهاصاته وتجلياته» ولذا حذر أتباعه وأنصاره من التسليم بالحقيقة الإيديولوجية» فهذه قد تتراءى كمصدر وحيد للحقيقة فيما هي انعكاس زائف لا. ولم يتردد» حينئل, عن قول الفكرة الحاذقة التالية:

إن هدف الشيوعيين الحقيقي؛ هو تطوير وتنمية كل القدرات الكامنة في الأفراد. لأن كل فرد لن تتوفر له وسيلة رعاية وتنمية مواهبه في جميع الاتجاهات إلا حين يندمج مع الآخرين.

بيد أن هذا المدف انتهى - في تجارب الشيوعيين العرب والعراقيين ‏ إلى العكس تامأ ما أراده ماركس: تحطيم وتدمير هذه الفردية الخلاقة بإشاعة العمى الأيديولوجي وتعميمه. بالضد من تجارب الحزب الشيوعي في الوطن العربي الفكرية والسياسية» في نهاية الستينات ( إلى حد ما شهد الحزب الشيوعي السوري واللبناني والسوداني أوضاعاً أكثر أريجية في النقاش الفكري) كانت حركة فتح تتابع بشيء من الحيادية ولكن برغبة حافز على التفلم :أجواة النقاشن المباخب الذي اتذلع مع مظلم الليتعنات :وما تعيدها بقليل داخل بقايا حركة القوميين العرب» وخصوصا داخل الجبهتين الشعبية والديمقراطية لتحرير فلسطين حول ( ماركسيتنا). ويبدو أن السهولة الفكرية التي تقلبت فيها فتح برنامج النقاط العشرء الذي يمثل في الجوهر تصورات الماركسيين الفلسطينيين للتسوية السياسية؛ بأكثر ما بمثل تصورات القوميين أو الإسلاميين في فتح نفسها - هو برنامج طرحته الجبهة الديمقراطية بقيادة نايف

- 28 -

نمهيد

حواتمة للتسوية السياسية في المنطقة وما لبث أن أصبح برنامجاً تبه م. ت. ف -تكشف من الناحية الإجرائية عن الطبيعة الخلاقة للحياة الداخلية في فتح والتى كانت تيح لكل عضو فرد فيها أن يجد ني الخارجء أي في الأفكار والنظريات السياسية المطروحة خارج إطار فتح, مصدراً مُلهمأ أو قابلاً للتوظيف في خدمة الداخل الفكري والسياسي للمنظمة الفلسطينية» وأن يُنمي بفضل التفاعل معهاء قدراته ومواهبه في جميع الاتجاهات, تماماً كما أراد ماركس ومن دون خوف أو عمى أيديولوجي. لقد كانت حرية الفرد مقدسة في نظر ماركسء على العكس تاماً ما فعل تلاميذه العرب؛ إذ قرن هؤلاء حرية الفرد داخل الجماعة بشروط إذعانه وخضوعه. ول يلتفتوا إلى عبارته الثمينة في البيان الشيوعي 1848 والقائلة: إن التطور الحر لكل فرد هو شرط التطور الحر للجميع.

لقد كان تصور ماركس للحزب يتأسس على فكرة ساطعة في وضوحها: خلق رابطة يشكل فيها التطور ال حر والُستقل للأفراد المنضوين فيهاء شرطاً حاسماً للتطور الحر والمستقل للجماعة ككلء أي للمجتمع بأسره وليس للمجتمع العقائدي الصغير.

ومع أن فتح لم تشهد مثل هذه السجالات. لأنها لم تكن حزباً أيديولوجياً؛ غير أن بعضاً من قادتها التاريخيين مثل الشقيقين الحسن خالد وهانيء لعبا أدواراً تنظيرية هامة على صعيد تطوير رؤى فتح - بصرف النظر عن رأينا في قيمة هذه الأفكار أو الأدوار - وعلى صعيد بناء تصور فتح لنفسها ولدورهاء كما على صعيد ترويج تصوراتها الفكرية والسياسية المستقبلية والراهنة» للتسوية وللموضوعات الوطنية الأخرى. بهذا المعنىء لم يحدث في فتح كحزب ججماهيري خلى في الأصل من الأيديولوجياء ولم يكن لديها برنامج

- 29 -

03

تمهيد

أيديولوجي منذ تأسيسها؛ تعارض حقيقي بين السياسة والفكر على غرار ما حدث في الأحزاب الماركسية الفلسطينية والشيوعية العربية» أو على غرار ما حدث مع البعث والناصريين والإسلاميين. إن مظاهر القمع الفكر ظلت مُتلازمة مع نشوء وتطور ثم إنزياح النموذج الستاليني للماركسية في الأحزاب الشيوعية ‏ وهذه وإن تخلصت ظاهريا وشكليا من النموذج الستاليني ‏ فإنها ظلت في الواقع تعيش أطيافه حتى اليوم. إن معضلة الدبمقراطية في الحزب الجماهيري هي معطلة التنافر والتعارضء بين مفهومين للسياسة في الوطن العربي قبل أن تكون معضلة تنظيمية.

هذان المفهومان هماء كما كانا من قبل حين بشر ماركس بعالم جديد:

مفهوم يرى في السياسة تجسيداً أعلى للفكر وللثقافة» وآخر يرى فيها فعالية تفوق أهميتها كل فكر. وإذا ما أمكن للباحثين بموضوعية ونزاهة علمية) أن يُحللوا ‏ اليوم ‏ جوهر المعضلة كما كشف عنها التاريخ الاجتماعي والسياسي للأحزاب الجماهيرية العربية» فإن ما سوف يصادفهم ويصدمهم في الآن ذاته» سيكون بكل تأكيد ذلك التناقض المسكوت عنه في الحياة السياسية العربية. أي التناقض نفسه.

حتى قبل سنوات قليلة خلت, كان يمكن للحزب الجماهيري أن يتخلص من مأزقه التاريخي. الذي وجد نفسه فيه قبيل سقوط النموذج السوفياتي» وأن يتخلص من مأزق عدائه المستحكم للديمقراطية لو أنه أفلح فعلياًء وليس مظهرياًء في تحقيق مهمتين متلازمتين: التحول جذرياً إلى كتلة شعبية معبرة عن هموم وتطلعات الشعب بكل طبقاته وفئاته» مرنة وها قابلية عالية على التكيف الأمين وغير الانتهازي مع الظروف؛ والتحول جذرياً ونهائياً كذلك في منظومة أفكاره مفاهيمه؛ بحيث تعاد السياسة إلى جذرها

30 -

03

تمهيد

كنشاط فكري حي وإلى وظيفتها الفعلية» بوصفها الشكل الوحيد الذي يمكن فيه للفكر أن يتجسد وأن يتحقق على أرض الواقع. بيد أن الوقت أضحى اليوم» متأخراً مع تآكل الوظيفة التاريخية ذاتها للحزب وتراخي عزيمته في إحداث تحول حقيقي في رؤاه وأفكاره وتصوراته.

إن التاريخ الاجتماعي والسياسي في العراق» يقدّم نموذجاً دراسياً ممنازاً عن الطريقة التى تقوم فيها الجماهير بالاستيلاء على الحزب وإخضاعه. بحيث تغدو السياسة مع الوقت» نوعاً من هياج جماعي يفضي في كل مرة ومع كل حدث. إلى تفاقم الصراعات وإلى دورات من العنف غير قابلة تقريبا على السيطرة. بينما تتراجع أدوار النخب السياسية والفكرية.

ومن غير شك؛ فإن التبدل المذهل في مزاج الجماهير وثقافتها؛ في ظل التغيرات المتسارعة في العالم كله» لا يتركان سوى القليل من الوقت ورقعة أضيق بأكثر مما نتصوره؛ بالنسبة للأحزاب الجماهيرية التقليدية من أجل أن تعيد تأملاتها في الواقع الذي سعت إلى تغييره.

إن المسابقة الغنائية التي تحدئت عنها في مطلع الكتاب» هي من بين حوافز عدة: يمكن للمرء أن يُصادفها في عالم العرب» من أجل القيام بتأملات جديدة في الموضوعات المطروحة وفي الحلول الممكنة.

فاضل الربيعي هولندا: 9 آب/ أغسطس 2003

0

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

ولادة حزب جماهيري

على غرار الطوفان البشري الذي شهدته شوارع بيروت وعمان ودمشق. في المرحلة الأخيرة من سباق السوبر ستار الموسيقي؛ كان العراق يشهد حشودا جماهيرية تمائلة وهائلة في الوقت عينه تقريباء إذ نزل مئات الآلاف من الشبان ‏ بقمصانهم السوداء وبعضهم ارتدى الأكفان ‏ إلى الشوارع ليسهروا الليل كله عند ضريح الإمام علي في النجف, وهم يمارسون طقوس النواح الشيعية المعروفة. في الماضي القريب قيض للعراق أن يشهد طوفانات بشرية مُمائلة» ولكن في إطار مختلف إلى حد كبير؛ إذ كانت هناك أحداث سياسية كبرى ذات طابع وطني وموضوعات من نوع آخرء وقفت وراء تحريك تلك لحشود البشرية. فما الذي يمكن أن يجمع بين المناسبتين 9.

وهل يمكن للمرء أن يجد شيئاً جامعاً في الدلالات الرمزية» الاجتماعية والسياسية بالطبع؛ بين الحفل الجماهيري الموسيقي الغنائي المبهج في العواصم العربية ا جاورة للعراق» وبين الاحتفالات الجماهيرية الحزينة التى انطلقت في النجف وكربلاء فور سقوط بغداد بغداد. بطابعها الدينى ‏ السياسي وبإيقاعاتها الشيعية الخاصة؟ هل يمكننا أن نستنبط من مثل هذه الظاهرات أفكاراً محص مسألة العلاقة بين الحزب والجماهير؟ قبل أكثر من نصف قرن أطلق العراقيون على واحدة من هذه المظاهر الجماهيرية تعبير المد الأحمرء وذلك في توصيف بليغ لأول طوفان بشري يغمر شوارع بغداد بعد ثورة تموز / يوليو 1958. في ذلك اليوم وربما لآيام أخرى تالية»؛ سهرت الجماهير الليالي كلها في الشوارع والميادين والساحات العامة» تلوح بأعلامها وتصخب بموسيقاها وهتافاتهاء

5

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

وترقص ابتهاجاً وهي تنشد بصوت واحد للشيوعية والاتحاد السوفياتي وللوطن الحر السعيد.

حتى رجال البوليس خرجوا بزيهم الرسمي وهم يرقصون ويغئون نشيد الحزب الشيوعي العراقي: ( اسأل الشرطة ماذا تريد؟ وطن حر وشعب سعيد). ذلك هو التاف الذي صدحت به الحشود الجماهيرية لأيام. لقد كانت تمثل من منظور رمزيء الطلائع المتقدمة لأول وأكبر مد جماهيري في العراق الجديد, عراق ما بعد الاحتلال البريطاني والملكية؛ والذي سيغمر البلاد طولا وعرضاً ويُعرف نسبة إلى لونه العقائدي الأحمر. ولكن؛ وبعد مضي نحو عقد من الزمن على هذا الحدث. وبينما كان المدّ الجماهيري الأول يشهد نوعاً من الاحتضار ونتلاشى هالته حتى في خيال صناعه مع اضطراب الأرضاع السياسية وانعدام الاستقرار؛ دهمت البلاد موجة جماهيرية ثانية عاتية هائلة وعنيفة ومُتفجرة؛ لتغمر الشوارع والميادين والساحات العامة بأعلامها وموسيقاها وهتافاتها وأناشيدها القومية والعروبية ولتسهر. هي الأخرى. الليالي كلها دون انقطاع تقريباً في الشوارع والميادين العامة.

في ذلك الوقت من العام 1968 وبعد أقل من عقد واحد. صعد إلى السلطة حزب جماهيري منافس هو حزب البعث العربي الاشتراكي» وتمككن خلال وقت قصير نسبياً من ضم أكثر من مليوني مواطن إلى صفوفه بالإغراء أو القوة أو القناعة الفكرية؛ وبذلك اصطبغت البلاد بلون جديد هو لون - القومية العروبية. لقد عادت الجماهير إلى الشوارع من جديد لتقدم نفسها كشريك في السياسة وهذه المرة بلون عقائدي مختلف. على هذا النحو راحت الحشود البعثية تغنى في المسيرات والتظاهرات لقورة 17 تموز/ يوليوء التي

- 34-

الفصل الأول : الأحمر؛ والأبيض, والأأسود

نُعتت بأنها ثورة بيضاءء وصدحت الأغاني بالأمة الطالعة من الرماد تُبعث حية في مواجهة القدر.

اليوم؛ وبعد أكثر من ثلاثة عقود تبلغ الموجة الجماهيرية الثانية لحظة احتضارهاء ونتلاشى هيبتها مع سقوط بغداد ووقوعها في القبضة الأمريكية.

لسوف نشهد منذ الآن» واحدة من أكبر وأقسى عمليات الحو المنظم. والزحزحة العنيفة للرموز والمعتقدات التي تتتسب إلى عقيدة البعث القومية. ولكنء وبينما ينشغل جنود الاحتلال الأمريكي في تنظيف الأرض من أي إثر يمكن أن تكون قد تركته هذه الموجة, خلال العقود الثلاثة الماضية» وفيما صيحات أعضاء مجلس الحكم الانتقالي تتعالى مُطالبة باجتثاث البعث وجماهيره من الجذورء كانت موجة جديدة عاتية متفجرة تدهم العراق في الجدوب وفي حزام الفقر الحيط ببغداد» إيذاناً بموجة جماهيرية ثالثة كبرى.

هذه المرة اصطبغت البلاد بلون عقائدي آخر إسلامي - شيعي بوجه الخصوص ( يُرمز له بالأسود لون الرايات التى رفعها العباسيون من قبل). ومع نزول أعداد لا تحصى من أبناء الشيعة إلى الشوارع بقمصانهم السوداء وأناشيدهم الدينية الحزينة» غمرت البلاد موجة جماهيرية ثالشة قوامها شبان ورجال عشائر وتجار وفئات من الفقراء والهامشيين» وحتى مثقفين يساريين سابقين انقلبوا على يساريتهم. هؤلاء سيمضوز الليالي كلها في الكثير من الأحيان» ساهرين عند الأضرحة المقدسة في النجف وكربلاء والكاظمية» أو في شوارع مدينة الصدر الخالية من جنود الاحتلال» يلوحون بأعلامهم وراياتهم وصور أبطالهم.

-35-

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

وعلى امتداد الأشهر الخمسة الأولى من الاحتلال الأمريكي للعراق» كان بوسع المراقب المحايد أن يتابع الطريقة التى يجري فيها الترويج لصورة غغطية جديدة عن الجماهير العراقية. إنها الجماهير التي تجوب الشوارع وقد أدمت السياط الحديدية ( السلاسل) ظهورها أو راحت تنشج بالبكاء. وهي أيضاً الحشود البشرية الحائلة» المليونيّة» التى ترتدي الثياب السوداء أو تحمل الرايات السوداء كناية عن الإسلام الشبعي. ولكنها أيضاً الحشود السياسية الجديدة البى خرجت لتقدّم نفسها كشريك في عالم السياسة.

هذه الطوفانات الجماهيرية المتعاقبة»؛ سوف تطبع بطابعها التاريخي السياسي والاجتماعي العراقي الحديثء الذي يبدأ من العام 1958 ويتواصل حتى سقوط بغداد في العام 2003؛ ولكن لتضفي عليه شيئاً من مميزاتهاء فهي جماهيريات عنيفة متتصادمة انطلقت ولم يعد بالإمكان السيطرة عليها أو تفكيك تناقضاتها الداخلية» ولا وقف صدامها مع بعضها البعض. فهل يمكن للمرء أن ينظر إلى الجماهير الجديدة التي تبزغ اليوم كقوة اجتماعية؛ تحركها اهتمامات ثقافية مختلفة وفوق ذلك تغيّر وإلى حد بعيد مزاجهاء وربما حدث تحول في ميوها وتوّراتها وأفكارها؛ بمعزل عن حقيقة أن مكانة الحزب الجماهيري العقائدي» الذي عاش وسط الجماهير منذ ما يزيد عن نصف قرن وقدم نفسه وما يزال كمعبر عن همومهاء قد تراجعت وتدهورت في العالم العربي؟ وبماذا ينبئ هذا التبدل؟ إن المثال العراقي خليق تقترحه هذه الدراسة؛ خليق بأن يؤسس لقاربة نقدية ترتكز إلى إعادة بناء فكرة العلاقة بين الحزب والجماهير والمعرفة في إطار تاريخي وثقاني مغاير» من أجل معاينة الطرائق والأساليب التي اتبعها الحزب وما يزال في عمله ونشاطه داخل المجتمع. ْ

-36-

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

وهل هناك ما يجمع بين الجماهير التى تحتشد في الشوارع خلال حفل موسيقي ( السوبر ستار) وبين الجماهير التى تحتشد ني الشوارع خلال حفلات طقوسية ‏ دينية» وفي وقت سقطت فيه البلاد تحت الاحتلال؟ وهل هناك حقاء ما يجمع بين أعضاء هذه التجمعات؟ إن الحفل الموسيقي في بيروت ودمشق وعمان. مثله مثل الحفلات الطقوسية في بغداد والنجف. بإيقاعاتها وأغانيها الدينية الحزينة؛ يكشف عن وجود مثل هذا التبدّل. كما يكشف في ال مقابل» عن تحولات وتغيرات جذرية في الأنفاط الثقافية السائدة» التى لم يكن ليُعرف بها من قبل أو يجري إخضاعها لعمل نقدي يلاحظ الأسباب والبواعث من دون تزوير.

سأرسم ‏ هنا وفي الفصل الأول من الكتاب. إطاراً تاريخياً لولادة هذه الجماهيريّات الثلاثة ولولادة أحزابها العقائدية: الحزب الشيوعيء البعث» وحزب الدعوة الإسلامية من أجل مقاربة جديدة للأفكار والاهتمامات الحيوية في أوساط الجماهير كما قدمتها التجربة العراقية.

عندما ولد الحزب الشيوعي العراقي في 31 آذار/ مارس 1934 كانت العقيدة الجماهيرية ترسخ على صعيد كوني» مع ظهور أحزاب شيوعية خارج الاتحاد السوفياتي ( السابق) برزت بفعل قوة وجاذبية النموذج العالمي والنضالي للثورة الروسية الكبرى 2.1917 وبفعل إغراء الأفكار الجديدة عن عصر الجماهير الثائرة. وكان أمراً لافتاً في التاريخ الاجتماعي والسياسي العراقي» في هذه الآونة أن مؤسس الحزب وقائده يوسف سلمان يوسف ( فهد ) كان يجمع إلى جانب كونه مسيحيأء ميزة أخرى: إنه عاش شطراً من حياته الشخصية والسياسية في بيئة شيعية خالصة» وذلك عندما كان لا يزال إذ ذاك مثلاً للحزب الوطني العراقي في الناصرية جنوب العراق» وهي مرتع تقليدي

-37-

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

من مراتع الجعفرية ( بمفومها الشعبي - الفلاحي وليس بُفهومها الفقهي التقليدي) التى لم تلامسها السياسة أو التطلعات الأنانية والانتهازية والحسابات التكتيكية بعد.وبالفعل؛ فقد كان المذهب الجعفري في العراق يتبلور داخل بيئاته الفلاحية الجنوبية» كقراءة شديدة العاطفية للإسلام» وتماما كما ولد في المدينة المنورة على يد الإمام جعفر الصادق. أي خالياً من أي نزعة طائفية. لقد كانت جعفرية طاهرة وبريئة من الأهواء السياسية والأوهام الطائفية.

هذه المصادفة لم تكن دون دلالة ‏ بالنسبة لفكرتنا في مطلع الكتاب ‏ فالحزب نشأ أصلاً في بيئة الطائفة» التى سوف يظل حريصاً على عقد التحالفات مع أحزابها أو التعاطف مع مطالبهاء وذلك ما سوف تكشفه سلسلة من الوقائع تالياً.

على العكس تاماً من ظروف ولادة الحزب الشيوعي العراقي» ولد البعث بعد نحو ثلاثة عشر عاماً ( في العام 1947) خخارج العراق وفي بيئة عربية سنية خالصة. كان مؤسس الحزب وقائدة التاريخي ميشيل عفلق من مسيحبي سورية؛ وقد جمع من حوله طلاباً ومثقفين من سورية والوطن العربي في مقهى الحافانا بدمشق, قبل أن يُعلن دمج البعث بحزب أكرم الجوراني ( العربي الاشتراكي) ليولد حزب البعث العربي الاشتراكي في صورته الراهنة. هذه المصادفة» بدورهاء ذات دلالة خاصة في سياق فكرتنا الآنفة؛ الأولى تلازمت مع نمط من توزع ثقاني داخل المجتمع؛ ربما يكون له تأثير من نوع ما على ترّسخ الصور والانطباعات التالية بخصوص الصبغة الطائفية. إن دراسة الأثر الذي تُخلفه ولادة الحزب في بيئة ثقافية بعينها على تصوراته وأفكاره وتوجهاته وشبكة اتصالاته مع الجماهير أمر هام للغاية؛ فهي ستبين إلى أي حد ودرجة» من الممكن فيها للرموز الثقافية الشعبية أن تصبح لا ذات تأثير

- 38 -

الفصل الأول : الأحمر؛ والأبيضء والأسود

فكر الحزب وعلى الثقافة السياسية لأعضائه وحسب. وإنما قادرة كذلك على أن تطبع بطابعها فكر الحزب وربا سياساته برمتها.

ففي حين استلهم الشيوعيون العراقيون نموذج التضحية الشيعي وقاموا بتصعيده إلى مستوى الإستضحاء؛ الذي يعني الموت في سبيل هدف قد لا يتطلب الموت؛ ثم قاموا في وقت مبكر من نشاطهم باستثماره في حقل السياسة» لأجل تعميق ونشر ثقافة التضحية وتعميمها في ا جتمع على نطاق واسع. فقد قاموا ‏ فعلياً ‏ بتدمير وتحطيم الفرد. لقد زرعوا عبر هذا الاستثمار المبكر للثقافة الشعبية في حقل السياسة؛ بذور الفكرة الرهيبة ذاتها: إن السياسة؛ مثلها مثل الطقوس الرمزية الشيعية» لا تعنى شيئاً سوى الموت في سبيل الحزب والتضحية من أجل مبادئه. بل وجرجروا من خلفهم جماهير آمنت وفهمت السياسة على أنها الموت في سبيل الحزب والقتال من أجل نصرة أفكاره. لقد تجلى الحزب حتى في أعين شعراء الحزب ومثقفيه ‏ وهذا جلي في الكثير من النصوص الأدبية والشعرية ‏ في الصورة ذاتها: الشهيد. وهذه الفكرة مُستمدة بصورة مباشرة من الراسب الثقافي لصورة الشهيد في الثقافة الشعبية الشيعية.

في الخمسينات - مثلاً ‏ كان الشيوعيون يقودون بعض المواكب الحسينية في النجف وكربلاء والكاظمية وهي المراكز الشيعية الرئيسية» التي يشهد فيها العراقيون طقوس التضحية في عاشوراء ( العاشر من محرم). كانوا يمارسون عملياًء وبأنفسهم طقوس التضحية:؛ لا لأنهم يؤمنون بالعقيدة الدينية للشعب» بل من أغراء الجماهير وتشجيعها على الالتحاق بالحزب؛ وحملها على التصديق بأن نموذج التضحية الشيوعي مُمائل ومُطابق لنموذج التضحية الشيعي» وأن الفرق الوحيد بين النموذجين هو أن أحدهما شديد الواقعية

-39© -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

والدنيوية. في هذه الأثناء قام فرع البعث في العراقء في المقابل» باستلهام نموذج الإسلام الأول البطولي والرسالي» كما تصوره عفلق نفسه في دراسته المقتضبة عن الرسول العربي محمد والتى نادى فيها بأن يتصرف كل عربي على أنه محمد آخرء بُعث من جديد ليستكمل رسالة العرب الحضارية. وفي وقت تال ومع تطور البعث وبروز قيادات سنية عربية وعراقية» بدا من الواضح أن الرموز الشعبية السنية كانت أكثر قابلية لأن تستلهم كرموز سياسية عصرية داخل عقيدة البعث. وهكذا انتشرت في أفكار البعث الأولى داخل العراق وحتى وقت طويل تالء النماذج الفروسية في الإسلام. والتي جرى تقديها للجماهير على أنها الصور المنشودة للعربي الجديد.

طوال الحقبة الممتدّة من العام 1947 حتى العام 1958: وعلى امتداد نحو أحد عشر عام راح الحزبان يتنازعان للاستيلاء على الجماهير وتتصارع ( اشتراكيتيهما) السوفياتية والعربية داخل بيئة من الرموز الإسلامية» ولكن بمكونات ودلالات طائفية مبطنة» غير صريحة أو مكشوفة؛ من أجل البرهنة على أن واحداً منهما فقط» ودون سواه هو الجدير بلقب حزب الجماهير؛ وإن الآخر ليس سوى المسيح الدجال. قد تبدو هذه الّصادفات التى رافقت ولادة الحزبين الجماهيريين في العراق؛ عديمة القيمة بالنسبة للعقائديين ولكتاب التاريخ السياسي من التيار التفليدي السائد, ولكنها في الواقع؛ ذات دلالة هامة كما ستبرهن الأحداث, وعميقة في دراسة من هذا النوع. إن رؤية المكونات المثيولوجية والثقافية القديمة الراسبة في مفهوم السياسة والعمل السياسي الراهن؛ قد تساعد على فهم الكثير من الجوانب الغامضة من الأحداث.

- 40 -

الفصل الأول : الأحمر؛ والأبيض, والأأسود

في الواقع لا يملك الباحث في هذا الحقل؛ ما يكفي من الوثائق والمواد اللازمة لفحص فكرة الحزب الجماهيري عن نفسه وعن أفكاره الجماهيرية, فهو شديد التكتم على هذا الجانب من صورته. وبالكاد يمكن للمرء أن يعثر على صور دقيقة تشرح أو تفسر فكرة الحزب عن نفسه في هذا النطاق من الموضوعء الذي فُهم على الدوام من منظور وحيد وضيق؛ سياسّوي في الغالب الأعم. ومع ذلك بوسع الباحث وبقليل من الصبر وكثير من التأمل أن يتوصل إلى قراءة فعالة للتراث الضخم الذي تركته الأحزاب الجماهيرية لناء وهو تراث مؤسف في معظمه من بيانات ومقالات حماسية وتحريضية ودراسات فكرية وخطبء عن المشكلات والأزمات التى رافقت ولاداتها ونضاهاء ما يمكن من النفاذ إلى عمق الفكرة الآنفة. ولذلك سأواصل - كما فعلت في كبش المحرقة ‏ النظر إلى العلاقة بين المخزن الأسطوري في الثقافة العربية والسياسة؛ لرؤية التأثير الذي خلفته المثيولوجيا الشعبية في أيديولوجية الحزب وفي وعي مؤسسيه وأفراده لأدوارهم التاريخية. لقد كانت المثيولوجيا الشعبية حاضرة بقوة في أفكار الحزب الجماهيري»؛ وهو استمد رموزها الكبرى وتعلق بها وربما افتن بهاء بفعل عوامل نشأته داخل البيئة الطائفية.

إن سنوات تأسيس الحزبين الشيوعي والبعث وانطلاقتهما في الحياة الخوبية والسياسية» هي ستوات ماابعد احتلال العراق وستوات خضوعه للإرادة الاستعمارية البريطانية بشكل مباشر أو من وراء الستار. وهذا أمر له دلالة بالغة إذا ما نظر إليه من منظور الحدث نفسه. الذي تكرر ‏ على نحو ما - مع سقوط بغداد 2003 عندما عاد الحزبان رمزياً إلى ( بيئتيهما) القديمتين» وإلى الحاضنتين الطائفتين وليس إلى الشعب. وذلك من خلال حضور سياسي لافت في مناطق بعينها. وهذا ما عنى ‏ من المنظور الرمزي نفسه ‏ مواصلة للصراع

1

الفصل الأول :5 الأحمسر والأبيض, والأسود

بين الحزبين ولكن عبر نقله إلى مستوى جديد. وبالفعل؛ فإن الصراع الراهن ضد البعث. حيث يقود الحزب الشيوعي العراقي بعض الجبهات الويديولوجية قدري بين الحزبين. وتلكن» هذه المرة حدث تبدل جوهري له ظروف العمل السياسي.

ففي التاسع من نيسان 2003 خرج البعث مُرغماً من السلطة. وعاد أدراجه إلى العمل السري من جديد بعد عقود من العلنية ولكن في البداية داخل الوسط السني؛ الذي قدم له الحماية والرعاية اللازمة؛ مُتخلياً عن حلمه في الاستيلاء على الجماهير بعد نحو 35 عاما من السيطرة الفعلية عليها. وفي هذا اليوم أيضاً قفز الشيوعيون بفضل تحالفهم مع الأحزاب الشيعية وتملقهم للاحتلال ومن خلال اشتراكهم ني مجلس الحكم. إلى واجهة الأحداث كممثيلين عن الشيعة وليتصرفوا كحزب علني» بعد زهاء أربع وعشرين عاماً من العمل السريء» ولكن من دون تخليهم عن حلم استرداد الجماهير. وأنضح منذ صباح التاسع من نيسان؛ أن الحزبين» البعث والشيوعي وعلى حد سواء. كانا من هذه الناحية تحديداً وعلى هذا الصعيد -غارقين في الوهم الجماهيري. فلا الجماهير هبت عن بكرة أبيها لصد الغزات وحماية الوطنء أو حتى حماية حكم حزب البعث من السقوطء ولا هي اندفعت لتستقبل معشوقها الشيوعي القديم الذي أفنى شبابه سقيما في حبها. ( لم يكن هناك بعد نحو خمسة أشهر من سقوط بغداد سوى بضع مئات هم كل جماهير الحزب الشيوعي). وكما أن البعث لم يجد من ملاذ آمن لقيادته أو ما تبقى منهاء سوى المقاومة الباسلة والبطولية التي ادها ضد الاحتلال 210 فإن

- 42 -

الفصل الأول : الأحمر والأبيض, والأسود

الشيوعيين ل يجدوا أمامهم سوى البيئة الشيعية التى ترعرعوا فيها ‏ وهذا حقيقي أيضأ - لقد عادوا يقدمون أنفسهم من جديد بوصفهم ممثلين لماء بعد أن قبلوا بفكرة بول بريمر: أن يدخل الحزب الشيوعي ضمن حصة الشيعة.

أريد في هذا السياق أن أقدم الرواية التالية الصحيحة والموثقة» والتي يتداولها أعضاء سابقون في مجلس الحكم المؤقت ومعهم قادة الحزب الشيوعي العراقي أنفسهم, عن الطريقة التي دخل فيها هذا الحزب إلى المجلس. إن قيمة الرواية من المنظور التاريخي تتحدد هنا: أنها تقدم تصوراً ملموساً عن الكيفية التي تصرف فيها الحزب الجماهيري العائد من المنفى إزاء جماهيره التي ظلت تننظر عودته بفارغ الصبر كمخلص أسطوري.

عندما قرر بول بريمر الحاكم المدني الأعلى للعراق» التخلي عن صيغة امجلس الاستشاري وتشكيل ( مجلس حكم مؤقت ) بإدارته ويكون خاضعاً للفيتو الذي احتفظ به لنفسه؛ جاءه السيد مسعود البارزاني زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني ومعه صديقة الكردي عزيز محمد الأمي العام السابق للحزب الشيوعي العراقي. قدم البارزاني صديقه عزيز إلى بريمر راجيا منه أن يوافق على دخول الشيوعيين في المجلس.

كان بريمر قليل الخبرة في الشؤون الحزبية العراقية» ولكنه كان فطناً للغاية بحيث تلقف فكرة البارزاني وفهم مغزاها ودلالاتها المباشرة. أمضى بريمر الوقت القصير المخصص للمقابلة في مجاملات شخصية مع ضيفيه واعدأ بدراسة الاقتراح. في اليوم التالي مباشرة أرسلا بريمر موفدا منه لإبلاغ الحزب الشيوعي الرسميء وتحديداً إبلاغ أمين الحزب العام حميد مجيد موسى ‏ وهو أمي عام يروّج عنه مخاصموه أنه زعيم دمية ‏ بأنه راغب بمشاركة الشيوعيين في امجلس. وبصرف النظر عن أهمية المزاعم عن ضعف شخصيته وتبعيته

- 43 -

الفصل الأول 0 الأحمسر والأبيض, والأسود

للآخرين» فإن الأمي العام للحزب كان يقود حزباً مُعترفاً به. قال موفد بريمر بلهجة لا تخلو من الأمرية: إذا كنتم راغبين في دخول المجلس فليكن ذلك ممثلاً في شخص الأمي العام للحزب وليس عضو آخر؟. كان اقتراح دخول الشيوعيين في امجلس قد تبلور طوال الليلة السابقة على أساس طائفي: أن يدخل الشيوعيون ضمن الحصة الشيعية ( صيغة 13 مقعدأً) بحيث يشغلون المقعد الرابع عشر. وحين استمع موسى إلى كلمات موفد بريمره رد بأنه سوف يستشر قيادة الحزب. لكن هذا بادره بسرعة: ليس لدينا الوقت الكاني لذلك. عليكم أن توافقوا الآن وفورأء أو أننا سنضع عزيز محمد في المقعد المخصص لحزبكم؟ ولم يكن لدى موسى نفسه الوقت الكافي لاستشارة قيادة الحزب. ولكنه نجح في عقد اجتماع عاجل لعدد محدود من القادة» صوتوا بالإجماع لصالح الدخول ضمن الحصة الشيعية ( المقعد الرابع عشر). إن هذه الرواية تختزن دلالات عدة ليس أقلها أن الحزب الجماهيري والشعب. قد استفاق أثناء الحدث الحلعي ( سقوط بغداد) ليكتشف الحقيقة المروعة التالية: أنه ليس حزياً جماهيرياً بأي مقياس؛ بل هو حزب هامشي من أحزاب الطائفة الشيعية. لقد عاد الحزب بعد نحو سبعين عاماً من تأسيسه في الناصرية إلى بيئته الأولى وحاضئته الطائفية.

ماذا يعين ذلك؟. يمكن القول أن الحزبين. ربما كنا يعيشان طوال الوقت وتحت ضغط هذا الواقع - نوعاً من الأوهام الأيديولوجية. وأن فكرة كونهما حزبين جماهيريين هي فكرة يلزمها الكثير من التدقيق لتحديد معنى الجماهيرية؟

تاريخياً شكل الشيعة داخل الحزب الشيوعي العراقي أغلبية شبه مطلقة. بينما شكل أهل السنة أغلبية شبه مُطلقة أيضاً داخل البعث. هذه الحقيقة قد تكون مفتاحاً مناسباً للتدقيق في معنى الجماهيرية.

- 44 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

يلاحظ سامي زبيدة ( الإسلام: الدولة وامجتمع) ' أن الأحزاب القومية في العراق» وخصوصاً حزب الاستقلال الذي نشط في الأربعينات والخمسينات من القرن الماضيء كانت في الغالب أحزاباً سنية ولكن قومية الناصرية وقومية البعث الراديكاليتين اللاحقتين» اجتذبتا بالفعل؛ كثيراً من الشيعة؛ وكانت قيادة البعث في الخمسينات تضم كثيراً من الشيعة. على المنوال ذاته كان الحزب الشيوعي يضم العديد من السنة في قيادته. واستناداً إلى بطاطو» رأى زبيدة أن ارتباط الشيوعيين تنظيماً ونشاطاً في المدن الشيعية لجنوب العرق. بما فيها النجف وأحياء بغداد الشيعية» ومن الواضح ان

الأكثرية العظمى من سكان هذه المناطق الشيعية لم يكونوا متعاطفين بصفة خاصة مع الشيوعية ولكن يمكن الافتراض بأنه لم يكن هناك عداء للشيوعيين؛ قوي بما فيه الكفاية لطردهم من هذه المناطق. بصدد هذه النقطة يعزو زبيدة > هذا النمط من التعايش بين الجماهير الشيعية والعقيدة الشيوعية

'- زبيدة ( سامي) الإسلام: الدولة والمجتمع» ترجمة عبد الإله النعيمي دار المدى, دمشق 1995. إن الواقعة التي بنى عليها زبيدة تصوراته عن موقع الشيعة التجاري» مقروءة بطريقة استشراقية وخخاطئة ومضللة» وذلك حين تخيل أن اليهود كانوا يسيطرون على النشاط التجاري ني العراق» بينا تشير الوقائع على العكس من ذلك إلى دور محدود. كما أن زبيدة يرد أسباب النحسار هذا الدور إلى تهجير اليهود من العراق.حيث حل التجار الشيعة محلهم. في الواقع ليس ثمة دلائل قاطعة تؤيد هذا الاستنتاج الممُسرعء فالتجار الشيعة رسخوا أقدامهم في عالم النشاط التجاري لساري موادي ال كرك وال رركتي اا و كاك وها ا ا عن أربعمائة عام من الآن على الأقل. ويبدو أن يهودية زبيدة لعبت, في هذا الإطار» دوراً من نوع ما لصالح التشبث بفكرة استشرافية تعررت إبان اسجلال العراق عام 1917» هندما وار سجال عنيف داخل الدوائر البريطانية الاستعمارية؛ حول ما يُدعى أنه وقائع تاريخية ص دور اليهود العراقيين. آنذاك قال سايكس ومود فكرتهما الشهيرة ( إن بغداد مدينة يهودية) استناداً إلى فرضية النشاط التجاري. وكما يُلاحظ هناء فإن لمن الصعب مناقشة هذا الإدعاء في كتاب مكرس لموضوع مختلف.

* زبيدة ( سامي ) مصدر مذكور

- 45 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

في العرق منذ الخمسينات؛ وحتى مع وجود بيئة غير متعاطفة أو تنعدم فيها فعلياً التضامنات السياسية البارزة والملحوظة؛ إلى الميل التقليدي لسكان المناطق الشيعية السياسية بمعناها التجريدي العام» هو عامل يبدو كافياً لمنع وقوع الصدام بينهما. ولكنه يلاحظ مع ذلك أن غالبية الففئات إما أنها كانت ( لا سياسية) أو لا مبالية» وأن بروز الشيعة في عالم السياسة ليس مردّه وجود انتماء معين يطبعهم بطابعه؛ بل مرده هذه المشاركة العامة في السياسة» ولذا:

وبدلاً من القول أن لديهم ميلاً إلى الشيوعية سيكون من الأدق القول أن لديهم ميلاً إلى السياسة.

توضح هذه الفكرة بجلاء الكيفية التى نشأت فيها تاليأء الروابط التضامنية بين سكن المناطق الشيعية والحزب الشيوعيء بحيث أمكن مع الوقت استثمار الميل الشعبي والتقليدي للسياسة. بما هي شان عام وتحويله إلى منطلق أساسي من منطلقات تأسيس بيئة أكثر تقبلاء أو تصالحاً مع أفكار شيوعية بعينها رخصوصاً الأفكار العمومية للعدالة والاشتراكية. ولذلك بدأت تنخفض منذ الخمسينات؛ أعداد السنة العرب في الحزب الشيوعي لصالح صعود قيادات كادرات وسطية شيعية مصدرها هذه المناطق» وذلك مقارنة بالأربعينات من القرن الماضي مع بداية تأسيس الحزب. يستند زبيدة» مرة أخرىء إلى بطاطو في تقرير أهمية هذا التبدل فيرى أن ارتباط الشيوعية بالشيعة في مناطق العراق العربية. ظل يرتكز وبشكل حاسم إلى قوة حضور الشيوعيين.

على الطرف الآخر كان الشيعة في حزب البعث ومنذ الستينات» يفقدون قوة حضورهم في القيادة» وتتراجع نسبتهم العددية لصالح صعود قيادات وكادرات سنية. سيبلغ هذا التبدل ذروته مع صعود ما يُدعى القيادة

- 46 -

الفصل الأول 0 الأحمسر والأبيض, والأسود

التكريتية في السبعينات حسب تعبير زبيدة بعد سلسلة من التطهيرات الداخلية - وأنا شخصياً لا أوافق هنا على هذا التعبير السخيف -. لقد حدث ما يماثئل حركة تصحيحية في الأوضاع الداخلية للحزبين الجماهيريين» برهنت على نوع من الالتزام بأسس وقواعد التنشئة الأولى» إذ تقلصت أعداد الشيعة في البعث (السني) بينما تقلصت أعداد السنة في الحزب الشيوعي ( الشيعي). وبذلك عاد الحزب الشيوعي العراقي» ابتداء من ثلاثينات القرن الماضي حين كانت الأغلبية في القيادة الحزب من أهل السنة وحتى الخمسينات ثم مطلع الستينات» حين أضحت قيادة شيعية بأكثريتها العددية وأكثريتها ني الكادر الوسيط وال حلقات التنظيمية الأصغرء ليعبر» وبنفس الدرجة من الإلحاح والوضوح والقوة» عن الواقع الجديد في حياته الداخلية. لقد عادا معأء كل إلى بيئته» ليتخلصا من الإختلالات العددية للتمثيل الطائفي» ومن أجل أن يتمكنا من التعبير عن المعنى الحقيقي لجماهيريتهما بوصفها جماهيرية الطائفة لا الشعب. وسنرى تاليا كيف أن الثورة الإيرانية» قامت من الناحية الإجرائية» بتنشيط الميل إلى السياسة في الوسط الشيعي العراقي» حتى مع تعاظم هيمنة البعث على البلاد. من هذا المنظور ستبدو الثورة الإيرانية بوصفها أكبر عملية تنشيط للميول السياسية عند شيعة العراق. لقد أيقظت فيهم وبشكل جماعي؛ ميلا إلى الدخول بقوة إلى حقل السياسة.

والآن» ولأجل فهم أعمق للتمايزات المفهومية» بين الجماهير والشعب» سنضع هذه التصورات في في إطار تاريخي ونظري.

إن العلاقة بالجماهير» كما لاحظت الفيلسوفة الألمانية حنة أرنت وهي على حقء علاقفة ملتبسة. لقد برهنت أحداث كبرى في التاريخ البشري على أن الجماهير يمكن أن تكون مصدر خطر حقيقي على الديمقراطية. وباستخدام

- 47 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

تعبير أرنت؛ فإن علاقة الجماهير بالنازية والستالينية مثلأء كانت علاقة حميمة وكان هتلر وستالين على حد سواء. معبودين مُطلقين للجماهير. في هذا النطاق؛ يمكن للمرء أن يشرع في وضع سلسلة من التأملات الخاصة بمسيرة الثورة الجماهيرية الإيرانية الكبرى؛ التي أسقطت شاه إيران عام 1979. ليُعيد وضع الإمام الخميني في صورته الفعلية كمعبود للجماهير. كما يمكن للمرء أن يقوم كذلك. بإدراج الصورة الحقيقية للجماهير الإيرانية نفسها. كمصدر من مصادر تأسيس الاستبداد. تامأ كما حدث مع الشورة الجماهيرية الكبرى في فرنسا عندما حولت الجماهير مبادئ العدالة والمساواة إلى مبادئ شعبية للإرهاب والقتل والتصفيات الوحشية. وهذا عينه ما حدث مع الثورة الصينية الجماهيرية أو ما يعرف بالمسيرة الكبرى التى قادها ماو تسي تونغ» حيث انتهى المطاف بالنضال ضد الإمبريالية اليابانية وعصابات تشان كاي شيك. إلى قيام توتاليتارية عقائدية» قوامها عبادة الفرد لا سابق لها في الثقافة الصينية. كانت الثورة الفرنسية في العام 1789» ثم كومونة باريس في 28-18 آذار/ مارس 1‏ وهي عاشت 72 يوماً فقط) أكبر ثورتين جماهيريتين في أوربا قبل أن تعقبهماء بأقل من سين عاماء الثورة الروسية في مطلع القرن التاسع عشرء ثم الصينية في النصف الأول من القرن من القرن نفسه. وأخيرأًء خاتقة الشورات الجماهيرية: الثورة الإيرانية على أعتاب نهايات القرن العشرين.

هذه الثورات الأربع الكبرى التي تجلت فيها العقيدة الجماهيرية» ولنقل تجسدت بأبلغ الصور؛ تقدم فكرة دقيقة عن السلوك المأسوي للجماهير» حين فضي بها حماساتها المطلقة والعفوية وغير المسيطر عليهاء من أجل إعلان الثورة على الطغيان وفي سبيل مبادئ جديدة للحرية؛ إلى نشوء وقيام أنظمة توتاليتارية رهيبة. لقد أصبح قادة الكومونة العمالية الباريسية مثلأء بمصاف

- 48 -

الفصل الأول 0 الأحمر والأبيض, والأسود

أنصاف الآلة في أعين الجماهير الفرنسية» كما سوف يصبح ستالين في الشورة الروسية معبود الحزب والجماهير. أو كما سوف يصبح ماو في الثورة الصينية معبود الجماهير الفلاحية والشقيقة» أو مثلما سيغدو الخمينى في الثورة الايزانية لا معيرة رجال:الديى:والقياة السحوزيق' بإطرافتة الطورلة وصحتهة بل الرجل الأكثر قداسة بالنسبة للجماهير في التاريخ الإيراني برمته. انتهت سائر الثورات الجماهيرية الكبرى في التاريخ المعاصر إلى أهداف»؛ هي بالضد تمامأ مما كان الجتمع ينشده؛ مع أنها قامت بدعاوى الاستجابة لتطلعاته.

هل يحملنا هذاء على غرار ما فعلت حنة أرنت» على مفاقمة التمييز بين

برأي أرنت إن الجماهير ليست نتاج نوع من أنواع التشكل الطبقي؛ بل على العكس من ذلك هي نتاج نمط من التحلل الطبقيء أي نتاج تهتك وتمزق العلاقات والبنيى والروابط الجامعة للأفراد. بكلام آخر: فإن ما يُميز الطبقة عن الجماهير هو أن الأعضاء في الأولى ينتظمون في سياق بنى اجتماعية واقتصادية - علاقات إنتاج - وفي إطار سلسلة مترابطة وموازية من التقاربات والتمائلات» التي تسمح برؤيتها ( ككل) واحدء بما في ذلك التشابه في أنماط العيش وربما الثقافة والاهتمامات. بينما لا يوجد ما يجمع بين الجماهير من الناحية الفعلية: سوى تصورها ككتلة هلامية كما ترى أرنت. على العكس من نموذج الطبقة النظري والواقعي» تبدو الجماهير نتاج تخيل أيديولوجي, ونتاج تصورها كحقيقة سياسية بالدرجة الأولى. ولذلك لشد ما تبدو الجماهير كما لو كانت اختراعاً سياسياً لا وجود له من الناحية الواقعية» ولكنه موجود في صورة أخرى: صورة أعضاء من طبقات شتى داخل كتلة هلامية؛ قابلة للتشكل في صور محتملة أو حيث يجري جذبها والاستيلاء عليها عقائدياً. إنها يمكن أن

- 49 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

تكون ججماهير فاشية تعطلي صوتها لهتلر ( كما فعلت الجماهير الألمانية في انتخابات الرايخشتاخ حين صوتت بما يشبه الإجماع لصالح حزب هتلر ودعمت صعوده وقامت بترسيخه) فهو معبودها ومّلهمها. أو أن تكون جماهير شيوعية وجدت في خضوعها لستالين» واجبأ أخلاقياً يفرضه برتوكول الخضوع غير ارم بين الساحر والمسحور. إنها تخضع لزعيمها ال حبوب وتتعبّد صورته الساحة» كما فعل الروس والصينيون مع ستالين وماو, لا لأنه يمثل تطلعاتهم بل بدرجة أكبر لأنه يمثل تصوراتهم عن المخلص الأسطوري والزعيم المنتظر.

تلاحظ حنة أرنت أ2ء الجماهير الأوربية كانت نناج حقبة من التحلل الطبقي بعد الحرب العالمية الأولى» بل ونتاج أزمة كبرى عرفتها أوروبا آنئلن واتسمث بنمط جديد من أزمات القيم الأخلافية والبطالة؛ الى سوف تدفع بأعضاء جدد كل يوم مع تفكك علاقات الإنتاج؛ ليلتحقوا بالكتلة الحلامية ذاتها الُسماة الجماهير. ولذا تشكلت العلاقة بين الجماهير والزعيم المحبوب على أساس أسطوري. إنه المخلص الذي جاء أخيراً لينتشلها من العذاب.

استناداً إلى بطاطوء درس زبيدة مثال الانقسام السنيى ‏ الشيعي في العراق ( ص: 155). ولكنه بالكاد توقف خارج الفكرة الجوهرية التى لامسها بطاطو نفسه» ومع ذلكء فإن قيمة النموذج الذي درسه زبيدة» وهو يهودي عراقي مقيم في لندن» تظل ذات أهمية خاصة نظراأً لكونها أول محاولة فعلية» لإحداث خرق في جدار التمنع شبه الضمني بين النخب العراقية» وتوافقها غير المعلن على عدم ملامسة أو الاقتراب من هذا الجانب الرخو والحساس من المعضلة» وربما توافقها غير المعلن كذلك على أن لا تولي هذا الجانب أي أهمية تذكر. وفي هذا التمنع ما يكفي من البراهين على إخفاق النخب العراقية في قراءة واقعها قراءة جذرية وانعدام جرأتهاء وحساسيتها المفرطة حيال الطبيعة المشة والخاصة للنسيج الاجتماعي العراقي.

- 50 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

يُقسم زبيدة من منظور طبقوي النخبة الشيعية فيلاحظ وجود ثلاث فئات:

تجار المدن المقدسة مثل كربلاء والنجف والكاظمية. وتجار بغداد والمدن الجنوبية. ثم الملاك ‏ الشيوخ ‏ من عشائر الجنوب.

فيما يتصل بالفئة الثانية ( التجار ) يعزر زبيدة ومن دون دليل كاف أو حقيقي» صعود دور التجار الشيعة في الحياة الاقتصادية والسياسية. إلى الفراغ الذي تركه اليهود العراقيون بعد تهجيرهم في أوائل الخمسينات. هذه الفكرة تتردد حرفياً في كتاب يهودي عراقي آخر محتص بتاريخ الشيعة هو اسحق نقاش ( شيعة العراق ‏ دار المدى» دمشق 1966, ص: 414) *. وبالطبع ليس في هذا التفسير سوى القليل من الصواب والكثير من المغالطات, لأن دور ونشاط التجار الشيعة في الحياة الاقتصادية أكثر ارتباطاً بالمكونات التاريخية للمذهب الشيعي الصفويء؛ الذي ساعد سقوط بغداد في إسماعيل شاه 0 على انتشاره في العراق» وذلك عندما أصبح سيد إيران الجديد سيداً للعراق ايض يعد ضمة إل الفركن الايزانى. إن الحقبة الممتدة من 1510- 4. أي الحقبة التي شهدت ضم العواق رسمياً إلى البلاط الإيراني ووفاة إسماعيل شاه الصفوي؛ اتسمت بكونها أطول فترة من السلم والهدوء في العراق المحتل» وكان تأثير العتبات المقدسة في النجف وكربلاء والكاظمية في هذا الوقت» يتجاوز حدوده الدينية التقليدية ليصبح تأثيراً تجارياً قوياً على النشاط الاقتصادي برمته.

0 0 0 شيعة “عر ترجمة عبد بد الوله التعيمي» دار المدى - دمشق 6ظظ10 3 كتاب زبيدة ف طرح رؤى استشراقية عن دور اليهود العراقيين. كما أن منهجيته التاريخية مقبولة إلى

61

الفصل الأول : الأحمرء؛ والأبيض؛ والأسود

ولذا سيرى المؤرخ في هذه الحقبة» نموذجاً دراسياً ممنازاً للكيفية التي تشكلت فيها أولى القوى الاقتصادية داخل الطائقة الشيعية في العراق الحتل. لقد جذبت إصلاحات إسماعيل شاه الصفوي. والتىي شملت ترميم ونحسين بيئة العتبات المقدسة» وعملية إلحاق العراق بالعرش الإيراني» كذلك. لا جماعات شيعية إيرانية مُتلهفة ومُتعطشة لزيارة الأماكن المقدسة؛ التى حُرموا منها في عصر الاحتلال التركي للعراق وإنم أيضاً ‏ وهذا هو الأمر الام طبقة من التجار الإيرانيين الباحثين عن شركاء ووسطء في العراق الغني ليتركوا بين أيديهم مهمة إذارة نشاط تحار بالنبابنة عنتهم , سيلعت فنؤلاء الوسطاء والتجار الصغار من أبناء الشيعة في العراق ( الإيراني) تاليأء دوراً حاسماً في تنشيط الميول داخل فئات جديدة من مجتمع الاحتلال؛ للا نخراط بالتجارة وفي تسريع وتيرة اعتناق القراءة الويرانية للوسلام.

عنى هذا الأمرء من زاوية نقدية» إغراقاً للقراءة الجعفرية للإسلام في العراق بطوفان من التأويل الصفوي المثيولوجي, الذي امتزجت فيه بقايا من عقائد وأديان إيرانية قديمة. وهذا هو سر التجذر العميق للمثيولوجيا الويرانية في كتب الفقه الشيعي الصادر خلال هذا الوقت وحتى اليوم. على هذا النحو انتشر المذهب الصفوي وتلازم مع تكون ونشوء طبقة جديدة من التجار الشيعة المتعاونين مع المستعمر الإيراني بدوافع مذهبية وثقافية» والذين سوف يواصلون لعب هذا الدور ببراعة فارضين سيطرتهم التدريجية على السوق» ومُستغلين وجود الصفوية السياسي والمذهي. إن الأمر الجوهري الذي لم ينتبه غليه زبيدة ولا نقاش كذلك, هو أن نفوذ الصفويين في العراق جذب في هذه الآونة» حتى الجماعات الفلاحية من أبناء العشائر الجنوبية» وأنه خرج عن نطاق المدن المقدسة أو التجارية واتجه صوب الريف وبقوة. ولكن بعضاً من

5

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

هؤلاء ولاعتبارات عدة» سينتقلون من عالم الزراعة إلى التجارة ليعيشوا في المدن الصغيرة تاركين الأرياف. من أجل ذلك يتوجب استبعاد فرضية زبيدة ونقاش عن الصلة بين تعاظم الدور التجاري لفئة من الشيعة في العراق بتهجير اليهود.

المؤكد أن التجار الشيعة ظلوا يتوارثون ويحتفظون بدورهم التجاري منذ العام 1510 بدرجات متفاوتة» حين اعتنق كثرة من العراقبين الشيعة؛ ولنقل تقبلوا المذهب الصفويء وتقبلوا معه مجازا دين المختلين الإيرانيين لا بدوافع دينية؛ بل على الأغلب بفعل الرغبة في المنافع المالية والاقصادية التى كان يجلبها اعتناق المذهب شبه الجماعي ( حتى أن الكثيرمن القبائل البدوية السنية القادمة من تجد إلى العراق والتى استقرت للتّ بدأت باعتناق المذهب الشيعي بعد أن تقاطر إلى مضاربها رجال دين شيعة راحوا يطوّرون تصوراً شعبياً بسيطأ ومقبولاً للشيعية بوصفها محبّة آل البيت). إن الفئات الثلاث التى تؤلف نخبة الطائفة» هي الأكثر ميلاً إلى الاقتراب من السياسة بما هي فعالية اجتماعية.

وحين جرى؛ وعلى امتداد القرون الأربعة التالية حتى سقوط بغداد تهميش أدوار الشيعة بفعل الحرب الإيرانية ‏ التركية المتواصلة والدامية» فقد اتخذ الاهتمام بالسياسة طابعاً خاصاً عند الطائفة الشيعيةء هو على الأرجح اهتمام من طبيعة تنافسية مع أهل السنة. فعلى امتداد القرون الأربعة وكما بين لونكريك بدقة ( أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث) 4

' - لونكريك ( ستيفن هيمسفلي): أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث. ترجمة جعفر الخياط - طبعة إيران - قم انتشارات الشريف الرضي. بلا تاريخ النشر. حتى هذه اللحظة لا يزال كتاب لونكريك؛ هو المصدر الكلاسيكي الوحيد الأكثر أهمية؛ من حيث قوة تبصراته في التاريخ الاجتماعي والسياسي العراقي. إن العودة المحدودة إلى هذا المصدر ستظل باستمرار ضرورية وربما لا غنى عنها من أجل رؤية وقائع بعينهاء لا نملك اليوم شهادة

-53-

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

فقد كان الأثتراك والإيرانيون يتبادلون احتلال العراق» مُحدثين تغييرات مُتقطعة وسطحية في الغالب في مكونات المذهبين الشيعي والسني» بلغت في بعض الحالات ذروتها مع تنظيم مذابح بحق أهل السنة وتدمير مرائدهم المقدسة. يلاحظ لونكريك ( صء 729) إن دخول عباس شاه إلى بغداد في العام 1623 كان بداية فترة طويلة نسبياً من السلم الأهلي والانتعاش في الحياة الاقتصادية والتجارية. لقد دبت الحياة في أسواق بغداد التي ظلت تنوء بثقل أحداث دامية ومتواصلة. ومما سعاد في تعاظم النشاط التجاري في هذه الآونة» تقاطر التجار من همذان وتبريز ( وقد مهدت م في الحال شيعيتهم وجنسيتهم الإيرانية ومعرفتهم بالمنتجات الإيرانية السيطرة على معظم التجارة. وبذا استعادت التأثيرات الإيرانية صولتها التى لم تفقدها بالكلية من قبلء في الفن المعماري وفي بعض الصناعات. بينما أثتمنت العتبات المقدسة الشاه على نفسها لدرجة لم تنوصل إليها من قبل).

يوضح نص لونكريك الآنف دون أدنى ليس, أن ما ذهب إليه زبيدة ونقاش عن سيطرة التجار اليهود في بغداد تاريخياً - وهي واقعة تتضمن كل العناصر اللازمة في التلفيق الاستشراقي الاستعماري المرتبط بمشروع مود وسايكس في العراق وخصوصاً بعد سقوط القدس - إنما هي خلاصة قراءة تضليلية لا أساس لا في التاريخ الحقيقي. لقد جرى تضخيم هذا الادعاء الذي تردد في لندن من قبل أن يولد زبيدة ونقاش. ( حتى أن الجئرال مود والسير سايكس كررا الزعم أن بغداد هي مدينة يهودية بفضل سيطرة اليهود على

خاصة ببعض الأحداث, ويكتفي بسردها من دون إيراد ما يكفي من التفاصيل. ومع ذلك» فأن الكتاب يتمتع بقيمة علمية كبيرة.

"- لونكريك ( ستيفن هيمسفلي) مصدر مذكور - 54 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

حياتها التجارية). هذا الإطار التاريخي القنتضب ولكن الضروري لرسم معالم الفكرة وإيضاحها بدقة أكبر» سوف يُفسر لنا سببأ هاماً من أسباب الجذب السياسي والإيديولوجي في عراق الأربعينات والخمسينات من القرن الماضيء» حين أصبح الشيعة أكثر ميلاً إلى الإيديولوجية اليسارية؛ فيما اتجه السنة إلى القومية العربية.

يرى كل من زبيدة ونقاش في هذا الصدد. أن الشيعة الذين اعتنقوا أيديولوجيات يسارية حديثة» كانوا بميلون في الواقع إلى التوجهات اليسارية - المعارضة - وخاصة الحزب الشيوعي. فالمناطق والمدن والأحياء ( التى كان فيها للحزب أقوى تأييد فيهاء كانت مأهولة بأغلبية شيعية؛ في حين أن المناطق والمدن السنية الشمالية والغربية والأحياء السنية في بغداد ارتبطت بالسياسة القومنة 3 يجدربنا القيام بتعديل جوهري على هذه النظرة التبسيطية.

بخلاف ما رآه زبيدة بعجالة - بينما يبدو نقاش أكثر ميلا إلى التعمق وإعطاء التفاصيل كما سنرى حول هذه النقطة حين نشير إلى كتابه - فإن لمسألة توجهات الشيعة إلى السياسة؛ صلة أكثر ارتباطاً بفكرة أخرى وبواقع آخرء أكثر طاقة على إعطاء وقائع وتفاصيل جديدة ومثيرة. سوف أتوقف عند النقطة التالية من أجل تفسير أكثر جذرية للتوّزع الطائفي داخل حقل السياسة بين القومية العربية والشيوعية في العراق.

في الواقع تتوجب رؤية المنظر الخلفي غير الخلاب» الذي يجمع بين الشيوعية والمذهب الشيعي الصفوي الذي انبئقت في إطاره طبقة جديدة من

*- زبيدة ( سامي) مصدر مذكور

-55-

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

التجار الشيعة. كلاهما سيبدوان في مرآة الواقع الواقعي كإيديولوجيا مُتسربة من الخارج. أي كأفكار عابرة للحدود وجدت في واقع اجتماعي مغاير» وفي ثقافات راسبة وجذرية ومغايرة صدى قوياً وربما مُفاجئاً. وكما كان المذهب الصفوي عند انتشاره في العراق الإيراني مذهباً شيعياً فرضته سلطة خارجية» قامت عملياً بإحداث أكبر واخطر تعديل على المذهب الجعفري في العراق ( أي على مفهوم الإمامة الأصليء أو الإئني عشرية) وتحويلها إلى مذهب مُشْيعٍ بالولاء الديني والثقاني لإيران؛ فإن الشيوعية أيضاً كانت مذهباً أيديولوجياً فرضه الخارج بوساطة سلطة من نوع آخر هي سلطة النموذج العالمي؛ الذي كان يقدم نفسه منذ العام 1917 مع الشورة الروسية الجماهيرية الكبرى؛ كنموذج جماهيري عالمي أو كوني الطابع.

لقد حول الشيوعيون العراقيون الشيوعية؛ فعلياً إلى ما يشبه العقيدة الدينية المتسربة من الخارج» وذلك حين قاموا بقراءة الماركسية - اللينية الأولى وكما وصلت بترجماتها الركيكة وكراريسها الصغيرة إلى العراق عبر ال همند وأوربا؛ بقدر كبير من الانبهار والاستسلام أمام قوتها كثقافة جديدة» وآمنوء شانهم في ذلك شأن كل المجتمعات التى تتلقى أفكاراً جديدة» مُبهرة أو ساطعة في قوة تحليلها للواقع» إياناً أعمى محتمياتها المطلقة والتاريخية من دون تبصر. ما حدث للشيوعية في العراق منذ انتشار أفكارهاء هو أن نظرة الكثير من العراقيين إليها» كانت تنحصر في كونهاء أيديولوجيا خارجية مُشبعة بالولاء الثقافي للخارج ‏ للاتحاد السوفياتي ‏ بأكثر ثما هي وطنية بمعنى محلية ونابعة من الخصوصية الثقافية العراقية أو العربية. هذه الجملة الحزب ومؤسسه يوسف سلمان يوسف المعروف عند العراقيين باسمه الحركي ( فهد) اضطر قبيل إعدامه وأثناء محاكمته في العام 1947 إلى الرد بقوة على تشهيرات الخصوم

-56-

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

السياسيين بالقول: لقد كنت وطنياً قبل أن أكون شيوعياء وحين أصبح شيوعياً صرت أشعر بمسؤولية أكبر تجاه وطني.

هذه الجملة سوف تذيع في أوساط الشيوعيين العراقيين وتصبح شعاراً مدوياً مع كل تشكيك بوطنيتهم. وهذا عينه ينطبق على الصفوية. فهي واجهت من قبل * وحتى اليوم - وتماماً كما أثارت الشيوعية في العراق؛ الموضوع ذاته: الوطنية. لقد كانتا ولا تزالان مادتين للجدال بشأن درجة وطنينهها العراة قية» كانتا أيديولوجيتان غريبتان عبرتا الحدود» نحو مجتمع تأملان منه تجاوباً سريعاً بفعل طبيعته المتنافرة والموزائيكية؛ وهو اعتنقهما بالفعل وبسرعة مثيرة وأطفأ فيهما جذوة النعطش إلى الجماهيرية» وذلك حين تدفقت مع الوقت» حشود من أبناء الطائفة لتلحق بهما. وحين تعايشتا داخل ( المحلة) وفي الزقاق والحي الشيعي كمذهبين غريبين؛ فقد نشأت بينهما أواصر ألفة ومحبة مُستترة مكنتهما من الإبقاء على مسافة من السلام والتعايش بين أفكارهما المتعارضة جذرياً. هذه العلاقة بين الشيعية الصفوية - الشيعية العراقية الأصلية المعدلة إيرانياً بوساطة الاحتلال ‏ وبين الشيوعية كعقيدة جماهيرية تسربت من الخارج» سوف تسمح برؤيتها وتأملها كعلاقة أكبر من سببية. إنها العلاقة التى تبزغ بفعل تراكب عوامل متنوعة هي خلاصة انتصار ثقافة خارجية على ثقافة داخلية أضعف منها.

بالضد من هذا الواقع؛ راحت السنية العراقية التي كانت في الأصلء» استطراداً عراقياً وعربياً للإسلام التقليدي, تتجذر أكثر فأكثر في الواقع الاجتماعي كمذهب داخلي» لا يحتاج إلى الكثير من الممتاجلوات للبرهنة على عزرةه ارعراية - وفي النهاية ‏ على وطنيته. تاريخيا يأ تعززت مكانة المذهب السنى سياسياً واجتماعياً في المناطق الغربية البدوية من العراق بفعل الباعث

-57-

الفصل الأول : الأحمر والأبيض, والأسود

الوطني؛ وكذلك بفضل البيئة العروبية القديمة البدوية المحافظة والشكاكة. وفوق ذلك المتوجسة من كل ما هو قادم من الخارج. وحين جرى التمسك به كمذهب وطن أرئوذكسي له حيز جغراني عروبي؛ يمند على امتداد العالم العربي السني المحيط بالعراق والرتبط به بوشائج قوية» فقد توفرت نت ظروف مثالية للمذهب» فهو محمي ومتحصن داخل بيئة أكبر هي البيئة العروبية. ْ ْ وباستخدام توصيف المفكر التونسي هشام جعيّط ‏ ولكن مع تعديل طفيف وضروري لتوضيح مقاصد الاستخدام ‏ ( الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي - دار الطليعة» بيروت 1948 عن الطبعة الفرنسية 1947) ”7 فإن العروبة السياسية رأت إلى نفسها كحفيد أول للبداوة القديمة كما نشأت في شبه الجزيرة العربية. وكما أن البداوة كانت ظاهرة داخلية؛ فإن العروبية الجديدة التى دعا إليها البعث في العراق» ستبدو في أنظار مُعتئقيها ظاهرة داخلية والأصح منتجاً محلياً. وهكذا فقد تلاقت على أرض العراق ومنذ وقت بكر تر طرف الفياسة و مطلم الحسيات: كدير ارجا نواعلنة هنين البعث مع مذهب داخلي من مذاهب الإسلام وهو السنية» التي كانت بدورها مزيجاً من البداوة والأرئوذكسية الدينية. بينما تلاقت على الطرف الآخر من الحي الشعبي والزقاق والمدنية» أيديولوجيا غريبة ظلت الشبهة تحوم حوها حتى اليوم بوصفها نتاج الخارج وهيمنته الثقافية هي الشيوعية؛ مع مذهب من مذاهب الإسلام تم تعديله بواسطة القوة الخارجية هو الشيعية في قراءتها الصفوية - الإيرانية. ومع ذلك يجدر التوضيح ومنعاً لأي تأويل مغرض أو

7 جعيط ( د. هشام): الشخصيّة العربية الإسلامية والمصير العربي ‏ دار الطليعة» بيروت: 1990 ت عن النص الفرنسي. ترحمة د. المنجي الصيادي. -58-

الفصل الأول : الأحمر؛ والأبيض, والأأسود

التباس» فإن الشيعية العراقية القوية والأصلية ‏ الجعفرية ‏ ظلت قادرة على التعبير عن نفسها ومزاحمة أي محاولة أو ميل لربطها بالخارج أو لفرض تصور أو قراءة خارجية عليها. إننا نتتحدث ‏ هنا كما هو واضح عن التاريخ كما جرث وقائعه لا أكثر.

هذا التلاقي بين الأيديولوجيا السياسية والإسلام في قراءاته المتعددة» تجلى في مستويين في أرض الواقع الاجتماعي: كسب الجماهير وتحويل حقل السياسة إلى حقل جماهيري. وذلك ما تجلى بوضوح حين راح الحزبان يتنافسان على كسب الجماهير من أبناء الطائفتين» وعلى تسييس القطاعات المتدينة أو شبه المتدينة. ذلك ما فتح الباب مُبكراً لدخوهما في الماضي بكثرة ن أجل الاستيلاء على القوة السحرية في المجتمع العراقي: السيطرة على ( العامة ). إن مفهوم العامة القديم» المستخدم في الماضي بكثرة في كتب التاريخ والتراث» ومن حيث درجة فاعليتها وطاقتها على إثارة التناقض مع الحاكم والسلطة؛ هو المفهوم ذاته اليوم للجماهيرء التي نظر إليها باستمرار كقوة سحرية قادرة على قلب نظام الحكم والممتلكة لمصادرة القوة الأسطورية. بهذا المعنى؛ يبدو توجه الحزبيين الجماهيريين كما لو كان محاولة متأخرة لإعادة صياغة علاقة منقطعة مع ( العامة). وفي الآن ذاته» انصبّت محاولتهما على خطب ود المرجعيات الدينية عبر سلسلة من النشاطات والفعاليات.

منذ وقت مُبكر من التاريخ الاجتماعي والسياسي في العراق» كانت هناك فكرتان مُلتبستان في الخطاب السياسي الشيوعي والبعثي - القومي العروبي» الأولى: تتعلق بفكرة الحزب عن النخبة؛ والثانية: تتعلق بمفهوم الحزب لليبرالية. بصدد النقطة الأولى» ثمة ما يشبه الاتفاق الضمني بين الحزبين الشبوعي والبعث ‏ وهذا يتجلى بوضوح من الوقائع التاريخية المديدة ‏ على

59 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

منع وإعاقة؛ ولنقل تحجيم كل محاولة للاقتراب البناء من التُخبء التي يُفضل

عليها دائماً الاهتمام بالجماهير الشعبية. ذلك أن الحزب لم يكن ليطيق فكرة كونه حزبأ للنخبة أو أن يُقال عنه أنه حزب جماعة من المثقفين. بينما يُفضل هو أن يوصف بكون حزب الجماهير وحزب الطبقات الشعبية ( عملياً حزب العامة بمفهومها القديم والترائي). وفي مرات وحالات ومواقف كثيرة» كانت هناك شبهات تدور في الأوساط القيادية للحزبين إزاء كل محاولة لتعديل هذا الموقف؛ إذ نُظر إلى النخب بوصفها أمرأ ممائلاً أو مُرادفاً للجماعات التى تقضي كل أوقاتها في أبراج عاجية معزولة عن الشعب؛ منقطعة عنه ومُنشغلة بهمومها البرجوازية الصغيرة السقيمة. وكان يُفضل بدلا من التوجه إليهاء الاندفاع صوب الأوساط الشعبية الكادحة وشبه الأمية والفلاحية, وذلك إقتداء بالنموذج الجماهيري العالمي الذي كان طاغياً في هذا الوقت وجذاباً. وسوف نرى - تاليا التأثير المدمر الذي تركته مثل هذه الفكرة اللتبسة على الحزبين» حين نجحا في التحول فعلياً إلى حزبين جماهيريين» لقد أمتلاً جوف الحزب بالجماهير العامية وتدنت» حينكئذ» بعض شرائحها الأكثر تحزباً وتعصباً في مستوى أخلاقها ومعارفهاء وتحول بعض الحزبيين من البسطاء ء إلى رعاع. لحي لو ا ا تقريباً عن كل سيطرة مركزية. لم يكونوا في الواقع يتمتعون بأي نوع من المهارات السياسية أو الثقافية» وفي حالات غير ا ا ا 0 المعنى» الذي ينطوي عليه تنفيذ وطاعة الأوامر الحزبية؛ إذ اتسم تنفيذ الأوامر غالبا بالعمى الممزوج بنوع رخيص من الطاعة. أما الفكرة الثانية املتبسة والتي نظر إليها الحزب باستمرار بريبة وتوجس» وسعى إلى مقاومة تأثيرها الضار على بوليسية ‏ وحديدية التنظيم فهي الليبرالية؛ ذلك النمط من الحرية المعصل بدرجة أبسط مما نتصورء بممارسة الحق في التبادل الحر للآراء والأفكار داخل

- 60 -

الفصل الأول 0 الأحمسر والأبيض, والأسود

الحزب. لقد نظر الحزب إلى حرية الأعضاء في مناقشة السياسات من دون إبداء الطاعة أولأء وقبل كل شيء تنفيذ التوجهات من دون نقاشء على أنها خطر داهم مصدره الروح الليبرالية التي تفشت في حسم الحزب. ولم تكن هذه الليبرالية المزعومة لتعنى شيئاً سوى روح التحلل من كل التزام. وهكذاء وفي ظل انعدام فرص النقاش الحي والخصب وتعاظم الروح الروح الجماهيرية وتدفق الجماهير الشعبية من كل الطبقات,ء فقد امتلاًأ جوفه سريعا بالقوة السحرية. واعبتاراً من تموز / يوليو 1958» عاش الحزبان ومنذ وقت مُبكر روحاً رعاعية رهيبة» سوف تتجلى بأسطع وابلغ تعاييرها في الاقتتال الدموي بين جماهير الحزبين» في شوارع الموصل وكركوك وتل أعفر ( تلعفر) وحي الجعيفر والأعظمية ببغداد. والتى كانت تأخذ. من دون رغبة الحزبين ولا إرادتهما ولا سيطرتهما ربماء طابعاً مروعاً مع انزلاق الجماهير إلى ما يشبه الصراع الرمزي بين الشيعة والسنة» وذلك حين اصطدمت جماعات شيوعية - شيعية بأخرى قومية ‏ سنية.

ولكنه الصراع الذي يخاض تحت ستار الايديولوجياء وبوساطة الشعارات والتنافسات السياسية المحمومة حول الموقف من الوحدة وعبد الناصر.

ولأجل رسم لوحة تاريخية متكاملة لتسلسل الأحداث والوقائع» سأقوم هنا - بوضع مخطط أولي عن آليات التحوّل في سلوك الجماهير كما عرضته تجربة السياسة ومفهومها في العراق.

-61-

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

الجريمة الأولى للجماهير

بعد أحد عشر عاماً فقط من تأسيس حزب البعث. وفي العام 8 ( في حالة الحزب الشيوعي بعد 24 عاماً من تأسيسه) وبينما كان الحزبان يؤلفان معاً بنوع من المودة السياسية والإخاء الوطني» جبهة موحدة مع بعض القوى الأخرى هي جبهة الاتحاد الوطنى بهدف إسقاط الملكية؛ وقع أكبر حدث سياسي في تاريخ العراق الحديث. ففي الرابع عشر من تموز/ يوليو من هذا العام تمكن الزعيم عبد الكريم قاسم وشريكه عبد السلام عارف ومجموعة من الضباط الأحرار» من قلب نظام الحكم الملكي وإعلان الجمهورية والاستقلال الأول الحقيقي. كان الشيوعيون الوحيدين تقريباًء الذين أمكن لهم بالمصادفة» أن يكونوا على علم بموعد الثورة وإلى حد ما الاحتفاظ بصلة شخصية مع قاسم عن طريق احد أنصار الحزب» عندما كان هذا لا يزال في معقله في جلولاء إلى الشمال الشرقي من بغداد. وبالطبع من دون أن يُبلغوا حلفائهم في التحالف, مع أن ثمة روايات صادرة عن البعث تشير إلى علمه المسبق بالثورة» كان زعيم الحزب الشيوعي في هذه الآونة شيعياً من النجف هو حسين الرضي المعروف باسم سلام عادلء وهذا الأمر بالغ الدلالة كما سئرى» في الطرف المقابل كان هنالك شيقي آخر من محافظة الناصرية جنوب العراق على رأس قيادة البعث هو فؤاد الركابي الذي كان أول قائد للحزب منذ العام 2 .

سوف أرسم هنا - ومرة أخرى. إطاراً تاريخياً مُكثفاً إلى أقصى حد بمكن, لهذا الحدث الاستثنائي في تاريخ العراق الحديث من أجل معاينة سلوك الجماهير وسلوك الحزبين الجماهيريين؛ قصد البرهنة على أن الاستبداد الذي

9

الفصل الأول : الأحمر والأبيض, والأسود

أَرْسِيَتَْ أسسه وقواعده في الثقافة المجتمعية والحياة السياسية العراقية» وتجذر فيهما اعتباراً من هذا الوقت» لم يكن سوى الثمرة التلقائية للزواج الكابوسي بين العقيدة الجماهيرية المترعة بالأفكار, التى تحض على ممارسة العنف وتبرره بدوافع شتى ( في حالة الحزب الشيوعي هو عنف من أجل تدمير البرجوازية وسحق الرجعيين وفي حالة البعث من أجل الانقلابية الثورية التي تحطم قوى الاستعمار وأذنابه من القوى والطبقات الرجعية) وبين الروح الرعاعية عند بعض الشرائح الجماهيرية. هذه الجماهير التى تتغذى أساساً من الحرمان والتهميش في مجتمع الاحتلال والوصاية الأجنبية أو في مجتمع الدولة البوليسية؛ تلقت منذئذر» مفهوما شاذا وغرائبيا عن السياسة كانقطاع عن الفكر.

في الساعة الخامسة والنصف من فجر يوم الاثنين 14 تموز/ يوليو 1958 وقعت الثورة بقيادة الضباط الأحرار وعلى رأسهم عبد الكريم قاسم. استمع أعضاء الأسرة الملكية؛ المشُحصنين في القصر الملكيء إلى البلاغ الأول من إذاعة بغداد بصوت العقيد عبد السلام عارف شريك قاسم الرئيسي. على الفور أيقن الوصي على العرش الأمير عبد الإله أن كل شيء انتهى» ولذا طلب من ضباط القصر عدم مقاومة المتمردين وتنظيم عملية خروج سلمي للعائلة من العراق والعودة إلى الحجاز. بيد أن هذه الآمال تبددت بسرعة مع تواصل إطلاق النار على القصر الحاصر؛ ولكن بعد مفاوضات شاقة أمكن الإتفاق على خروج الملك الصغير فيصل الثاني. خخرج الملك رافعاً يده بالتحية العسكرية مُحيباً الانقلابيين ثم تبعه الوصي على العرش الأمير عبد الإله. بينما أخذت الأميرة» الأم العجوزء تتمتم ببعض الآيات القرآنية وهي ترتجف رافعة رأسها نسخة من القرآن الكريم» ومجاهدة أن تشيع الطمأنينة في نفوس الأسرة المذعورة التي اصطفت في حديقة القصر مُحاطة بالعسكريين المتمردين.

- 64 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

فجأة فتح أحد الضباط نيران مدفعه الرشاش مستديراً من اليمين إلى اليسار» ليصيب ظهر الأمير بصلية من الرصاص. وعلى الفور أيضاً فتح بقية الفباط نيران رشاشاتهم لتتشكل نصف حلقة جهنمية من النيران القاتلة وليسقط الملك مُضمّرجاً بدمه» بينما سقطت الأميرات وتهاوين صريعات في حديقة القصر. بعد وقت قصير تنم نقل اجثث بواسطة سيارة شحن عسكرية.

يروي شاهد عيان هو الضابط في الحرس الملكي فالح حنظل ( أسرار مقتل العائلة الملكية في العراق ‏ الطبعة الأولى 1971 والثانية 1992 من دون ذكر دار النشر) ‏ في شهادة نادرة ومثيرة تفاصيل هذا الحادث الْروع. إن قسوة الوصف والتفاصيل الدقيقة التي يتضمنها عن عمليات القتل والسحل والهياج الجماهيري؛ هي من الشذة بحيث يصعب على الباحث إعادة روايتها على القراء.إن ذاكرات العراقيين لا تزال حتى اليوم» غير قادرة على استرداد تلك اللحظات من دون شعور جماعي بالإثم والعار. والأمر من هذه الزاوية مماثل تماماً لإحساس أمرئ ماء بهول الجريمة الأولى التي ارتكبها في الماضي. ونظراً لقسوة الوصف وبشاعة المناظر المؤلة والمفزعة؛ فسوف اكتفي بالمقطع التالي الذي يُبين الكيفية التى ارتكبت فيها الجماهير جريتها الأولى ( أسرار: 127):

حملت جثث النساء. فجثة عبد الإله وبقية القتلى. كانت جماهير الناس في الشوارع قد دخلت القصر وانتشرت فيه وشاهد بعضهم الحثث وهي تنقل

* حنظل (فالح) أسرار مقتل العائلة الملكية في العراق ط: أولى 1971 - دون ذكر لدار النشر: من بين الشهادات الحيةالتي تتمتع بمكانة خاصة بالنسية لي. هذه الشهادة الى كتبها حنظل. . ومع أنني لا أوافق الكاتب على منهجه ورؤيته السياسية للأحداث» فإنني في المقابل اعتبر شهادته واحدة من أكثر الكتابات قيمة لجهة كونها مفعمة بالصدق واللوعة الإنسانية. أن الضابط الذي أمضى حيانه في خدمة العرش. يظل صاحب حق شخصي مطلق مهما كان موقفنا منه؛ في إبراز قوة مشاعره وهو يكتب عن تلك الواقعة المحزنة.

-65 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

في السيارة. هجم شاب ضخم الجثة يحمل خنجراً وانهال بطعنتين على جفة عبد الإله (...) كانت السيارة التى تقل جتتى الملك والأمير تحاول أن تسير مسوهة اوس الزتحاء القديد اق الشارع وحاروك الضتباط آلا يعيرق احدديان سيارتهم تقل جئتين (...) وفي قصر الرحاب هجمت جموع المدنيين إلى داخل القصر المحترق وباشرت عمليات السلب والنهب في سباق مع اللهيب والنيران.

سارت السيارة التى تقل الجثتين تتبعها الحشود. التى أخذت تنشد أهازيج الحماسة الشعبية. وإزاء الضغط المخيف للحشود المتلاطمة؛ من المسلحين المحيطين بالسيارة من كل جانب قام أحد الضباط برفع جثة الأمير من قدمه. وسلم القدم إلى أقرب الموجودين إليهه سحبت الجثة من السيارة وألقيت أرضاً. سقطت الجثة على ظهرها والدماء. تلطخ القميص الأبيض الذي كان يرتديه عبد الإله. ( ثم ) سرعان ما انقضت الأيدي على ملابسه وخلعتها حتى عري الجسد, الذي بدا اصفر مائلا للبياض وتصايحت الجماهير: اجلبوا الحبال.

وبسرعة جلبت الحبال من الأكواخ المجاورة وربطت الحثة بحبلين» واحد من الرقبة. مُرر ‏ الحبل ‏ الآخر من تحت الإبطين. ( ثم ) امسك بطرفي الحبلين بعض الشبان. وباشروا المسير والجحثة العارية سحل من ورائهم على الأرض.

وكلما تقدم موكب القتيل المسحول من قلب مدينة بغداد صادفته الجماهير الحائجة لتقلي نظرة» أو ضربة أو طعنة في الميت. وما أن وصلت الحئة إلى قلب منطقة الكرخ, وفي أكبر شوارعها إلا وكانت حشود بغداد الرصافة تحاول أن تعبر جسر المأمون» الذي غص بمن فيه وكذلك الشارع. وجلبت الحبال الغليظة وربطت بشرفة فندق الكرخ. وبعد دقائق كانت جثة الأمير ترتفع معلقة في الهواء فصعد إليها حملة السكاكين والسواطير.

66

الفصل الأول : الأحمر والأبيض, والأسود

فبتر الذكر وفصلت الرجلان ومن الركبتين وقطع الكفان من الرسغين وألقيت إلى مجموعات من الفتيان والشبان الذين سرعان ما تلقفوها وانطلقوا مهرولين بالأجزاء المبتورة عبر الشوارع والأزقة متجهين نحو الرصافة في صخب ولعب وضحك كأنهم في ساحة كرة القدم. بقيت الجئة معلقة في مكانها زهاء عشرين دقيقة.

في ذلك الصباح تلاقت جماهير منطقة الكرخ؛ حيث بسط البعث والقوميون نفوذهم داخل الوسط السنيى؛ مع جماهير منطقة الرصافة» حيث نشر الشيوعيون أفكارهم في الوسط الشيعي وتحديداً في أكواخ وصرائف الشاكرية وفي ضاحية خلف السدة الفقيرة؛ وراحت الجموع الهائجة وهي تدخل علم السياسة كما فهمته وتعرّفت عليه كنوع من العصاب؛ يحق فيه ويجوز بسهولة كذلك ممارسة العنف من دون رقابة النواظم الأخلاقية التقليدية للمجتمع؛ لتقيم في الهواء الطلق مهرجانها الوحشي حيث:

تعالت الصيحات: أنزلوها ولتكمل السحل. وأنزلت الجشة وبوشر بالسحل ثانية وعبروا بها جسر المأمون متجهين نحو شارع الرشيد. الذي كان يغص بالناس وبالمتفرجين من الشرفات والنوافك.

وفي شارع الرشيد أصبحت الجثة هدفأ للحجارة وبدت طلائع الموكب الوحشي المرعب وهي تنشد نشيد الله أكبر. وأخيراً وصل الموكب أمام البوابة الخارجية لوزارة الدفاع حيث وقف حشد كبير من الضباط والمرائتب (..) وصلت الجثة الممزقة أمام وزارة الدفاع حيث يوجد قبالتها مقهى كبير وإلى جانب المقهى يقوم بناء قديم من طابقين وصعد أحدهم متسلقاً العامود الكهربائي الجاور للبناء وعلق حبلاً في شرفة الطابق الأول» حيث وقفت في

-67-

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

تلك الشرفة بعض النسوة والأطفال يتفرجن وأدليت الحبال وربطت بها حبال الجئة وتصايح الواقفون ارفعوها.

وبعد لحظات كانت الجئة ترتفع ثانية معلقة في الهواء وقد اندلقت أمعاؤها. وتسلق عامود النور المجاور شاب يحمل سكيناً بيده وطعن الجثة بالظهر عدة طعنات ثم اعمل سكينه في الدبر» وراح يقطع اللحم صاعداً إلى فوق باتجاه الرأس. ومن الشارع جلبت عصا طويلة بيضاء أدخلت في الجئة ودفعت بها دفعاً والضباط والمراتب ينظرون إليها دون أن يتحركوا. وكانت خاتمة المطاف لحثة الأمير عبد الإله أن تناوب عليها الغوغاء والأوباش وطافت أجزاؤها معظم شوارع بغداد. أما ما تبقي منها إلى مساء اليوم التالي فقد صُبت عليها صفائح البترول ثم حملت البقايا امحترقة وألقيت في نهر دجلة.

ليس في هذا النص أي قدر من الإفراط في توصيف بشعة المشهد؛ بل على العكس من ذلك يفتقد كاتبه إلى رباطة الجاش الكافية للتوغل بعمق أكبر في تفاصيل أشد هولاً ( من الناحية الإنسانية والعاطفية وبالنسبة لضابط أمضى حياته في خدمة الأمير المباشرة» فقد يكون من غير العدل المطالبة بتفاصيل أكثرء لأن المرء لا يقوى بطبيعته على تذكر التفاصيل المؤلمة الخاصة بآخرين يرتبط معهم بعلاقات حميمة ومن دون أن يضع نفسه في قلب الأل). بيد أن الصورة المخزية التى يصفها فالح بلغة بسيطة ومُتقشفة ولكن حارة؛ وهي ذاتها التي وصفها كثيرون من قبلء لحظة بلغ ال هياج ذروته وجرى قطع العضو التناسلي للأمير عبد الإله والعبق به في الشوارع؛ ليست سوى صورة واحدة عن بذاءة الجماهير وسلوكها الوحشى وليس الشعب. إن الدرجة المذهلة من الانمخطاط الأخلاقي عند الشرائح الهائجة من الجماهير التي يُفترض أنها تقليدياء تعيش في بيئة إسلامية تحرّم التمثيل بالقتيل مهما كانت جريته؛ لا

- 68 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

يمكن ردها إلى مجرد حالة هياج؛ وإنما إلى نمط شديد الخصوصية من القصاص وإنزال العقاب بحق الخصوم والفرقاءء سوف يتكرر اعتباراً من هذه اللحظة في

التاريخ السياسي للعراق الحديث. لقد تحول أسلوب السحل بوساطة الحبال؛ إلى ممارسة سياسية ونوع من ثقافة سياسية.

وبفضل قوة هذه الثقافة ستقوم الجماهير تاليا ولمرات كثيرة وبتأييد وتشجيع مبطنين من القادة الجماهيريينء بتكرار تجربتها مع الجريمة» فبعد عام الجماهير بتنظيم مذابح ممائلة ساد فيها المشهد ذاته: السحل بوساطة الحبال. هذه المرة لا ضد الملكيين» بل ضد البعثيين والقوميين شركائهم في الثورة الجماهيرية.

كان الأمير عبد الإله أحد أهم الشخصيات السياسية في البلاط الملكي؛ وقد لعب في تاريخ العراق الحديث أدواراً حاسمة وذات طابع مصيري. ولد الشاب عبد الإله الابن الأكبر للملك علي في الطائف - المملكة العربية السعودية ‏ في الرابع والعشرين من تشرين الثاني / نوفمبر 1913. وصل إلى بغداد مع والده في مطلع العام 1926 وكان في الثالثة عشرة من عمره عندما قرر والده إرساله إلى القدس للدراسة. ثم إلى الإسكندرية قبل أن يُعين كملحق في المفوضة العراقية ببرلين لمدة قصيرة 1936 1937. في العام 1939 صرع الملك غازي في حادث غامضء لطالما دارت الشبهات حول دور بريطاني شبه مؤكد فيه بسبب التناقض في التوجيهات بين غازي والبريطانين. ولذا اختير الأمير عبد الإله زوج أخت الملك القتيل ليكون وصياً على العرش لرعاية الملك الصغير فيصل الثاني وريث العرش. لم يكن عبد الإله مُتمرساً في

- 69 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

الشؤون السياسية» ومع ذلك ساقته أقدار السياسة ليلعب أخطر الأدوار؛ ففى العام 1941 وبينما كان الصراع الألماني ‏ البريطاني يشتد على العراق» وزعماء البلاد ينحازون إلى بريطانيا بدعم وتشجيع من نوري السعيد رئيس الوزراء القوي والداهية» وقع حدث مثير سوف يُحدد الدور السياسي بوضوح أكبر بالنسبة للأمير الشاب؛ فقد وقعت حركة انقلابية عسكرية ‏ سياسية بقيادة رشيد عالي الكيلاني» زعم بغير وجه حق أنها كانت بدفع من الأآلمان أو تدبيرهم. بينما على العكس من ذلك كما ستبين الأحداث كانت جواباً عراقياً خاصاً على الاحتلال البريطاني.

إثر المحاولة الانقلابية الوطنية اضطر الأمير الشاب إلى المرب من العراق. ولكن وبعد التدخل البريطانى وإخماد الحركة» عاد الأمير ليجد نفسه وسط معمعة جديدة دفعت به إلى ارتكاب مذبحة بحق الضباط القوميين. لقد أصدر أوامره بإعدام الضباط. كانت هذه جريمته الأولى في عالم السياسة.

عندما التقى الجواهري الشاعر العراقي بالأميرء ألقى بين يديه قصيدة مديح مثيرة» فعدا عن أنها أشادت بمكارمه ونسبه الماشمي الأصيل؛ فإنها اقتربت من رسم ملامح المصير نفسه. ويا للمفارقة» الذي سيلقاه الأمير. إن البيتين التاليين من القصيدة قد يقتربان من النبوءة:

وإذا الخطوب نهم منك لغفلة

71 حيا عن ذي مرة 3 ثيجمه |

إن دج غاشية تشع وإن يلن

حبل يُشد وإن تحارب تصمد

-70 -

الفصل الأول : الأحمر؛ والأبيض, والأأسود

ولم يدر في خلد الشاعر أو الأمير» أن الخطوب كانت على الأبواب» وإن ثمة مّن سيشد الحبل حلو جثته من دون أن يحارب.

اكتسبت الجماهير من جريتها الأولى خبرة كافية» ثم تعلمت المزيد داخل حزبها العقائدي المفتون بعظمتهاء وتدربت على ما يكفي من فنون لتدمير الخصم وتحطيم عظامه. ولأنها أفلتت من أي عقاب أو تقريع» فقد صار بوسعها أن تكرر جريمتها مرات عدّة دون خوف. والمثير للاهتمام في هذا النطاق أن اللغة عن هذا المستوى البذيء والوحشي وتجسيداً بليغاً له. إن الكثير من العراقيين والعرب الذين لم يعيشوا تلك الأحداث قد لا يكون بوسعهم تصديقء أو هم لا يريدون تصديق الحقيقة التالية: إن الجماهير كانت تخرج إلى الشوارع بتوجيه من قادتها وهي تهتف: هوب. هوب عفلق. قدامك. قدامك الطسه جمال وقع ‏ سقط - في الخراء ومحد سمع حسه. هذا المتاف البذيء الذي يقول ما معناه: انتبه يا عفلق أمامك حفرة وأن جمال عبد الناصر سقط فيها وهي مليئة بالغائط فلم يسمع أحد صوته» هو الهتاف الجماهيري المدوي في هذه الآونة.

في المقابل خرج البعئيون والقوميون في تظاهرات حاشدة إلى الشوارع لمواجهة بذاءات الشيوعيين ببذاءات مُمائلة» إذ كانت الجموع تغنى نشيداً رعوياً واحداً: نزيهة بالت - تبولت ‏ على الجسر. وتزحلق المهداوي. ونزيهة هذه هي الوزيرة الشيوعية الوحيدة في حكومة قاسم الدكتورة نزيهة الدليمي ‏ والتي كانت أول امرأة تحتل هذا المنصب في تاريخ العراق الحديث. لم يجد البعثيون والقوميون أفضل من هذا الحتاف للرد على الشيوعيين: تعييرهم بأن وزيرتهم تبولت فوق الجسرء بينما تزحلق رئيس الحكمة الثورية فاضل عباس المهداوي بسبب تبوها. هذا المستوى المريع من انحطاط السياسة وانقلاب الخطاب

-71-

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

السياسي إلى نوع من البذاءات المقذعة» التى تطاول الزعماء والقادة دون حياء؛ لم يكن سوى التجسيد الفعلي لثقافة سياسية شائعة» سرعان ما أصبح بعض العراقيين يردد مفرداتها بكثير من الفخر والاعتزاز والتعصب. إن العودة إلى أحداث تلك الحقبة وتحليل غغط التوترات السائدة» يتطلب جرأة لا حدود لها في نقد الجماهير والقادة. ذلك أن محاولة لفهم سلوك الجماهير في الأحدث لملغية الكيرق الى سورك يشهذها العراق تاليا مسيكون امراً مستخيلاً مسن دون العودة على الجريمة المؤسسة للجرائم اللاحقة.

ارتكبت الجماهير جريمتها الأولى المؤسسة لجرائم أخرى أشد هولأء أما أبصار قادتها الجدد وبرضاهم وتشجيعهم؛ حين راحت تقطع بوحشة لا مثيل لها في التاريخ جسد الأمير عبد الإله وتعبث بعضوه التناسلي المقطوع, وتحوله إلى لعبة يمارسها الكبار في الشوارع والميادين والعامة. وهذا حقيقي تماما. كان ذلك أول من درس في السياسة تتلقاه الجماهير في الميدان وهو يقول ببساطة: إن السياسة ليست سوى جرية يرتكبها المجرم بحرية ودون خوف من رقابة امجتمع وربما برضاه. إنها حرية الطرف القوي ضد الطرف الضعيف. من المنظور الرمزي لهذه الأسطورة الجماهيرية» وفي إطار التحليل النفسي للجماهير؛ فإن بتر العضو التناسلي للوصي على العرش والاستحواذ عليه وتحويله إلى لعبة» يتوازى مع فكرة بتر السلطة والعبث بها. لقد فهمت الجماهير الثورة على أنها بتر للسلطة القديمة من الجذورء الاستحواذ عليها وتحويلها إلى لعبة. لبست السلطة في أعين الجماهير ال هائجة»؛ سوى لعبة تم الحصول عليها بؤاسطة العتف: ذلك ما سوف يستخلض :بعد اشتهر فقط من هذا الحادث المخزي.

72 -

الفصل الأول : الأحمرء؛ والأبيض؛ والأسود

والآن: لما كانت العقائد الجماهيرية التي أصبحت في العام الأول من الثورة في متناول ا جتمع كل وذلك مع تدفق المنشورات وصدور الصحف الحزبية والخطب في المهرجانات العامة والتظاهرات؛ تركز على الفكرة ذاتها وهي: إن الجماهير يجب على أن تحتكر السلطة. بما أنها صاحبة المصلحة التاريخية في التغيير - كما يقول الخنطاب الشيوعىي ‏ وهي قائدة الانقلابية الثورية كما يقول الخطاب البعئي؛ فقد فُهمت السياسة عندئليه وعلى أكمل وجه على أنها نوع من صناعة محلية للاستبداد. لقد صار بوسع الجماهير منذ الآن أن تتلاعب بالسلطة؛ وإن تعبث بأعضائها المبتورة والمقطعة بعد أن مكنها القادة من الظروف والوسائل والمبررات لبترها كما بُتر العضو التناسلي للأمير الشاب. هذا المعنى السيكولوجي والأسطوري سوف يتجسد في تشظي سلطة قاسم نفسه. وتوزعها بين المليشيات الجماهيرية البي عون الف 1 الشارع الحقيقي منذ الآن. في أعقاب هذا الحادث مباشرة اندفع الحزبان السريان إلى العمل شبه العلني» وانقلا بسرعة من الأوكار والبيوت السرية: إلى الشوارع والأزقة والأحياء الشعبية بحثاً عن الجماهير وتلهفاً للقاء الحميم معهاء ورمزياً لاسترداد العضو التناسلي المقطوع. ولكن من دون أن يُسائل الشيوعيون أو البعثيون أو القوميون الناصريونء أنفسهم, عما إذا كانت الجماهير التي ارتكبت جريتها الأولى للتوه هي مادة قابلة أو يجب أن تكون قابلة للمُراجعة ولإعادة النظر في نوع فاعليتها المطلوبة؛ وبالتالي إخضاعها لبرنامج تهذيب حقيقي يفصل الجزء الغوغائي وما لصق به من رعاع؛ عن النواة الشعبية المتطلعة إلى تحسين شروطها التاريخية في الجتمع.

بدلا من ذلك كله. تسابق الحزبان وانشغلا في مباراة محمومة للفوز بقلب الجماهير» وراح نفوذهما يشهد تداخلاً وتشابكا من نوع جديد للبيئات

-73 -

الفصل الأول 0 الأحمسر والأبيض, والأسود

المذهبية» فأصبح هناك كثير من الشيعة في البعث. وفي المقابل كثير من أهل السنة في الحزب الشيوعي. في الواقع لم يعكس هذا التوجه المتبادل والموافق عليه ضمنياً من الطرفين» أي فكرة حقيقية» بقدر ما كان مُحاولة منهما لدرء الشبهات عن البُعد الطائفي في تكوينهما السياسي.

فيما بعد» سوف يتعرّف بعض الضباط على القاتل الحقيقي للأسرة الملكية» والذي تسبب في حالة المياج فالجريمة. كان النقيب عبد الستار العبوسي د شيضيح بع الثورة فررتبة عقيل - كما سيول هر عن نفسة في تقرير رقع إلى الزعيم عبد الكريم قاسم؛ ضابطأ مُحترفاً قليل الاهتمام بالسياسة؛ ولذا لم يبادر إلى الانضمام على تنظيم الضباط الأحرار. سمع العبوسي بنبأ الشورة من الإذاعة» فاندفع مع المهاجمين الذين توجهوا في فورة جماهيرية شارك فيها المدنيون نحو قصر الرحاب ‏ قصر العائلة الملكية - يروي فالح حنظل ( أسرار: انظر الهامش» ص: 131) أنه التقى العبوسى مرة واحدة بعد الشوص: وسأله عن السبب الحقيقى لإقدامه على إطلاق النار على العائلة الملكية؛ بينما كانت تعلن استسلامها ويصطف أفرادها في الحديقة» وكانت إحدى العجائز: ربما الأميرة الكبرى ترفع مذعورة نسخة من المصحف الشريف؟ رد هذا بالقول أنه قام بعملية القتل وهو في حالة هوس ( كأن غيمة سوداء لفت بآصرثه وأن إصبعه ضغط على زناد رشاشه عندما كان لا يعي ما يدور حوله). ويصف العقيد عدنان محمد نوري, أحد زملاء الضابط القاتل في تقرير مؤثر( انظر: أسرار» ص: 146) الحالة النفسية لمرتكب الجريمة بعد مرور نحو ست سئوات. يقول نوري: أنه التقى في منطقة خليفان ‏ شمال العراق ‏ عندما كان آمراً لفوج تابع للواء الخامس عشر وإثناء إحدى الحملات العسكرية على الأكراد؛ بالضابط القاتل وأعاد عليه السؤال نفسه:

- 74 -

الفصل الأول : الأحمر والأبيض, والأسود

فأجابني: عدنان. أنك لم تعلم بأنني لم أذق طعم النوم منذ قتلي الملك. إنه يأتي إلي في المنام لابسأ قميصاً أبيض ويقول لي: لماذا قتلتني؟ هل أصابك ضرر منى؟ هل قمت بخطأ ما؟ لماذا حرمتني لذة الحياة وأنا في ريعان الصبا؟ ويتكرر علي الكلام كل ليلة ولم أذق طعم النوم طيلة هذه الفترة فيا ريت ( ليت ) تصيبني طلقة أو شظية قنبلة.

نام القتيلٌ نومته الأبدية إذأ ولم ينم القاتل. بل لن ينام أبدأ ما دامت أطياف الملك الصغير تحوم فوق سريره كل يوم؛ ساهرة تعيد عليه المرة تلو المرة السؤال ذاته: لماذا قتلتنى؟ ماذا فعلت لك؟ بل إن القاتل سوف يرفع توسلاته للقدر أن تطيح به رصاصة طائشة أو شظية قنبلة. ذلك ما سوف نفهمه من شهادة الضابط القاتل في وقت تال وفي العام 1969» حين يبادر العبوسي بنفسه لوضع حد لآلامه ويطلق على رأسه رصاصة الرحمة من مسدسه الشخصي. مات القاتل مُنتحراً بعد سنوات من عذاب الشعور بالإثم» وبعد سنوات من العزلة الاختيارية والانقطاع عن الحياة العامة. لقد انزل القصاص بنفسه عاقبها على الجريمة عندما تمئّع القانون والمجتمع عن فعل ذلكء؛ لقد أخذ العدالة بيديه وتكفل بإنزال القصاص بنفسه. المثير للاهتمام في هذه الحكاية أن السلطات المتعاقبة في العراق» سلطة قاسم ثم عارف الأول 1963 وعارف الثاني فالبعث 1968. لم تفكر مجرد تفكير بإحالة ملف الضابط القائل على القضاء حتى وإن كان هذا فارق الحياة. والمجتمع نفسه لم يُطالب بذلكء. بل تجاهل القصة. أما السياسيون والأحزاب؛ فإن استرداد رواية الثورة كان ينقصه على الدوام؛ التوقف عند هذا الجزء المثير منها. إن حالة الضابط القاتل نموذجية في التحليل؛ فهو ليس سياسياًء وبالتالي فليس ثمة دوافع أو بواعث سياسية لارتكاب جرعة بهذا الحجم. وعلى العكس من ذلك؛ فإن سلوكه

0

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

كضابط محترف؛ مسلكي حسب التعبير العراقي الْْحَّبب» يفرض عليه القيام بواجب الدفاع عن الملك والعرش وحماية العائلة الملكية.

فما هي بالضبط دوافع الجريمة؟.

حسب شهادة القاتل؛ فإنه كان في حالة هوس. إن منظر الجماهير المائجة والمندفعة صوب القصر هو البعث الوحيد الذي يمكن. أو يجب أن يؤدي إلى شيوع نط من ال هوس الجماعي في الشارع؛ حيث غابت السلطة أو تلاشت عنه للتو. لقد حدث فراغ مفاجئ في الدولة مع تلاشي رموزها وانهيار القوة الممسكة بمفاصلها الرئيسة.

وكما في كل الثورات في التاريخ؛ فإن الجماهير الحائجة تتجه إلى الرموز المباشرة للسلطة لتقوم بتقويضها. وفي حالة العراقيين كان قصر الرحاب واحدأً من الرموز الدالة على السلطة الملكية. إن شهادة الضابط القاتل التى يؤيدها عبد الجبار العمر في مؤلفه ( الكبار الثلاثة: ثورة 14 تموز ساعة ‏ بغداد 1990 بلا ذكر لدار النشرء ص: 203-193) تلقي بعضاً من المسؤولية على عبد السلام عارف شريك قاسم في الثورة ‏ ورئيس الجمهورية في ما بعد فهو استحسن عملية قتل العائلة المالكة أثنى على الفاعل عندما سرد عليه القصة. كما تنسب رواية العمر لكاتب وأديب عراقي كان ضابطأ في الجيش هو نعمان ماهر الكنعاني؛ تأكيده أن رفعت الحاج سري وأثناء المداولات السابقة على الثورة» اقترح نفي الأمير عبد الإله خارج العراق» بينما يُكتفي باعتقال الملك والضغط عليه للتنازل عن العرش ومن ثم نفيه بعد أن تستقر الأوضاع. إن صدور مثل هذا الاقتراح عن رفعت الحاج سري له مغزاه الشديد في ها النطاق

" العمر ( عبد الجبار ) ثورة 14 تموز في 14 ساعة؛ بغداد 1995 - 76-

الفصل الأول : الأحمرء والأبيضء والأسود

من الرواية. كان رفعت ضابطأ لامعأ ويتمتع بنوع من الكاريزما حتى أنه لقب يبجمال عبد الناصر العراق» لا لأفكاره القومية وحسب وإنما لقوة شخصيته ووطنيته العالية وثقافته الممتازة.

ولأن هذا الحادث يرتبط ‏ على نحو ما برفعت ‏ فسوف أن أتوقف هنا أمام مثالين مضادين؛ يمكن من خلالهما إنعام الفكرء والتامل مليا بالمغزى الحقيقي لشعور ضابط محترف لم تكن له أية صلة بالسياسة» بأنه كان في حالة هوس أثناء وقوع حدث سياسي؛ وهو اندفع دون تعقل مع الجماهير نحو القصر الملكي ليمارس حقه في المشاركة السياسية؟ كما أن له علاقة بالمقترح الذي تقدم به رفعت.

المثال الأول قدّمته الجماهير المصرية إبان ثورة 23 تموز/ يولي و1952 وبالضبط قبل ست سنوات من الثورة العراقية» عندما نجح الضباط الأحرار ( ها هنا ضباط أحرار أيضاً كما سنرى تاليا في ثورة العراقيين) في محاصرة الأسرة الملكية المصرية» واندفعت الجماهير إلى الشوارع. جرت في أعقاب ذلك مباشرة» مفاوضات شاقة ولكن بدرجة عالية من الانضباط والحخرص على التوصل إلى مخرج سلمي؛ وانتهث بإعلان الملك فاروق تنازله عن العرش لصالح ابنه الصغير فؤاد الثاني ثم مغادرة مصر إلى إيطاليا. وحين تم ترتيب عملية مغادرة الملك للبلاد» أدّى الضباط الثوريون المصريون التحية العسكرية للملك وهو يصعد إلى سطح السفينة» بينما أبدت الجماهير المصرية درجه علية من الانضباط وهي تشارك في الاحتفال الوداعي للملك.

كان هذا المثال حاضراً بقوة في الذاكرة العراقية ولكنه لم يكن مغرياً ومؤثرأء كما سوف يتضح من مجرى الأحداث على الرغم من التمائل الشديد في الحالتين المصرية والعراقية.

-77-

الفصل الأول : الأحمر؛ والأبيض؛ والأسود

أما المثال الثاني» والذي يتمتع بميزة جغرافية وثقافية هامة» فهو المثال الإيراني» فقد أرغمت الجماهير الإيرانية شاه إيران على الرحيل سلماً عن البلاد بعد أن حاصرته سياسياً وميدانياً وطوقت قصره بالتظاهرات في مطلع الخمسينات ( نحو خمس سنوات قبل ثورة تموز العراقية). وبالفعل؛ أمكن تأمين خروج سلمي وهادئ للملك وأسرته ( وهذا ما سوف يتكرر في العام 1979 مع ثورة الخميني). لم تجرتصفيات جسدية بشعة ولم يحدث تمثيل بالقتلى.

في المثالين المصري والإيراني» كشفت الأحداث عن إمكانيات عالية في اجتمعين بفضل قوة الثقافة الجتمعية ودرجة التمدن, لتغليب الميول والنزعات السلمية والتعقل وحسن التدبير على ما عداها من حارج وحلول غر آمنة وعنيفة وومُكلفة» لقد تم تفضيل الحلول العقلانية على نزعات العنف. فلماذا افردت الحالة العراقية عن النموذجين المصري والإيراني؟. هل ثمة مرجعية أخرى بديلة يطرحها النموذج العراقي لحل أزمته؟ كنت قد توقفت طويلاً في الكتاب السابق ( من أيقظ علي بابا - الريس للنشرء بيروت) عند مسألة العنف كمكون أصيل في الشخصية العراقية» ولاحظت أن طاقة العراقي وميوله ولاغاتة الجتمعية ننسة إلى قازسة اتضى درجة مو العسقا الداعلي يننا تتراجع هذه الطاقة وتتراخى الروح الوطنية أمام مواجهة العنف الخارجي. وفي نموذج جريمة الضابط وجرية الجماهير ‏ الذي نقوم بتحليله هنا يتأكد لنا أن المياج الجماهيري بحد ذاته ومعزولاً عن الثقافة السائدة في اجتمع» ليس باعفاً كافياً لتبرير حالة ال حوس اللازمة لارتكاب الجريمة. وعلى الأرجح. ثمة بواعث أخرى أكثر قوة هي التى وقفت وراء شعور الضابط؛ وكأن غيمة سوداء لفت بآصرته وبحث ضغط على الزناد من دون إرادته. وإذا ما تقبلنا تبرير الفرد

-78-

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

الجرم لدوافع جريمته بسهولة» ففي هذه الحالة يجب أن نتقبل تبرير الجماعة ا مجرمة؛ وكل جماعة مجرمة» فهي كانت أيضاً في حالة هوس من إنتاجها وتصنيعها. أو كأن غيمة سوداء لفت رأسها حسب تعبير القاتل.؟. غير أن مثل هذه المبررات الواهية لا يمكنها أن تقدم تفسيراً للحدث. ولذا يتعين رؤيته في إطار مختلف.

إن تدني درجة التمدن في الجتمع العراقي وضعف التهذيب المجتمعي. والذي لاحظه الملك فيصل الأول في مذكراته عام 1932. عندما خاطب العراقيين بقوله إنه جاء ليكون منهم ( شعباً نهذبه ونعلمه) وأنه ( لا يرى شعباً عراقياً) بل ( كتلات خيالية كبرى)0 انظر الفصول التالية البنيوية في الجتمع العراقي تنشيطأ لنزعات وميول العنف. وسوف نكرس فصلاً كاملاً في هذا الكتاب من أجل رؤية العلاقة بين الجماهير والسياسة والمعرفة» من منظور فشل وإخفاق التحديث في العراق خلال السنوات السابقة على الثورة.

واحدة من هذه الاختلالات المأسوية تكمن في إطار الفكر. بمعنى أن الاختلالات البنيوية لم تعد تنحصر في نطاق البى المجتمعية كما هو متوقع» منذ أن توقفت بفعل الحروب المتعاقبة بة الإيرانية ‏ التركية فوق أرض العراق» وطوال أربعماثة عام متواصلة تقريباًء كل محاولات الإصلاح والتحديث الحقيقية ومنها آخر محارلة كبرى لداود باشا في العام 1910؛ بل وتجاوزتها إلى ظهور مشكلات مستعصية على الحل في نطاق الموضوعات الفكرية؛ وتلازمت مع تطورها وما كان لا إلا أن تتجذر مع الوقت.

لقد أخفقت النخب العراقية السياسية والثقافية» وبتعاقب واستمرارية مثيرة ومريرة» منذ سقوط بغداد 1258 في يد المغول مروراً بالعصرين الإيراني والتركي وحتى اليوم» في طرح برنامج إصلاحي حقيقي. وبالكاد يعثر المرء في

-79 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

التاريخ الاجتماعي والسياسي للعراق» على تصورات فكرية أو ثقافية متماسكة أو على ما يمكن اعتباره تشكلاً لنظرية مجتمعية في الإصلاح. على العكس من ذلك. يمكن للباحث أن يعثر على سجالات بعضها عقيم للغاية؛ انغمست فيها النخب على نحو لافت في موضوعات لم تلامس لب المشكلة. وباستثناء المعارك الأدبية والفلسفية التى خاضها الزهاوي وقلة قليلة فققط من الكتاب؛ والمعارك الرائعة من أجل تحرير المرأة والدعوة إلى السفور, أي خلع ( العباءة) والحجاب؛ فإن الخمول واللامبالاة إزاء المشكلاث الاجتماعية الكبرى كان السمة البارزة للنشاط الفكري والثقاني. يروي خيري العمري ( حكايات سياسية من تاريخ العراق الحديث؛ دار الحلال المصرية ‏ القاهرة 1969) 9 7 فصولاً هامة للغاية عن تأثير حركة قاسم أمين في مصرء على التيارات الفكرية التمدينية داخل العراق. من بين أبرز هذه التأثيرات وأكثرها قوة» تنامي نزعات تحرير المرأة. كان العراق إذ ذاك غارقاً في سبات عميق من الجهل ( ص: 94):

مُتكمشأً على مُثل بدوية وقيم اجتماعية لا تكاد تعطي المرأة أية قيمة بشرية كإنسان له إحساسه وله كرامته. بل كانت المرأة تحت ظل تلك الكل تعيش على هامش الحياة وراء جدران عالية من التقاليد القديمة.

للتدليل على نمط التخلف هذا والذي يصفه باقسى العبارات؛ ينقل العمري عن كتاب إبراهيم الدروبي ( البغداديون: مجالسه وأخبارهم) القصة التالية التي دارت أحداثها ني العام 1904 في أيام ولاية عبد الوهاب باشا. عندما أراد الوالي عبد الوهاب باشا القيام بإحصاء سكاني خاص بالنساء وتسجيل عدد النساء في العراق؛ قرر ومن أجل تشجيعهن على التقدم

'! العمري ( خيري) : حكايات سياسية من تاريخ العراق الحديثء القاهرة مصرء دار الحلال 15069

- 80 -

الفصل الأول : الأحمر والأبيض, والأسود

للتسجيلء منح تذكرة سفر مجانية في بغداد والموصل والبصرة لكل امرأة. ما أن شاع النبا حتى ثار الناس وعدو القرار نوعاً من المس بالشرف. إذ كيف يجوز للوالي دعوة النساء للخروج من البيوت؟ ولذا هب أهالي محلة باب الشيخ والصدرية ‏ سراج الدين - ورأس الساقية وفضوة عربء وهي أحياء بغدادية شعبية عريقة» يتقدمهم أحمد أفندي النقيب ومحمد جمال الدين النقيب. كما خرجت جموع حاشدة من أهالي محلات بنيى سعيد وقنبر علي والفضلء تتقدمهم الطبول وهم مُسلحون بالسيوف والخناجر والبنادق و( القامات ‏ سكاكين طويلة) حيث تعالت الأهازيج الشعبية والموسات البغدادية المتُحدية.

على هذا النحو حدث أول وأخطر صدام بين الجندرمة ( الشرطة) والأهالي على خلفية محاولة ذات صلة بالتمدين الاجتماعي. لم ينته الأمر إلا بتراجع الوالي عن فكرة الإحصاء برمتها. بعد أربع سنوات من هذا الحادث؛ أعلن الدستور العثماني في تموز/ يوليو1908. خيّل للزهاوي أن الفرصة باتت سائحة أمامه ليلعب الدور ذاته الذي لعبه قاسم أمين في مصر. طفق الزهاوي؛ تحت تأثير قاسم أمين من جهة» وصدور الدستور العثماني من جهة ثانية» ينشر ويذيع دعواته لتحرير المرأة مُستغلاً الاحتفالات الشعبية بإعلان الدستور. كان الزهاوي أستاذا في مدرسة الحقوق ويدرّس مادة ( أحكام المجلة قانون الأحوال الشخصية). في مُستهل شبابه كان ينشر مقالاته وأفكاره في مجلة عالم الفكر والأدب المصرية وتالياً في ( المؤيد).

في جريدة ( المؤيد )كتب الزهاوي عام 1910 مقالته التي أثارت أكبر عاصفة فكرية واجتماعية في عراق ما قبل الحرب العالمية الأولى. قال الزهاري ما يلي( خيري العمري ‏ مصدر مذكورء ص: 99):

- 81 -

الفصل الأول : الأحمر والأبيض, والأسود

أجاز المسلمون أن يقسوا الرجل على المرأة ويستبدطا بغيرها كسقط المتاع رادأ إلى حضنها أطفاها الذين هم نتاج شهوته. وربما كانت المرأة الشرسة هي السبب لهذا الفراق. ولكن ما حيلة المرأة الوديعة إذا منيت برجل شرس الأخلاق. لماذا لم يُجز المسلمون أن تطلقه لتنجو من شراسته وقد قال تعالى في كتابه المبين بعد آية الطلاق ( وطن مثل الذي عليهن)؟

هذه الجرأة التى تبلغ مستوى الوقاحة؛ بمعايير رجال الدين» صدرت عن رجل أعد نفسه كمصلح في مجتمع شديد التخلف. يضيف العمري: ( ولم يكد هذا العدد من الجريدة يصل بغداد وتتناقله الأيدي» حتى ثارت ثائرة الرأي العام. سارع الشيخ سعيد النقشبندي إلى كتابة رد ناري عنوانه: السيف البارق في عنق المارق). تلقفت الجماهير هذا الرد وراحت تطوف شوارع بغداد يتقدمها مصطفى الواعظ ومحمد سعيد الراري مُطالبة بعزل الزهاري من وظيفته كمدرس. في هذه الآثناء اضطر الوالي الإصلاحي ناظم باشا إلى تلبية رغبة الجمهور الثائر وقام بعزل الزهاوي. كان الوالي ناظم باشا أكثر تعاطفاً وميلاً لحزب الائتلاف؛ في حين كان الزهاوي من أعضاء حزب الاتحاد والترقي. الحزبان كانا في حالة تنافس شديد وتنافر» ولذا لم يتمكن الزهاوي من الصمود في وجه العاصفة. وبلغ خوفه وذعره من هياج الجماهير حداً اضطر معه إلى التواري عن الأنظار. ومن مخبأه أرسل توضيحاً لجريدة بغدادية تدعى الرقيب موجهاً إلى الوالي ناظم باشاء يتبرأ فيه من الأفكار المنسوبة إليه ويدعى أنه ليس كاتب المقال. في وضع كهذاء كانت الهوة تتسع داخل الكتاب: ( الذي لم يتحول بعد على كتلة واحدة كما سوف يتمنى الملك فيصل الأول؛ مهذبة ومتعلقة ومُتمدنة) بين الأفكار الجديدة القادمة من الخارج مثل الماركسية؛ او الوافدة من الحيط الإقليمي مثل الأفكار القومية والعروبية ‏ أفكار عفلق وعبد

- 82 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

الناصر ‏ من جهة وبين الجماهير التي ظلت خارج كل عملة تحديث حقيقية تقريباً من جهة أخرى. ( انظر الفصل الخاص عندنا في هذا الكتاب: مازق التحديث).

إن الخطوط العامة للمسار التاريخي الفكرة التحديث في العراق» الذي أخفقت النخب السياسية في إطلاقه» لهو مسار يكشف بكل وضوح عن المعنى الحقيقي لكرتنا عن تدني درجة التمدن وعلاقتها بالعنف السياسي. وهذا النوع ما يدعونا للعودة إلى توصيف الحالة السياسية لعراق الثورة» من أجل رؤيتها من منظور إخفاق محاولات التمدين الاجتماعي.

بعد وقت قصير من ثورة تموز/ يوليو 1958 أصبح فؤاد الركابي الأمين القطري لحزب البعث. وزيراً للأعمار في حكومة قاسم.؛ بينما انغمس الشيوعيون مستغلين الأوضاع الجديدة في تشكيل مليشيات مُسلحةهي مليشيا المقاومة الشعبية» ليفرضوا سيطرة فعلية على الشارع وليتحؤلوا بسرعة من حزب سري إلى حزب شبه علبي؛ يشتبه بموالاة قاسم له أو تعاطفه معه على ما تقول بعض الوقائع والتقديرات. لم يكد العام الأول من الشورة يمضيءحتى حدثت أولى الصدامات والتنازعات بين الحزبين الجماهيريين. شعر البعثيون إنهم أصبحوا تحت رحمة مدّ يساري وشيوعي أطلقوا عليه تعبيراً مُشحوناً بالذعر: المدّ الأحمر؛ كناية عن طوفان بشري اصطبغ بلون عقائدي بعينه. كان المدّ البشري الأحمر من وجهة نظر البعثيين» مُسلحاً ومُتنفذا ومحمياً من زعيم الثورة قاسم. وهذا ما ستبرهن الأيام على أنه كان محض ادعاء فارغ. وبسرعة غدا البعئيون وقد راعهم تنامي نفوذ الشيوعيين وأذهلتهم الطرق والوسائل؛ التى اتبعوها من أجل الاستيلاء على الجماهير وتحويلها إلى أداة استبدادية؛ اكثر توتراً وإحساساً بالخطر فقد تدفقت على الحزب الشيوعي وميليشياته أعداد

- 83

الفصل الأول 0 الأحمسر والأبيض, والأسود

هائلة جديدة من أبناء الأحياء الفقيرة ومن الفلاحي في الأرياف. بل وحتى شيوخ العشائر وبعض الإقطاعيين في الشامية والعمارة والكوت. بدات الاحتكاكات الأولى بين الحزبين وتطورت بصورة مثيرة» إلى نزاع مكشوف واتهامات متبادلة. ثم أخذت بعداً عنيفاً مع تزايد حالات الاعتقال والتشريد والسجن وحتى التصفيات الجسدية.

كان البعث بقيادة الركابي أمينه القطري في هذه الآونة» يواجه مشكلات تنظيمية فظيعة في تعقيدهاء فقد كانت القيادة القطرية للبعث تعاني من نقص في عدد أعضائهاء بسبب وجود بعضهم في السجن أو اضطرارهم للهروب أو توقيفهم عن العمل. سارع الركابي إلى طلب موافقة مؤسس الحزب ميشيل عفلق» الذي كان يدير القيادة القومية من سورية بمفرده بعد أزمة حل الحزب أثناء الوحدة مع مصر؛ لأجل إضافة ثلائة من الكادرات البعثية إلى القطرية العراقية كان من بينهم شيعي واحد هو طالب شبيبء الذي سوف يصبح وزيراً لخارجية العراق تاليأء بينما كان الاثنان الآخران من أهل السنة. هما أياد سيعد ثابت ومدحت إبراهيم جمعة. اتبْعَ الركابي هذا التدبير العاجل؛ بإجراء آخر كان ضرورياً بالنسبة له لاستعادة زمام المبادرة» إذ اتجه نحو حلفائه من القوميين والعروبيين لتشكيل تحالف سياسي؛ يمكن من خلاله مواجهة نفوذ منافسيه الشيوعيين. وقبل أن يمضي العام الأول من الثورة» حتى كان الركابي ينجح في تأسيس التجمع القومي المؤلف من حزب الاستقلال بقيادة محمد صديق شنشلء» والرابطة القومية بقيادة الدكتور هشام الشاوي» وفرع حركة القوميين العرب ببمثلها حامد الجبوري؛ فضلاً عن ممثلين عن نقابات الأطباء وا حامين والمعلمين» وكان أحد الضباط القوميين المستقلين وهو ناجى طالب ( الذي سوف يصبح تالياءرئيساً للوزراء) مُشاركاً في التحالف الجديد كممثل عن

- 84 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

جماعة قومية مستقلة. ويبدو أن المهام الحقيقية للتجمع لم تكن بالغة الوضوح في أذهان صناعه وأتضح مع أول عمل حقيقي له أنه كان ينبني عل نوع من ردود الأفعال إزاء التحديات؛ أقل ما يُقال بحقهاء أنها أقل حصافة نما عهد به سلوك والعقائدية.كان الركابى الذي حظى باستمرار باحترام وتقدير حتى خصومه؛ وحيال مضايقات الشيوعيين للقوى القومية في الشارع؛ عازماً على القيام بخطوة ذات طبيعة استعراضية» تمكنه من إظهار قدرته أمام خصومه ومنافسيه. ولذا اقترح في أول جلاسة للتجمع تقديم استقالة جماعية للوزراء القوميين من حكومة قاسم وتركها تتخبط. ولكن وبينما كان الركابي يخطط لهزة سياسية في البلاد» تتيح له فرض نفسه ومعه البعث والحركة القومية كشريك سياسي؛ كان العقيد عبد الوهاب الشواف يحضر بمعاونة الضباط القوميين في بغداد والموصل لانقلاب عسكري.

إن العام الأول للشورة عام نموذجي من حيث التفاصيل والوقائع والأحداث. التى رافقت عملية تفكك التحالف السياسي القديم للأحزاب الجماهيرية. لقد كانت هذه الأحزاب قبيل سقوط الملكية» تغطس في مشاورات ماراثونية مُضينة من أجل تجميع نفسه وقواها داخل إطار سياسي عريض وبأهداف واضحة نسبياً. ولكنها سرعان ما وجدت نفسها في قلب حدث جماهيري تمنت صناعته؛ غير أن الأقدار ساقت بدلاً منها ضباطاً من الجيش ليلعبوا الدور نفسه. ومع أول احتكاك بأرض الواقع انفرط العقد السياسي وأتضح أن الروح الأنانية الضيقة والتعصبات الإيديولوجية الفارغة» والشهوة واحتكار تمثيلهاء والاستعداد الأفرط للانغماس في أتفه النزاعات وتحويل

- 85

الفصل الأول 0 الأحمر والأبيض, والأسود

الإشكاليات اليومية إلى مصدر للتوتر الاجتماعي» فضلاً عن وتراخي العزيمة الحقيقزة ياك وعاية المضالح العلينا للمجتمع :والدولةوتففبيل مالع الحزب على المصلحة التاريخية للبلاد؛ قد أدت كلهاء إلى تسريع وثيرة التصادم في الشارع الذي سرعان ما انقسم إلى قوميين وشيوعيين» ثم راحت الولاء آت تتوزع من الأسفل إلى الأعلى لتشطر القيادة السياسية والعسكرية» ولتتعالى - عند تر في السماء ال لبدة بغيوم الشقاق - الحتافات البذيئة ذاتها. كان الفكر السياسي العراقي ينحط إلى أسفل درك وتتحول السياسة إلى شتائم مُقذعة سوف تسمّم أجواء المجتمع كله. وبالفعل» بدأت التصدعات تظهر خلال هذا العام بين قائدي الثورة عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارفء لتنعكس مرة أخرى في الشارع السياسي العراقي في صورة تنازع أعم وأكبر على دور العراق المستقبلي: مع الوحدة العربية وضدها؟

كانت الثورة المصرية تستكمل في هذا الوقت» ملامح مشروعها القومي - النظري - وتطرح نفسها وأهدافها وأفكارها كمشروع خلاصي عروبي» يعتمد على جماهير الشعب العامل. وني هذا الوقت. وحين كان الركابي يواجه مشكلات التنظيم في العراق» ويكابد من أجل سد النقص في الكادرات القيادية» بعد عمليات الاعتقال والإبعاد والسجن, ويتحرك من أجل تشكيل التجمع القومي لمواجهة النفوذ الشيوعي في الشارع؛ كانت قيادة الحزب القومية في سورية تغرق في مشكلات ونزاعات» سوف تترك فرع العراق حائراً ومُشتتاً. بل إن الركابي وجد نفسه وقد وقف بين قوتي جذب هائلتين: الفكرة البعثية التى آمن بها كما صاغها معلمه عفلق» والفكرة الناصرية الصاعدة بنفحتها العروبية المنعشة والمفاجئة» حيث زعامة عبد الناصر الكاريزمية الأخاذة تسحر الجماهير والقادة في طول الوطن العربي وعرضه.

- 86

الفصل الأول : الأحمرء والأبيضء والأسود

بكلام آخرء كان زعيم البعث في العراق» نفسه. قد أصبح تحت تأثير كاريزمية عبد الناصر الطاغية» التى أخذت تشع في بغداد. وفي الواقع كانت القيادة القومية لحزب البعث في سورية؛ غائبة تماماً عن هذه التطورات التي واجهت فرع. التيب العراقي» إذ أقدم ميشيل عفلق على حل تنظيم الحزب». تمامأً كما اشترط عبد الناصر من أجل قيام الوحدة بين مصر وسورية. ولذا الفرة عفلق بإدارة شُوون الحرزب على المستوى القومي ف جو كامل مين الإحباط طاول حتى جماهير الحزب, التيي لم بد تفهما كافيا لمغزى القرار. في هذه الأجواء بدأت أولى العلامات على أن الركابي بات فعلياً تحت تأثير السحر الجماهيري لعبد الناصر. إنه لمن النادر في التاريخ الاجتماعي والسياسي رؤية زعيم سياسي عربي يجد نفسه تحت تأثير كاريزما قوية لزعيم آخرء ومع ذلك فقد حدث الأمر مع القائد الشيعي البعث الذي سوف يصبح تاليا وبعد خروجه من البعث جزءا من الناصرية السياسية» بل وسيموت في سجنه البعثي بعد سنوات كزعيم ناصري.

كانت هذه المشكلات والتوترات التى واجهت البعث بعد العام الأول من الثورة» قد شجعت على نحو ما الميول والنزعات للحل العنيف حتى في أوساط المدنيين في الحزب, الذي دعوا إلى إسناد حركة الشواف الانقلابية. بعد أيام فقط من قرار التجمع تقديم استقالة جماعية للوزراء القوميين من حكومة قاسم» قدمت الاستقالة بالفعل وانسحب الركابي وشنشل وناجي طالب» فضلاً عن وزير كردي هو بابا علي كما سارع عضو في المجلس السيادة الذي يرأسه نجيب الربيعي ( بمثابة مجلس لرئاسة الجمهورية) هو خالد النقشبندي. إلى تقديم استقالته هو أيضأ من ال مجلس؛ بينما طلب الركابي برجاء صريح وبلطف من الربيعي» البقاء في موقعه منعاً لحصول فراغ دستوري في حال مصرع قاسمء

- 87 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

أو في حال وقوع حدث أو تطور سياسي مفاجئ. كان نجيب الربيعي» الموصلي السنى في هذه الإثناء يتصل بالبعثيين سرأء وينسق معهم بحذر شديدء ذلك أن موقعه كرئيس مجلس السيادة ‏ عملياً كرئيس للجمهورية ظل شكلياً وقليل الحظوة والأهمية وقياساً لمنصب رئيس الوزراء الذي احتفظ به قاسم. وتما ضاعف من شعور الربيعي بالضيق أن الشيوعيين فرضوا سلطة موازية في الشارع» لم تُبق ‏ بالكاد ‏ من أهمية وهيبة ذكر لأي سلطة أخرى بما فيها سلطة قاسم نفسه. وكسني مُحافظ وعسكري مُحترف مُفعم بمشاعر الوطنية العراقية؛ وجد الربيعي أنه أقرب إلى تفكير وطموحات القوميين؛ منه إلى أحلام الشيوعيين وأفكارهم المستوردة ‏ التعبير الشائع آنذاك.

في مطلع العام 1959 أيقن البعثيون تماماًء أن الشواف سوف يقوم بحركته الانقلابية بين لحظة وأخرىء وأن لمن الأجدى لهم في ظروف استمرارية قهرهم من الشيوعيين, أن يبادروا إلى دعم الحركة الانقلابية. على أن الحزب لم يكن مُهِيأ أو قادراً من الناحية اللوجستية» على تقديم دعم فعل للشواف» وكان أقصى ما فكرت فيه القيادة القطرية هو اتخاذ قرار بنقل الأمين القطري فؤاد الركابي إلى مكان آمن, بالقر من البتاويين ‏ منطقة الرصافة من بغداد . وفور وقوع الانقلاب المتوقع وزع حزب البعث بياناً نارياً دعا فيه الجماهير على الالتفاف حول الثورة الجديدة وإسنادها.

يصف طالب شبيب العضو الجحديد في القيادة القطرية في هذه الآونة» في مذكراته التي سجلها له قبيل وفاته على كريم سعيد ( من حوار المفاهيم إلى حوار الدم ‏ بيروت 1999 دار الكنوز الأدبية) هذه الحقبة من الأحداث الي سبقت وتبعت انقلاب الشواف, عندما أصبحت بغداد بالنسبة للقوميين عموماً مكاناً في الجحيم وتحولت على منطقة قتل:

- 88 -

الفصل الأول : الأحمر والأبيض, والأسود

لكل قومي وخصوصاً البعثيين وتضج محكمة المهداوي كل ليلة بهتافات معادية لنا وبالشتيمة لجمال عبد الناصر والجمهورية العربية المتحدة وترتفع الشعارات الشيوعية المطالبة بالسحل والإعدام وشعارات أخرى مثل ( اللي ما يصفق عفلقي). كنا نعيش حالة من الذعر والخوف وأصبحت اجتماعاتنا الحزبية مخاطرة كبيرة وتوزيع المنشور السياسي تهمة شنيعة. ويستطيع كل من عاش تلك المرحلة أن يتصور الحالة النفسية المدوترة التي سادت الشارع السياسى العراقى حينذاك. وقد لعبت منظمات ( صيانة الجمهورية) التى أسسها الحزب الشيوعي و( الشبيبة الديمقراطية) و( المقاومة الشعبية) دوراً في تصعيد التوتر والخوف بإعطاء نفسها حق تفتيش الناس والبيوت واعتقال المواطنين بصورة كيفية وغير قانونية.

كانت الجماهير ذاتها التى ارتكبت للتوّ جريمتها الأولى وأفلتت من أي عملية تهذيب أو ردع؛ قد باشرت بنشر مظاهر الاستبداد في العراق كله وبتعميم البذاءات السياسية. لقد غدت منذ الآن جماهير مُسلحة بالعقيدة والسلاح؛ بل أن العقيدة أصبحت هي السلاح الفتاك بين يديها. ولذا راح البعئيون من أوكارهم ينظرون بأسى وحزن معزين أنفسهم أن هذه الجماهير ليس سوى ججماهير الشيوعيين» وحسب. أنه ليست الشعب: ما نراه ليس الشعب. بل الجماهير. وهذه ليست في نهاية المطاف سوى كتلة هلامية مُتحللة ومتسربة من طبقات شتى. وكان لسان حاهم يقول: إن في الخزان الاجتماعي بقية يمكن إخضاعها بقوة العقيدة القومية» بوسعنا إذا ما أحسنا التصرف أن نحصل والحال هذه على جماهير موازية بيضاء قومية وعروبية؛ نواجه بها هذه الجماهير الحمراء الصاخبة. ويمكنء فوق ذلك إطلاقها بوجه هؤلاء لافتراسهم وتحطيمهم. على هذا النحو تبدى الحلم بالاستيلاء على جماهير جديدة قومية

- 89 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

وعروبية» منافسة للجماهير التي استولى عليها الحزب الشيوعي؛ كما لو كان هو الهدف المقدس للحزب. لم تعد أفكار الإصلاح والتحديث ذات أهمية تذكر مقارنة بالسحر الجماهيري.

على الطرف الآخر كان الشيوعيون المفتونون بسحر جماهيرهم الكادحة والشعبية» قد أرسوا الأسس الأولى الأخلاقية والسياسية لتحويل الجماهير إلى أداة فاشية بالفعل؛ حين قاموا بتجنيدها وتنظيمها في أجهزة السياسة وك تحت شعار الدفاع عن الجمهورية ( ما يُسمى لحان صيانة الجمهورية). م يكن ثمة» سوى عدد ضئيل ومحدود للغاية من هذه الجماهير يفهم كلمة الشيوعية» التى كانت تختلط في أذهان الكثير من البسطاء ويا للمُصادفة ‏ بكلمة شيعة. وفي اللغة العربية ثمة تناظر لغوي بفضل يُنى الكلمات بين الشيوعية والشيعة. وإنني لأذكر جيداً بعض التفاصيل عن أحداث تلك الأيام؛ وكما أعاد روايتها علي كثيرون» ومن بينها تلك المتصلة بالطريقة التى تلقى فيها البسطاء والجهلة من الناس كلمة الشيوعية» وماذا كانت تعنى في أذهانهم؟ فيوم سمعت بعض الأرساط الشعبية الجاهلة والقليلة التعليم وغير المنمدنة بعد, بالشيوعية في ذلك الوقت» ظنت أن الأمر سيان مع الشيعة؛ وهذا حقيقي تماماً وأبعد ما يكون عن مجرد تمائل لغوي واه؛ إذ كان هناك قليلون فقط في الاوساط الشعبية والفلاحية ا محرومة والمهمشة تمن نلقى أي منهم أي تعليم حقيقي قبل الشورة» أو تمكن مصادفة أو بوساطة آخرين متعلمين من الإطلاع والتعرف عن كشب على الأفكار الشيوعية» ما يساعده على معرفة الفارق غير اللغوي بين الشيوعية والشيعية. بينما أمكن لهذه الأوساط في المقابل» الإطلاع على بيانات سياسية تحريضية تتكرر فيها كلمات الشيوعية والشيوعي والاشتراكية وبالفعل» فقد تلقى المجتمع العراقي العقيدة الشيوعية كموضوع سياسي لا

- 90 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

كموضوع فكري. بل لم يتسن ولا في أي وقت تقريباً حتى بعد سنوات طويلة من نشاط الشيوعيين» تلقي أو تقديم الفكر الماركسي - اللينيني في العراق بوصفه فكرأًء وإنما جرى تلقيه وتقديمه كموضوع سياسي تتكرر فيه مفردات فلسفية وفكرية واقتصادية من القاموس الشيوعي الكلاسيكي لا أكثر ولا أقل. وكان أكثر الاصطلاحات الماركسية شهرة» في هذه الأثناء. اصطلاح فائض القيمة ( فضل القيمة) الذي كان يثير عند تلقيه في الأرساط الشعبية واللامبالية» نوعاً من التهكم وربما الضحك لأن كلمة قيمة قيمة في العامية العراقية» لاافدق تعطلة رأمن امال واقا اسم نوع شتهين مخ الظعام خند العزافيين: الشبيعة يُعدٌ في شره محرم. هذه الجماهير الأمية في الغالب القادمة من أحياء شيعية فقيرة» والتى وجدت في امتلاك السلاح والنزول إلى الشوارع والقيام بحملات وتظاهرات دهم وتفتيش للبيوت والأشخاصء وامتلكت بفضل انتسابها للحزب صلاحيات وحق اعتقال مواطنين أبرياءءأو مجرد الاشتباه بهم وحتى قتلهم؛ هي التى فهمث السياسة بالضبط على أنها نوع من ممارسة للسلطة باستخدام أدوات البطش. وبذا تحولت إلى جماهير مُنتجة للاستبداد بدلا من الديمقراطية. وأضحت. مع الوقت وتعاظم النفوذء مصدراً من مصادر التوتر والخطر على فكرة ديمقراطية ذاتها.

يجب أن ننظرء الحال هذه. إلى الصراع البعثي - الشيوعي ابتداء من هذه الآونة» على أنه عُصارة صراع بين نزعتين وفكرتين تتصلان اتصالاً وثيقاً بصراع أعم حول العراق؛ كان يجري ني الأصلء في ساحة أرسع هي ساحة المصالح الدولية. ولكنه والسوء الحظ؛ كان يُخاض بوسائل سياسية متدنية الفعالية وخالية من أي درجة مقبولة من التعقل. وفي أحيان كثيرة بقدر من الانخطاط الاخلاقي للسياسة ‏ مثلاً حين تنحول الشعارات على شتائم مُقذعة

- 91

الفصل الأول : الأحمرء؛ والأبيض؛ والأسود

وبذيئة. ومن منظور تاريخي أكثر اعتماداً على المعطيات الثابنة؛ فإن هاتين النزعتين أو الفكرتين تجسدتا في صورة تنازع على الدور وطبيعته وحدوده. وبكل تأكيد كان موضوع الوحدة بين العراق ومصرء والذي نادى به البعثيون والقوميون وتصدى له الشيوعيون بعنف. من بين أبرز هذه موضوعات هذا الصراع بين النزعتين.

إن الحقيقة المذهلة التى يتوجب رؤيتها اليوم تقول لنا بوضوح ساطع ما يلي :

م يكن؛ وربما لن يكون ممكنا في المستقبل أيضاء لأسباب بنيوية تتصل بالتكوين التاريخي والثقافي للعراق» تحقيق أي نوع من أنواع الوحدة مع مصرء يصبح فيها العراق تابعاً أو مُلحقاً من الناحية الإدارية أو السياسية بمصر على وجه التحديد. كان حلم البعثيين والقوميين بتحقيق وحدة فورية وعاجلة بين العراق ومصرء لا ضرباً من ضروب الخيال السياسي وحسب. بل ويمثل ذروة الجهل بالتاريخ. فالعراقيون يشعرون إنهم ورئة أعظم إمبراطوريتين أخضعت أحداهما مصر طويلاً » بينما لم يعرف التاريخ العراقي خضوعاً لمصر. هذا الشعور الدفين في اللاوعي الجمعي وفي الثقافة الشعبية الراسبة» كان طاغياً ولا يزال برغم ضجيج العراقيين حول الوحدة. إن تحقيق وحدة كيانين نظرا إلى دوريهما على مر التاريخ كدورين متنافسين على زعامة العالم القديم» ثم على زعامة العرب مع الإسلام» يتجاوز نطاق الأحلام والتطلعات, فالدول مثشل البشر» لديها نوع من الكاريزما سواء في الجغرافيا أم في الدور السياسيء ولذلك يشعر أي زعيم سواء أكان مصرياً أم عراقيأء وبصرف النظر عن درجة عروبته؛ بأنه زعيم بلد لا يمكن إرغامه على لعب دور تابع أو ثانوي. كان عبد الكريم قاسم من هذه الزاوية ‏ وهو قبل التحاقه بالجيش عمل كمعلم في

- 92 -

الفصل الأول : الأحمر؛ والأبيض؛ والأسود

مدارس الكوت - يشعر بضغط القوميين والبعثيين في الشارع لحمله على القبول بما لا يستطيع التقدم نحوه من دون إحساس بالظلم وربما الخيانة ‏ خيانة عراقيته الكاريزمية ‏ لأن العراق من وجهة نظره هو الذي لعب الدور القيادي في العالم القديم وعالم الإسلام والفتوحات. وبالتالي فإن قبوله بقيادة مصر عبد الناصر سيكون فيه الكثير من التجاوز على التاريخ كما تلقاه هو كعراقي. وهكذاء تصارعت كاريزما الدول كما تصارعت كاريزما البشر على الدور

كان قاسم يتمثل» بعمق» فكرة العراق ( عن نفسه) لا ( فكرة الآخرين عنه) وحسبء ولذا وجد في الدعوة إلى الوحدة مع مصر وكأنها لا تعنى شيئاً آخرء سوى القبول بزعامة مصر والإذعان لمطالب غير عادلة. والحال ذاته كان مع عبد الناصرء الذي أعطي لمصر ما لم تكن تحلم به أو تستطيع الحصول عليه في أي وقت من التاريخ البعيد: دورها المرموق في قيادة عالم العرب. وهذا حقيقي أيضاً؛ لأن الدور القيادي لمصر هو ظاهرة حديثة بزغت في عصر عبد الناصر. بهذا المعنى تصبح فكرة الزعيم عن بلاده ودورها التاريخي مطابقة لفكرة البلاد لزعمائها. وبهذا المعنى أيضاً يحدث التناغم والانسجام بين الأفكار والأدوار بالنسبة للزعماء.

بالنسبة لعبد الناصر؛ فإن لمن المستحيل عليه وهو يمخوض صراعات داخلية عنيفة ضد بقايا مُخاصمين في مجلس الثورة» ومع الأخوان المسلمين كذلك. أن يتقدم في هذه الآونة بوصة واحدة على طريق الوحدة مع العراق البلد المضطربء والذي لا تهدأ ثوراته وانقساماته البركانية» نعنى العراق المطالب بالوحدة الفورية الاندماجية الشاملة. كما كان من المستحيل على عبد الناصر التقدم مترأ واحداً على طريق الوحدة مع العراق؛ إذا ما فُهم أن هذا

- 93

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

التقدم يعنى تنازله وتنازل مصر عن الموقع القيادي» لصالح عراق مضطرب ومُتنازع عليه داخلياً بين قوى متنافرة. والأمر ذاته كان مع قاسم الذي وجد نفسه في خضم صراع شيوعي - بعثي حول الوحدة الاندماجية مع مصر. على هذا النحو كان مشروع الوحدة مع مصر يصطدم في الشارع العراقي بنمط من ثقافة الإحساس بالتاريخ» ويقوم على معاينة الوقائع القديمة واستنطاتها في الشهادة لصالح الفكرة أو ضدها.

في المقابل أخفق الشيوعيون طوال الوقت؛ في تفهم المنافع الهائلة التي كان سيجلبها كل تقارب مع مصر ومهما كان بسيطاً. على الأقل كان لمثل هذا التقارب منافع استراتيجية يمكنها أن تضاعف من قيمة وأهمية أوراق اللعب في يد الحليف السوفياتي. وأكثر من ذلك؛ فإن حماية الثورة من الإمبريالية كما كان الشيوعيون يدّعون؛ سيكون أكثر واقعية كشعار سياسي لو حدث شكل بن شكال الزمحدة المسيادية تتم صر لذلا من الاتكمااس لوصراء تكشترف ضدهاء إن العودة إلى السجال السياسي المكشوف والعلنى بين الشيوعيين والبعثيين والقوميين حول مسألة الوحدة مع مصرء والذي تصاعد واحتدم مع الإعلان عن وحذة سورية ومصر في هذه الحقبة» سوف يبين وبجلاء نوع وطراز المعضلة المثارة في الشارع العراقي.

في أجواء النقاش السياسي المحموم حول الوحدة مع مصرء هذه. وقع انقلاب عبد الوهاب الشوافء الذي أحمد بسرعة وتم إلقاء القبض على منفذيه.

وعلى الفور بدأت أغرب الحاكمات في التاريخ وهي التى ستعرف تالياً بمحكمة المهداوي. ويذيع صيتها السيء مع محاولة اغتيال قاسم. كانت الحاكمات الصورية والمرتجلة وغير القانونية» فرصة جديدة للجماهير التي

- 94 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

أضحت منذ الآن جماهير رعاعية بفضل انتصار شرائح من الغوغاء والرعاع على حركتهاء وهي شرائح وججماعات تعتمد استراتيجية واحدة: نشر الاستبداد. وبالفعل فقد نظم الشيوعيون تظاهرات صاخبة تطالب قاسم بإعدام الضباط المتآمرين» وكان مُثيراً بالفعل» أن الشعار الوحيد الذي دوى في الشوارع آنذاك هو: ( لا تقول ما عندي وقت, أعدمهم الليلة). إن هذا الشعار ليلخص» ؛ بأبلغ الكلمات موقف قاسم الحقيقي» فقد ظل متردداً إزاء الحكم بالموت على رفاقه وتلاميذه من الضباط المتآمرين مُتذرعاً بمشاغله وإن لا وقت لديه لإعدام رفاقه القدامى؟ وقع الانقلاب أو ما يُدعى في أديبات البعثيين والقوميين ‏ انتفاض الموصل - يوم 8 آذار/ مارس 1959. كان قاسم يشارك في احتفال لمناسبة يوم المرأة العالمي عندما تلقى نبا الانقلاب من مساعديه. وعلى الفور طلب التحدث هاتفياً مع قائد حامية الموصلء لكنه تلقى ردأ مُزعجاً من الضباط الذين دبروا الانقلاب هناك. لم يتمكن قاسم من النوم ذلك المساء وظل حائراً بالطريقة التي يتوجب إتباعها لثنى الضباط عن الاستمرار في انقلابهم. وصباح اليوم التالي أدرك أن الشيوعيين قد أخخذوا زمام المبادرة بالدعوة إلى سحق الخونة؛ حين راحت صحيفة اتحاد الشعب الشيوعية تلوح بخيار المقاومة الشعبية. أرسل قاسم سربأ من الطائرات لقصف الحامية المتمردة؛ وإثر القصف اضطر عبد الوهاب الشوافء الذي أدرك مبكراً أن الاتقلاب أصبح في مهب الريح بعد تعثر محاولته تشجيع المزيد من العسكريين في بغداد. على الالتحاق به وتفجير الموقف في العاصمة؛ إل مغاقرة مقر الحامينة العسكرية في الموصل. لكنه فوجئ بمليشيات مسلحة تنقض عليه لحظة وصوله إلى المستشفىء للتداوي من جراح طفيفية أصيب بها أثناء القصف.

- 95

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

وفي صدد هذه الواقعة» ترسم اتحاد الشعب صورة مثيرة عن السلوك الشوري للجماهير ( اتحاد الشعبء عدد يوم 2 آذار/ مارس 1959 وذلك عندما: كان المواطنون الشرفاء يواصلون عمليات تطهير جيوب المدينة؛ أصيب عبد الوهاب الشوافء لقيه عريف ومعه جندي» سددوا له الضربة القاتلة التى كتمت أنفاسه.. وتناولته أيدي الشعب الأمينة فسحلته في شوارع المديئة مُظهرة غبطتها وبهجتها. انتهى المطاف بالشواف حين علق وإلى جانبه جلال الخشالي مُعلقاً أمام المعسكر. ١‏ في هذه الأثناء» كانت جثث العشرات من الضباط والجنود ومراتب الصف والمدنيين» قد علقت على أعمدة الكهرباء أو الأشجار في مدن الموصل وقراها. وبينما كان مندوب الصحيفة الذي أرسلته هيئة التحرير على عجلء لتغطية الأحداث الدامية والمتسارعة» يكتب من هناك بشيء من السرور والبهجة عن حوادث القتل والسحل والفتك الجماعي. كانت الصحيفة تنشر في صفحتها الأولى مانشيتات وعناوين ومقالات جديدة صاخبة:؛ قائلة إن مصير الشواف الذي سحل بال حبال في شوارع؛ كان مجرد إنذار قاس لكل عدو. على هذا النحو تمامأء ولكن بتوصيف أقل قسوة وبشاعة مما جرى على أرض الواقع» سُّمعت في أرجاء الموصل وكركوك وبغداد هتافات الجماهير المنادية بصوت كورالي واحد: اعدم. اعدم. هذا المتاف المدوي ليس سوى رد الجماهير التى قادها الشيوعيون, بعد أن تذرع قاسم بأن لا وقت لديه لإعدام العسكريين. كان قاسم بوطنيته وروحه المتسامحة وطيبة قلبه. مُتحرجاً من التسرع في إعدام الضباط المتآمرين» فهم من تلاميذه وبعضهم كان من أقرب أصدقائه؛ ولذا حاول التملص من فكرة القتل. بيد أن دوي صيحات الجماهير الشيوعية كان يصم أذنيه ويظهره بمظهر العاجز. ثم تعالت في كل مكان عبارة:

- 96 -

الفصل الأول : الأحمرء والأبيضء والأسود

اعدم. اعدم. وكأنها النداء الوحيد في الأفواه. وبذلك تعاظمتالية خرجت التظاهرات الجماهيرية وهي تلوح بالحبال ( الحبال ذاتها الى سحلت بها جئة الأمير عبد الإله) في هتاف رعوي رهيب: ماكو لا توجد ‏ مؤامرة تصير والحبال موجودة. وبذلك تعاظم الضغط على قاسم في الشارع بصورة لا تحتمل. لم يكن قاسم شخصية دموية» بل على العكس من ذلك كان زعيماً شعبياً حبوباً من الجتمع» وخصوصاً الطبقات الفقيرة التي ظلت تتغنى بأول إنجاز اقتصادي حققه لدعم قيمة العملة العراقية» إذ صدحت بأغنية: عاش الزعيم الزود العانة فلس أي عاش الزعيم الذي أضاف إلى قيمة العملة العراقية من فئة أربع فلوس فلساً إضافياً لتصبح العانة القديمة 5 فلوس بدلاً من أربعة -. بينماء على الضد من هذه المحبة الشعبية» تركزت الكراهية لشخصه في امجتمع الحزبي القومي والعروبي بسبب موقفه المتردد إزاء الوحدة مع مصر. وفي الواقع لم يكن لما يُدعى عند البعثيين بالنزعة الدكتاتورية أو الفردية التسلطية في شخصية قاسم» أساس موضوعي وحقيقي. وهذا ما سيقوله البعثيون بعد سنوات الندم» وربما الشعور شبه الجماعي بالإثم لأنهم قتلوا رجلا بجريمة باطلة.

وخليق بالمرء أثناء مراجعة التاريخ» أن يُلاحظ الطريقة التي جرى فيها تلفيق هذه التهمة الشنيعة» فالبعثيون والقوميون الذين وجدوا أنفسهم في مواجهة المد الشيوعي الأحمر» وتردد قاسم في ضرب أو تحجيم هذا النفوذ. م يكونوا يملكون لا في أساليبهم السياسية ولا في شعاراتهم أي مدخل آخر لنقد سلطة قاسم سوى التشهير بدكتاتورية لا وجود لها بالمعنى الدقيق للنعت. على الأقل كانت إصلاحاته الزراعية والاجتماعية الشعبية وجسارته في إخراج العراق من دائرة النفوذ البريطاني ‏ الأمريكي, ترفع من رصيده داخل المجتمع

- 97 -

الفصل الأول : الأحمر والأبيض, والأسود

فعلياً وكان حرياً بالأحزاب أن تعاضد قاسم من أجل الدفع بإصلاحات أخرى أكثر جذرية. كان نقد سلطة قاسم ينبع؛ أولاً وأخيرأء من تلك الروح الأنانية الضيقة ومن المصالح الحزبية التي جرى تخيلها على أنها هي مصالح الشعب» وبدرجة أكبر؛ من ذلك القدر من التحويل المريع للسياسة إلى ما يشبه هستيريا أيديولوجية ينعدم فيها أي ائر للتعقل والتروي والحوار الهادئ. رمن الصعب. في هذا السياق» تناسي الدور الذي لعبه عبد الناصر شخصياً في تحطيم قاسم؛ وهذا سوف يتكشف مع الأدلة الكثيرة عن تدفق الأسلحة والأموال» والتى أرسلت بواسطة السفارة المصرية في بغداد إلى الشواف.

ولد عبد الكريم قاسم في العام 1914» واسمه الكامل: عبد الكريم بن قاسم بن محمد بن بكر الزبيدي؛ في محلة شعبية من محلات بغداد تدعى المهدية لأب شيعي وأم سنية. ولذلك تربى الطفل في أحضان ثقافة تعايش بين المذهبين» ولم تبدر منه حتى لحظة وفاته أدنى بادرة تدل على اهتمامه بالانتماء المزهي. ومن هذه الناحية وحسب كان قاسم يجمع في شخصه ما تفتقده الأحزاب: انعدام كل أثر مُحتمل للانتماء الطائفي.

عاش قاسم طفولته في أسرة فقيرة وفي بيئة شعبية يتعايش فيها أهل السنة والشيعة بسلام تام» وتعود أصول أسرته البعيدة إلى قبيلة زبيد العربية ‏ اليمنية» التي قطنت بعض بطونها في واسط - الكوت. ولكنه نادراً ما ألمح إلى هذين الجانبين في حياته الشخصية؛ فلم يُعرف لا بانتمائه المذهبي ولا بقبيلته. في العام 1931 أنهى تعلميه في المدرسة المركزية ببغداد. اشهر واهم المدارس العراقية في هذا الوقتء وعُين مُعلما في مدرسة الشامية الابتدائية. لكنه سرعان ما ضاق ذرعاً بالتعليم وقرر في العام 1932 الالتحاق بالمدرسة العسكرية ( الكلية العسكرية فيما بعد) ليتخرج بعد سنتين فقط ضابطا برتبة ملازم ثان عام

- 98 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

4. بعد أربع سنوات فقط نقل الضابط الشاب إلى معسكرات الجيش العراقي في بابل الحلة» ثم أصبح ضابط ركن في العام 1941 ليشارك في الحملات الحربية ضد الأكراد في الشمال» قبل أن يجري تكليفه بقيادة الفوج الثاني للواء الأول المتمركز في الأردن أثناء وبعد حرب العام 1948. هناك؛ اكتسب قاسم شهرة واسعة بين الضباط لدوره البطولي والشجاعء حين اندفعت قواته في قلب المدن الفلسطينية التى استولى عليها الصهاينة. وفي أيلول/ سبتمبر 1950 أوفدته الحكومة العراقية على بريطانيا لتلقي المزيد من الدروس العسكرية» وليصبح في العام 1953 برتبة عفيد ثم آمرأً ثلواء الناسع عشر ثم ليحصل على رتبة زعيم في أيار / مايو 1955. إن سجله العسكري المشرف وشخصيته المحبوبة وتواضعه الجم وزهده في الحياة ( عندما قتل في انقلاب 163 م يعثر الانقلابيون على مال شخصي سوى بضعة دنانير في جيب قميصه العسكري) هي من المزايا التى مكنته من أن يحثل مكانة خاصة في قلوب زملائه. لقد لازمته الرتبة العسكرية وعُرف بها حتى اليوم: الزعيم. استمع قاسم إلى صيحات الجماهير وهي تنادي: اعدم. اعدم. ومن غير 7 ك؛ فإنه أدرك ولكن بقليل من الحيلة» مغبة الانجرار والمضي وراء دعوات محمومة من هذا النوع لاستئصال البعثيين والقوميين. كان مطلوباً منه قبيل الانقلاب أن يقوم باستئصال الشيوعيين. وهاهو بُعيد الانقلاب يُطالب بتحطيم البعثيين. بيد أن الوقت كان قد فات, بالفعل» على منع وقوع الجريمة. أصبح قاسم بعد انقلاب الشواف أسير إحساس أنه بات مُرغماً على تنفيذ جرمته الأولى وقامت بتكرارهاء مُطالب بأن يقوم هو أيضاً بارتكاب جريمته ليتماهى مع الجماهير التي أعلنته محبوباً ومعبوداً. كما أصبح قاسم أسير إحساس غريب: إن الذين يطالبونه بالحزم يصبحون أكثر فأكثر؛ وداخل شارع

- 99 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

مُلتهب بالمشاعر» أشد صرامة منه كقائد للسلطة. لاحت أمام أنظار قاسم المشوشة صور زملائه القدامى: رفعت الحاج الزعيم القومي المثقف والضابط اللامع؛ وناظم الطبقجليء وعبد الوهاب الشواف. ولكنه اظهر ما يكفي من العجز لتفادي صرامة القانون العسكري. إن شهادة طالب شبيب التى تؤيدهاء جزئياًء الكثير من الشهادات المُمائلة والمذكرات السياسية للضباط والسياسيين العراقيين» تجزم بصدور أوامر عسكرية لا دليل على أن قاسم كان يعلم بها بصورة مباشرة» باستدعاء ضباط من الجيش العراقي معظمهم من الاتجاهات القومية لأجل حضور عملية تنفيذ الإعدام. وعملياً لمشاهدة الجريمة الأولى التي رغبت الجماهير بقوة» أن يقوم محبوبها وزعيمها بارتكابها بدم بارد.

إن المؤرخين وكتاب التاريخ الاجتماعي والسياسي للعراق» لا يملكون شهادة قاطعة أو دليلاً مؤكدأء على أن هذه الأوامر صدرت عن قاسم شخصياًء ومن المستبعد تماماً نظراً لجملة اعتبارات» أن يكون قد أصدر أمرأ من هذا النوع» بينما تحوم الشبهات حول ضباط متنفذين رغبوا في جعل عمليات الإعدام تتم على الملا.

وإذا صحت إفادة شبيب هذه فإن عملية الإعدام الجماعي والعلني كانت أول وأقوى دليل على أن السلطة نفسهاء وليس الأحزاب القومية وحسبء قد أضحت في مطلع العام 1959 تحت رحمة الجماهير. لم ينل الحكم الصادر بحق بعض الضباط مثل ناظم الطبقجلي ورفعت الحاج سريء الإجماع المطلوب من القضاة. ومع ذلك ثم تنفيذ الحكم الصادر بحقهم؛ وجرت أول عملية لتنفيذ الإعدام أمام الجماهير في منطقة أم الطبول.

يقول طالب شبيب ( حوار المفاهيم إلى حوار الدم: 24) إن الأوامر صدرت لجلب الضباط القوميين للتفرج على عملية الإعدام وكانت تلك:

- 100 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

هي المرة الأولى في حياتي التى أشاهد فيها تنفيذ إعدام حقيقي ومباشر بضباط كنا نعرف أسماءهم عن بُعد. ولكننا نشاهدهم بملابس حمراء وقد انزلوا من سيارات الإسعاف محمولين لأن أحداً منهم لم يكن قادراً على المسير» فشدوا إلى الأعمدة وكنا وسط جمهرة كبيرة من الضباط والجنود يهتفون: أعدم. أعدم. وهو شعار رفعه الحزب الشيوعي.

برهن حادث إعدام الضباط» وفي مقدمتهم الشواف وناظم الطبقجلي ثم رفعت الحاج سري, على أن النهاية المحتملة للصراع أضحت بعيدة المنال» وإن الجماهير التي صدحت بنشيد اعدم. اعدم. ستعود مراراً وتكراراً للغناء في الشوارع بشعارات رعوية جديدة. وكما حدث مع الضابط عبد الستار العبوسي قاتل الأسرة الملكية» حين ظلت أشباح الملك الصغير نتحوم فوق سريره لتحرمه لذة النوم؛ فإن قاسم سوف يعيش الكوابيس ذاتها عندما سيقع في أسر الانقلابيين في العام 1963 . لسوف يردد أمامهم عبثاً ودون جدوى: أريد مُحاكمة عادلة» أريد مُحاكمة عادلة؛ وذلك رداً على سؤال وجهه أحد قادة الانقلاب: لماذا قتلث رفعت الحاج سري؟. كان قاسم ونوك حيدا أقة أرغم على إنزال عقوبة الموت برفعت رفيق السلاح وقائد خلية بغداد للضباط الأحرار» وأحد وجوه ثورة تموز / يوليو البارزة والناصعة؛ ربما بضغط من قوى متنفذة داخل الجيش. كما يدرك أكثر من ذلك أن رفعت الحاج سري الذي عهد إليه منصب قائد استخبارات الجيشء لا صلة له لا من قريب ولا من بعيد بانقلاب الشواف, وأن إعدامه جرى بسرعة ومن دون أدنى دليل على تورطه. في هذا الوقت عادت الجماهير بقوة إلى الشوارع وفرضت سيطرتها المطلقة في شوارع بغداد وهي تنشد ماكو لا توجد ‏ مؤامرة تصير والحبال موجودة, بينما كان البعثيون والقوميون ينزوون في أوكارهم بجنا عن حل سحري أو معجزة.

- 101 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

إن مذكرات السياسيين الشيوعيين من لعبوا أدواراً قيادية في هذه الآونة» تكاد تخلو من إشارات جدية أو وقفات تحليلية لأحداث الموصل وكركوك في آذار/ مارس 1959. كان تجنب النوض في هذه المسألة» سمة بارزة في السلوك الفكري لقادة الحزب الشيوعي؛ سيظل ملازماً لهم حتى اليوم. لقد دهشت حقاء حين اطلعت على مذكرات بهاء الدين نوري عضو المكتب السياسي السابق في الحزب» لخلوها من أي إشارات تحليلية لأحداث الموصل الرهيبة. ومع أنني أعتقد أن نوري لا يجرؤ على تناول موضوعات من هذا النوع» بسبب خوفه المزمن وشبه المرضي من شبح قيادة الحزب وغوغائية جماهيرية» وبالطبع ليست لديه شجاعة كافية لمواجهات فكرية من هذا النوع؛ فإنني في المقابل؛ اعتقد أنه من غير المنطقى أن يكتب سياسى عاش هذا الأحداث, وبعد عقود. كتاباً أو مذكرات شخصية تتخطى أو تتفادى تناول الأسباب والنتائج. إن التخاذل أمام أحداث التاريخ كما أمام الواقع الحي. هي سمة طاغية في فكر وسلوك قيادة الحزب الشيوعي. حتى أن مذكرات زكي خيري ( صدى السنين) أو مذكرات رحيم عجينة» وهما من أبرز أعضاء المكتب السياسي واللجنة المركزية للحزب, خلتا من أي تحليل أو رأي» ربما باستثناء نقد عابر جرى في إطاره إلقاء المسؤولية عل كل من جمال الحيدري تارة وعلى عزيز محمد تارة أخرى»؛ وهما كرديان شغلا مواقع بارزة بينها عضوية المكتب السياسي واللجنة المركزية وسكرتارية الحزب.

يلاحظ عزيز الحاج ( ذاكرة تحت الطلب: ملاحظات في مذكرات زكي خيري - أيار / مايو 1977 باريس) إن العودة إلى أرشيف جريدة اتحاد الشعب الشيوعية العلنية في العراق لعام 1959» أي بعد وقوع انقلاب الشواف مباشرة» حيث اندلعت أحداث عنف رهيبة في الموصل وكركوك, ستبين بجلاء أن:

- 102 -

الفصل الأول 0 الأحمسر والأبيض, والأسود

الريبورتاجات والتعليقات التى نشرت في اليومين أو الأيام الثلاثة الأولى كانت تتحدث بمباهاة ونشوة عن القتول والمحاكمات الشعبية للمتآمرين وأدى ذلك إلى استنكار بعض الأوساط الديمقراطية ولا سيما الحزب الوطنى الديمقراطي. ولذلك صدرت التعليمات للقيادة الحزبية في الموصل ولمراسل الجريدة الشهيد عدنان البراك,. بالكتابة بمايقلب المعادلة فأصبحت الريبورتاجات الواردة للنشر من الموصل تركز على الجرائم التي ارتكبها المتمردون وتعرضض الجانب المقابل كمدافع بريء عن النفس. وليس نما يصح إنكاره أن شعار ( الحبال) كان شائعا بين أنصار الحزب الشيوعي وإن مجرد كلمة بعثي كانت كافية لكي يركض الناس وراء المشار إليه لضربه ولسحله حتى الموت.

في المقابل» وكما يلاحظ الحاج وهو على حق؛ فإن مذكرات السياسيين البعئيين ( انظر مذكرات هانى الفكيكى مثلاً: أوكار ال هزيمة» من منشورات رياض الريس) خلت من أي تحليل أو إشارات نقدية جدية باستئناء المبالغة بجرائم الشيوعيين» بينما جرى السكوت على الأعمال الوحشية والشرسة التي تعرض ا الشيوعيون على أيدي البعثيين بعد شباط / فبراير1963. بكلام آخر: جرى السكوت عن الجريمة مرتين» ولم تصدر عن الحزب الجماهيري أي محاولة فكرية لنقد سلوك الجماهير» ولا لنقد وتشريح سلوك القادة بالطبع. بينما جرت في هذه الأثناء» إما محاولات لتلطيخ سمعة الخصم وإلقاء المسؤولية عليه» وإما محاولات للتنصل من الجريمة. لقد مئلت هذه الأحداث بحق» طوراً جديداً ومفاجتاً من أطوار السياسة ارتطمت في سياقه جماهيريتان:

كانت الموجة الحمراء العاتية تندفع بطغيان رهيب. لتدمير وتحطيم موجة جماهيرية عروبية بيضاء اندفع للتو صوب الشاطئ.

- 103 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

نوري ورفعت

في الثمانينات من القرن الماضي» صدرت في بغداد أهم موسوعة عراقية عن وقائع تلك الأحداث. وبصرف النظر عن نظرات التشكيك التى أحيطت بها من جانب الشيوعيين» نظرأ لتركيزها على تسجيل أدق التفاصيل والأسرار عن أحداث الموصل وكركوك, وبالتالي تبيان مسؤولية الحزب الشيوعي فيهاء نإن الوسوشة هسرع 1[ فقون دار الحرية للطباعة؛ بغداد 1988) تتضمن فصولاً شديدة الأهمية عن الصراع بين قاسم والشيوعيين» كما تتذ تمن لصارد هامة عن قاسم ورفعت الحاج سري. كما صدرت بالإضافة إلى ذلك» سلسلة ممتازة من المذكرات والوثائق والكتب التاريخية» التىي تؤرخ للأحداث المأسوية ولفصول مُروعة من تنازع الجماهيريتين.ولأن ما يعنينا من كل هذا التراث» ليس سرد أو إعادة سرد الأحداث فهذا رق لاعت والمصادر المعروفة» وإنما إعادة قراءة وتأويل الأحداث؛ فسوف نتجنب الخوض في التفاصيل لنعيد تركيب الرواية التاريخية ية من جديد من أجل رؤية الصدام بين الموجتين الجماهيريتن» من منظور موضوعي نزيه ليس فيه انحياز لأي طرف.

بعد ثلاثة أيام من أحداث الموصل؛ ويينما كانت اجثئث معلقة على جذوع الأشجار في المدينة» والنيران لا تزال تشتعل في بعض المنازل» وبينما المنهوبات تنقل والممتلكات الشخصية للأبرياء من سكان المدينة تنهب» وتجري سرقات علنية لدور ومنازل الصرعى والقتلى دون وجه حقء بادر قاسم في صباح الحادي عشر من آذار 1959 إلى اصطحاب رفعت الحاج سري رئيس الاستخبارات العسكرية في جولة تفقدية في بغداد. ل يكن رفعت على صلة بالانقلابيين ولم تكن هناك تهمة ضده. يروي العقيد الركن محمد خالد سكرتير رئيس أركان الجيش وصديق رفعتء أن رئيس الأركان اتصل به طالبأً منه

- 104 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

إبلاغ رفعت بالحضور للمقابلته. وعندما وصل هذا أبلغه رئيس أركان الجيش بقرار قاسم تعيينه ملحقأ عسكرياً في واشنطن. كان قرار قاسم مبنيأء برأيناء على جملة من الاعتبارات؛ من أهمها الاعتبار الشخصيء فقد رغب في إبعاد رفعت عن المسرح الملتهب. حيث تعالت في هذه الآونة الدعوات لضرب الضباط القوميين. ولما كان قاسم لا يريد» كما يبدوء أن يتعرض رفعت إلى مصير محزن.» فقد وجد في فكرة إبعاده إلى واشنطن وسيلة لتجنب الضغط. لكن الأحداث سارث في اتجاه آخر.

ويروي العميد خليل إبراهيم حسين ( ثورة الشواف في الموصل 1959 اج 1 منشورات مكتبة بشار بغداد» دار الحرية للطباعة 1987) إن رفعث أخبر بعض المقربين منه ' ' في اليوم التالي للجولة التفقدية مع قاسم, بأنه لن يكون قادراً على شغل هذا الموقع؛ وأنه تمكن من إقناع قاسم نفسه بصحة وجهة نظره القائلة بأنه غير قادر بالفعل» على تولي منصب الملحق العسكري في واشنطن لأنه ببساطة لا يجيد الإنجليزية. أراد قاسم من اقتراحه هذا إبعاد رفعت إلى واشنطن - أن لا يضطر تحنوع منلشيوعيين والجماهير» إلى ارتكاب جريمته الأولى: إنزال العقاب بصديقه وتلميذه» بسبب صلات له مزعومة مع الشواف كانت تتردٌ بقوة منذ اليوم الأول للانقلاب. ولكن رفعت في المقابل سينظر إليه في أوساط القوميين على أنه غدر بزملائه» الذين جرى الزج بهم

'! حسن ( خليل إبراهيم): ثورة الشواف في الموصل 1959ج1 منشورات مكتبة بشارء بغداد دار الحرية للطباعة 1987.

- 105 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

بذلك»يكون رفعت قد وضع نفسه في فوهة مدفع عبأته الجماهير وتطورات الأحداث على حد سواءء؛ بحشوة ناسفة مدمرة.

تبين بعد وقت قصير من جولة رفعت مع قاسم أن الرجلين قد وصلا مفترق طرق» ولم يكن بوسع قاسم أن يفعل أي شيء آخر لإنقاذ زميله من الموت, مادام مُصرأ على رفض الاقتراح. تنقل السيدة عصمت السعيد ( نوري السعيد رجل الدولة والإنسان - الناشر: مبرة عصام السعيد, لندن 21992 ص: 219) 7 أعن مُقربين من رفعت دون تسميتهم؛ أن هذا أخبرهم أثناء زيارة في السجن. قام بها هؤلاء لأجل معاضدته وشدّ أزره بعد صدور قرار إعدامه: أنه ليشعر بمرارة وربما بشيء من الندم لأنه لم يْصغ إلى نصيحة نوري السعيد أو نبوءته.

هذه النبوءة» كما ترى الدكتورة عصمت,ء تتعلق بتصور نوري السعيد للوضع القادم في العراق في حال نجاح انقلاب عسكري ضد الملكية. ولأن رئيس الوزراء العجوز والداهية عاش حياته السياسية الأخيرة» وهو يراقب بذعر تصاعد الجماهيريات من حوله؛ فقد آثر أن يُنبه رفعت الحاج سري الضابط الذي دارت حوله شبهات تدبير مؤامرة ضد النظام الملكي - في هذا الوقت -. يقول رفعت - طبقا لرواية السيدة عصمث إن نوري السعيد استدعاه إلى مكتبه» بعد تلقيه معلومات عن مؤامرة يحيكها الضباط الأحرار لقلب نظام الحكم وقال له: إن مثل هذه المحاولة سوف تنتهي بانتصار الشيوعيين:وقال له أيضاً إن اشتراك القوميين فيها سيكون ضرباً من الخسارة امحتومة. ولأن نوري السعيد كان يرغب في ثني رفعت عن الانجرار وراء هذا

7 السعيد ( عصام): نوري السعيد رجل الدولة والإنسان, الناشر مبرة عصام السعيد, لندن 2 ص: 219

- 106 -

الفصل الأول : الأحمرء؛ والأبيض؛ والأسود

النوع من المغامرات ‏ كما توضح مجريات اللقاء ‏ فقد استخدم صداقته القديمة مع جميل المدفعي خال رفعت» للضغط عليه قائلاً: إن صلته بالمدفعي تضطره إلى حماية ابن أخته» الذي تشير معلومات الاستخبارات العسكرية إلى احتمال تورطه - بصلات مشبوهة مع ضباط متآمرين - ولذا:

جئت بك إلى هنا لأقول لك ناصحاً بأننا إذا استطعنا إثبات ما تقومون به في الخفاء ضد الحكم القائم» فلا تنتظروا منا الرحمة لأن علينا حماية مصير امتناء أما إذا وفقتم في الإطاحة بنا فأنتم أيضاً أصحاب خسارة؛لأن المكسب والتفوق سيكون للشيوعيين.

ما تقوله هذه الرواية» وبالضد تمامأ مما تريده السيدة عصمت - التي لا شك أنها تكتب من منطلقات تخلو من حس نقدي حقيقي بأخطاء الثورة - هو أن نوري السعيد عاش مذعوراً من الأحزاب الجماهيرية في الشارع. كانت أطيافها تحوم فوق سريره طوال أعوام؛ وهذا حقيقي تماماً لمن يتابع الطريقة التي ظل السعيد يدير فبها صراعه مع الأحزاب الجماهيرية ولذا بادر إلى تحذير قاسم نفسه قبل أن يستدعي رفعت إلى مكتبه ليؤنبه. ولئن كانت تحذيرات السعيد من خطر الشيوعية تتركز. في هذه المحادئة» حول فكرة وحيدة هي أن الحزب الشيوعي سوف يطيح بحلفائه؛ فإن رفعت كما ينضح من رواية السيدة عصمتء لم يكن مهتماً بمثل هذا الخطر. الشخص الوحيد الذي عاش في قلب الخوف من الجماهير كان نوري السعيد وليس رفعت. ولهذا السبب لم يُصغ الأخيرة للنبوءة التى أطلقها بوجهه رئيس الوزراء العجوز عن غوغائية الجماهير واستبدادها. كان رفعت مؤمنأء شأنه شأن القادة السياسيين والضباط ربما بالفطرة؛ بأن الجماهير هي المخلص؛ بل ويرى فيها تعبيراً وتجسيداً للشعب أو هي الشعب نفسه. وعندما كان نوري السعيد يحذر زائره من خطر الجماهير

- 107 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

الشيوعية وسيطرتها الحتملة في حال انتصر الانقلابيون؛ فإن أية مشاعر أخرى غير الابتهاج بالنبوءة» لم تكن لتغمر عقل وفؤاد الضابط المستدعى للتأنيب والتهديد والتحذير. ظل رفعت وبالرغم من تحذيرات نوري الساطعة في مباشرتهاء واثقا من حصة موقفه. لم يكن مهما بالنسبة إليه مّنْ سيحقق الغَلبَة أو الفوز بالسلطة والسيطرة عليها؛ بل المهم سرعة التحرك للتخلص من نظام فاسد حرم الجماهير من الحرية.

قد يكون نوري السعيد تنبأ بالفعل» بمصير رفعت أو بتفوق الشيوعيين وسيطرتهم المبكرة. بيد أن هذا لم يكن ليعنى الشيء الكثير بالنسبة لضابط وطني مُتحمس آمن» أصلاء بالجماهير بفضل مفهومه للسياسة: ثم وجد نفسه في قلب شراكات عريضة وفعالة مع قوى متنوعة في المجتمعءبما فيها الحزب الشيوعي. إن استرجاعات رفعت الحزينة قبيل تنفيذ الإعدام» إذا صحّ مصيرية كهذه)؛ شعوره بالندم ( وقد تكون هذه صحيحة فقط من منظر إنساني عمومي. فما من إنسان إلا وتنتابه مشاعر من هذا النوع في لحظات مصيرية كهذه) يجب أن يُنظر إليها من زاوية مختلفة. لقد ارتاع الضابط المثقف الأرهف الحس والحالم بالجماهير» من القسوة والعنف في الشارع؛ ورأى كيف أن الجماهير التى آمن بها كانت تتفلت من كل سيطرة وتتحول إلى كتلة صماء. هائجة وعنيفة وعدية الرحمة. وها هو يصبح بين ليلة وضحاهاء وبعد أقل من عامين على النبوءة» ضء الكثير ضحايا هيجانها تماما كما كان الحال مع صاحب النبوءة نفسه. نوري السعيد الذي قطعت الجماهير أوصاله في الشوارع. لا شك أن السيدة عصمت السعيد توظف ومن منطلقات عائلية وإنسانية» الكثير من الأفكار عن مصير نوري السعيدء ولكن بعضها يبدو زائفاً

- 108 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

ولا هدف لها سوى إظهار رفعت بمظهر الشاعر الإثم؛ لأنه لم يُصغ لنبوءة نوري» بينما الوقائع على عكس ما تريد الكاتبة لا تشير إلى الندم جراء عدم التصديق أو عدم الإصغاء بشكل جيد لبنوءة ما؛ بل إلى خيبة أمل الضابط الشجاع من انهيار فكرة الجماهير امام ناظريه؛ بعدما نادت هذه بصوت واحد بإعدامه دون ذنب. الشعور الحقيقي للندم يتجلى هناء في هذا الجانب الإنساني الساطع من الخيبة الشخصية؛ فالجماهير التى أحبها الضابط المثقف ووهبها حياته» هي التى تخرج لتطالب بإهدار دمه. إنها تريد إنزال العقاب بأحد عشاقها.

ومع ذلك ذهب رفعت إلى حتفه رابط الجأشء مُفتدياً الجماهير بدمه ومؤمناً إلى النهاية ببراءته وصدق مشاعره وعمق إيانه بقضيته. كان رفعت زعيماً لخلية بغداد ‏ مع ناظم الطبقجلي - في تنظيم الضباط الأحرار؛ وقد أسفرت اتصالاته السياسية مع قاسم وعارف عن اتفاق على دمج الجموعتين عام 1954 وانتخاب لجنة مركزية مؤلفة من إثني عشر ضابطاً. وبعد التحاق مجموعة الموصل واندماجهاء ارتفع عدد الضباط إلى نحو مائة وخمسين ضابطاً. وبفضل هذا التدبر أصبح نجاح الثورة مضمونا.خلال هذا الوقت وحتى بعد انتصار الثورة؛ فإن رفعت - كما يبدو من سلسلة من الوقائع - لم يكن ليرغب في رؤية الجماهيريات العنيفة وهي تتصادم في الشارع؛ وليس ثمة دليل حقيقي على أنه كان طرفأ في التحريض على تصادمها أو عنفها المتبادل. لسوف يرتبط وبشكل مأسوي غير مألوف من قبل» مصير هذه الرجلين اللذين تقابلا مطلع شتاء 1957 ( حيث درات بينهما محادئة شديدة الصراحة علن التآمر). لقد أصابهما الداء ذاته: الذعر من الموجة الجماهيرية» فقد قتل نوري السعيد في

- 109 -

الفصل الأول : الأحمر؛ والأبيض؛ والأسود

اليوم التالي للثورة 15 تموز / يوليوء بعد أن طاردته الجماهير من شارع إلى شارع» بينما ذهب رفعت ولسوء الحظء ضحية هوس الجماهير ذاتهاء التي

راحت تنادي بإعدامه دون ذنب.

إن قصة مصرع نوري السعيد, والطريقة التى قتل فيها على يد الجماهير الحائجة» لتستحق اليوم أن تروى من هذا المنظورء كدليل على القسوة الشديدة والعنف واليجان وانعدام أي أثر للتعقل. ومهما يكن رأينا ‏ اليوم أو بالأمس - بشخص نوري السعيد وأفكاره وسياساته؛ فإن قصة مصرعه نظل مثيرة لتأملات وجدانية حزينة ومؤلة بصورة لا تصدق.

-110-

الفصل الأول 0 الأحمر والأبيض, والأسود

ليلى والذئب الجماهير ا مفترسة

يعد يوم واحد من انتصار ثورة تموز/ يوليوء وبينما راحت الإذاعة توجه النداءات للجماهير بملاحقة نوري السعيد والقبض عليه. انطلقت الجموع في كل مكان تفتش عن رئيس الوزراء العجوز. في اليوم التالي أمكن قتله بالفعل. ل الوزراء لم يجد طريقة للتخلص من الجماهير المائجة سوى التخفي في ثياب امرأة. إن هذا المنظر. ومهما تكن لمبررات» كافم بحد ذاته لكي يُعطي الدليل على أن السياسة في عصر الجماهير, قد أضحت ضرباً من العنف الفالت عن السيطرة أو المنطق أو العقل» وتحولت إلى نوع من الافتراس. في الأسطورة الشعبية ليلى والذئب يتخفى الذئب في ثياب فتاة» من أجل أن يتمكن من افتراس الفتاة نفسها. لا توجد لديه طريقة أخرى سوى التحايل على التباينات والاختلافات الفيزيولوجية والطبيعية بين الكائنات؛ بين الإنسان والذئب, مثلاً. ولذا؛ فإن الذئب بتحوله أو انقلابه الاصطناعي 3 فتاة» يكون قد نزع عن ملامحه المكشوفة آخر مظهر من المظاهر الدالة على حقيقته. ما حدث في الواقع - وخارج الأسطورة ‏ أن السياسي المرتعد هلعاً من 07 انقلب إلى فتاة من أجل تفادي الافتراس. ثمة ذئب آخر يطارده متخفياً في ثياب آدمية. من المنظور الأسطوري تكشف حادثة تخفي نوري السعيد في ثياب فتاة ومطاردة الجماهير له» عن انقلاب من نوع آخرء فقد تنكر الضحايا والمجرمون واختلطوا ببعضهم. لقد تخلوا عن انقلاب من نوع آخرء فقد تنكر الضحايا وامجرمون واختلطوا ببعضهم.لقد تخلوا عن هيئاتهم الأولى وبات عسيرا على المراقب تحديد المجرم: هل هو السياسي المتخفي في ثياب فتأة» أم هو الجماهير التي انقلبت إلى ذئب؟ أخيراً وقعت ليلى

11

الفصل الأول : الأحمر؛ والأبيضء والأسود

تحت رحمة الذئب وقام بافتراسها. لكن الذئب البشري لم يكتف في الواقع بأكل الضحية بل قام بالتمثيل في الحثة.

أمر عبد الكريم قاسم على الفور بدفن الجثة؛ لكن سيلاً من الجماهير التي سيطرت على الشارع ( وهي لم تفرغ للئو من سحل جثة الوصي على العرش بعد) تدّفق من كل أنحاء بغداد بعد أن تم استخراج الجئة من القبر. سحلت الحثة في شوارع بغداد حتى بلغت منطقة الوزيرة وتحديدا قرب السفارة المصرية؛ بينما كانت هناك أرتال من الدبابات وسيارات الشرطة. اتجه الغوغاء بالجئة نحو ( الميدان) وإلى المكان نفسه تقريباً الذي جرى فيه التمثيل بجشة عبد الإله.وحسب شهادة السيدة عصمتء التى تؤيدها جملة من الشهادات الصحيحة اللمثبتة في الوثائق والكتب ( عصمت: ص: 206) فإن قائد إحدى دوريات الشرطة طلب من سائق إحدى الدبابات» أن يقوم بسحق عظام الجئة. تردد الجندي ورفض الامتثال لأمر ضابط الشرطة؛ لكن هذا سارع إلى تهديده بالسلاح وجلس إلى جواره في الدبابة طالبا منه التحرك. فزع الجندي من العمل الذي سيرغم على القيام به» ووقع مغشياً عليه وهو يرى الجثة تهصر تحت عجلات الدبابة. هاهي الجماهير ترغم الجندي البسيط على أن يقوم مثلها بارتكاب جريته الأولى. على الجميع أن يتحلوا بأخلاق الجماهير وشجاعتهاء ويبادروا إلى ارتكاب جرائمهم الأولى وأن يفترسوا خصومهم.

فيما بعد سوف يقضي الجندي بقية حياته في مستشفى الأمراض العقلية بلبنان.

تروي السيدة عصمت نقلاً عن الممرضة التي قامت بالعناية بالجندي» إن - هذا - لم يكن قادراً على النوم من دون إضاءة كاملة في حجرته. لأنه كان يرتعد من الظلام. أما الجئة فقد هب الغوغاء من جديد إلى إضرام النيران فيها

-112-

الفصل الأول : الأحمر؛ والأبيض, والأأسود

( فيما بعد جمعت الأشلاء المحترقة ووضعت في كيس لتدفن سراً وخوفاً من معرفة الجماهير بمكانها الحقيقي). وهكذا بين مطلع شتاء وقاسم. صيف 8 ثم ربيع 1959» وخلال أقل من ستتين اختفى الرجلان اللذان تحادئا حول الخطر القادم مع الموجة الجماهيرية الأولى. لنعد إلى جولة رفعت وقاسم.

في هذا الوقت وبينما كان قاسم يصطحب رفعت في جولة تفقدية داخل بغداد. ساعياً إلى إقناعه بمغادرة العراق لثئلا يجد نفسه مُرغماً عبر الضغط الجماهيري بالقصاص من الضباط القوميينء إلى الزج به في السجن أو إعدامه. كانت اتحاد الشعب الصحيفة الناطقة بلسان الحزب الشيوعي العراقى» تكتب صباح 12 آذار/ مارس تحت عنوان: سحل جئة الشواف ما يلي: '

وجاء دور الآخرينء فبدأت الجماهير الغاضبة منذ المساء تسحل جثثهم في الشوارع ليكونوا عبرة.

لم تكتف الصحيفة الشيوعية بوصف الأحداث؛ بل راحت تعطي وجهة نظر الحزب عن الطريقة الأفضل في مواجهة الانقلابيين. على الجماهير الثورية أن ترسم صورة المصير الذي ينتظر الآخرين: السحل. مثل هذه المشاهد كانت تتراقص بكل ظلاها القاتقة والمفجعة أمام ناظري رفعت؛ وهو يجوب شوارع بغداد إلى جوار قاسم. برأي الصحيفة إن القصاص ينبغي أن يكون بوساطة تشكيل محاكم بروليتارية : تقودها الجماهير العمالية. وهذه رأث إليها وقد تجسدت على الأرض بالفعل» حين قام عمال عين زلة بتشكيل محكمة بروليتارية ترأسها أحد العمال لمحاكمة الضباط» بعد أن جرى إلقاء القبض على بعضهم في المدينة. تقول الصحيفة إن الحكمة البروليتارية سارعت إلى إصدار أحكام بالموت وإلى تنفيذها باسم الشعب و:باسم الطفولة البريئة؛ والأمومة الثاكلة» باسم الدم الطهور لشهداء الموصل» علقت وسُحلت جثش المجرمين

- 113 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

القئلة في مدن الموصل وقراها وانجلت المعركة؛ فإذا بالعشرات من المجرمين الشرسين العتاة...الخ...

ولأن الحزب الجماهيري وجد في تصرف الجماهير على النحو الآنف؛ دليلاً على الوعي الحقيقي بالواجبات الثورية» فمن غير المنطقي ترك الشعب من دون أن يطلع بنفسه على نوع الخبرة التي اكتسبتها الجماهير من هذا الحدث. وبالتالي» سيتعين على الشعب كله أن يتعلم منها وأن يُعيد إنتاج الخبرة ذاتها دون تردد؛ ولذا كتبت تقول في عدد يوم 12 آذار/ مارس نفسه قائلة» إنها:

تحرص أن تضع بين يدي المواطنين كافة خلاصة التجارب الثورية التي اصبح الموصليون الثوريون الأشاوس أساتذتها دون منازع» كي يتسنى لأآبناء الشعب الإطلاع على الخبرة الفنية التى اكتسبوها في منازلة المجرمين والمتآمرين وكيفية مقاتلتهم رسحقهم بهذه الصورة الفريدة الباعئة على الإعجاب.

لا يخفي الحزب في هذا النص النموذجي إعجابه بسلوك الجماهير؛ بل هو يدعو الشعب إلى التعلم منها؛ إلى الإقتداء بسلوكها والاستفادة من خبرتها. الشعب برأي الحزب الجماهيري لا يملك الخبرة الكافية بعد» وعليه أن يتعلم من الجماهير. وإلى هذا كله يبدو الحزب معجباءمفتونا ومندهشا من الخبرة التي اكتسبتها الجماهير بسرعة» بحيث طورت وخلال وقت قصير فنون السحل والقتل والقنص ( تحدثت الصحيفة عن قناصة كانوا يصطادون المتآمرين في الشوارع). كما طورت أساليب تشكيل محاكم ثورية وبروليتارية تنزل القتصاص بحق المجرمين. إن إعادة تركيب الرواية التاريخية عن أحداث الموصل وكركوك الرهيبة» تتطلب قدراً عالياً من الجسارة في نقد سلوك الجماهير في هذه الحقبة» وكما يتضح من نصوص صحفة اتحاد الشعب؛ فإن الشيوعيين كانوا يعلمون

- 114 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

أن ثمة فوقاً مفهومية بين الشعب والجماهير؛ ولكنهم كما يتضح أيضاء فضلوا الأخيرة وافتتنوا بها. بيد أن الشيوعيين في هذه الآونة» وبرغم معء استطراداً روق المفهومية بين الشبع والجماهير» أخفقوا في التعرف بدقة أكبر؛ على المخاطر الناجمة عن تخييل الجماهير وتصورها على أنها هي الشعب. ولذلك مضوا قدماً وراء دمج مثير للمفهومين. استطراداً في الوهم الإيديولوجي الذي يعكسه اسم الصحيفة الناطقة بلسانهم: اتحاد الشعب. كأن الحزب الشيوعي كان يتطلع إلى وحد» أصبحت تخصه وحده. أي اتحاد شعبه العقائدي الصغير وليس الشعب الواقعي, المذعور من أحداث السحل والقتل والتصادم العنيف للجماهيريات المتحالفة ‏ التى انفرط عقد تحالفها للنو وأعادت اصطفافها كقوى متصارعة -. في هذا الوقت وطوال عام الثورة الأول» أصبحت الجماهير هي سيدة الشارع.

لقد استولت على حقل السياسة ووضعت يدها على مفاتيح النفوذ والسلطة؛ بينما اختفت إلى الأبد كما سنئرى» النخب المديئية أي طبقة الأفندية - المتعلمين ‏ وتوارت في ما وراء عالم السياسة.

يتساءل خالد الياسري ( سياسي عراقي يقيم اليوم في السويد ‏ رسالة شخصية للمؤلف بناريخ 19 أكتوبر/ تشرين الأول 2003) وهو سترد ذكرياته عن أحداث سابقة جرت في العام نفسه1959 في الموصل وكركوك وعرف تاريخياً بمسيرات أنصار السلام العالمي» قبل وقوع الانتقلاب الفاشل؛ عن السبب ال حقيقي الذي دفع الحزب الشيوعي إلى تنظيم هذا المهرجان العالمي وفي مدينة الموصل بالذات؟. كان الياسري يومئل شاباً صغيراً عندما وقعت الأحداث» وقد دُهش من القدرة التنظيمية الهائلة للحزب على تسيير تظاهرات عارمة من هذا النوع؛ حتى أنه شبّه عمليات الإعداد للمهرجان كما لو أنها

- 115 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

كانت عرضاً مسرحياً من عروض البولشوي الروسي (١‏ فقد كان العراق بلدا صغيرا وفقيرا وليس لديه سوى جيش صغير وضعيف) يتساءل الياسري ويضيف: ولكن. ما الذي كان يدفع العراق لإعلان نفسه شريكاً في اهتمامات قوى عظمى ( لو كان العراق يوم ذاك بلدا كبيراً كفرنسا أو ألمانيا لكان بالوسع القطارات المليئة بالجماهير واتجه بها نحو الموصل؟لو كانت بلادنا بحجم وإمكانيات ودور ألمانيا أو فرنساء فإن تسيير القطارات والمظاهرات خارج قواعد الصواريخ النووية سيبدو في هذه الحالة أمرأ مُبرراً؟).

أشاعت تظاهرات أنصار السلام في الموصل كما ارتأى الياسري في شهادته» جوأ من الكراهية المشحونة بالاستفزازات منذ البداية. حتى أن عدداً من الشيوعيين والمستقلين والديمقراطيين من أبناء المدينة, احتجوا على هذا التحشيد الجماهيري ورأوا فيه تعبيراً عن رغبة مبيتة في تفجير النزاع مع القوميين والعروبيين. والمفارقة أن مسيرات السلام هذه كما يقول الياسري» انتهت بمذبحة رهيبة راح ضحيتها العشرات من أهالي الموصل؟ بل أن المدينة:

انتهكت دون وجه حق أو مبرر وتحت ذرائع مبتذلة. وزاد من بشاعة وعئف المأساة أن المديئنة تعرضت لغارات وهجمات دبرتها مجموعات عرقية هبطت من الجبال ‏ أي من الأكراد ‏ وراحت تنهب المدينة وتستبيحها دون أدنى رحمة وعلى مرأى ومسمع من قيادة الشيوعيين ومنظمي الحشد الجماهيري؟

إن انقلاب الحشد الجماهيري الغنائي والموسيقي الاستعراضيء المكرس للسلام ولإظهار قوة الحزب العقائدي ودرجة ونوع اهتماماته واتصاله كذلك

- 116 -

الفصل الأول : الأحمرء؛ والأبيض؛ والأسود

يكشف عن وجه واحد من المعضلة وحسب: إن السياسة بالنسبة للحزب ليست سوى وسيلة عنف ضد الخصوم. بينما يمكن أن يكشف. في تحليل مواز عن الكيفيّة الى تتحول فيها الجماهير إلى مصدر خطر داهم على الشعب» وانقلابها - أي الجماهير.- إلى قوة افتراس رهيبة» هو الذي يجب أن يلفت انتباهها من الواقعة الآنفة بمجملهاء فهي شبيهة إلى حد بعيد بالانقلاب الذي يحدث داخل أسطورة ليلى والذئب» وذلك حين يتنكر الذئب في هيئة فتاة رقيقة من أجل أن يفترس الفتاة الصغيرة.

إن المتفرجين السعداء في ملعب كرة القدم» وهم في الغالب حشود غير منضبطة ظاهرياً ولكنها من الناحية الواقعية شبه منظمة. يمكن أن ينقلبوا بسهولة إلى جمهور عنيف ومدمر. ولما كان هؤلاء؛ في الغالب أيضاً من دون قيادة وسيطرة حقيقية» أي من دون حزب حقيقي في الميدان؛ فإن روح التدمير المختزنة لن تكون روحاً أيديولوجية في هذه ال حالة. ستكون جموعاً بشرية غير مُحركة بدوافع ثقافية وعقائدية متماسكة وموحدة؛ إنها كتل صماء تحركها روح خاوية انتفخت بالمشاعر الهائجة وحسب. هذه الجماهير الإيديولوجية يمكن أن تنقلب في لحظة من هذا النوع. إلى جماهير بروح خاوية مُفرغة لا تملؤها سوى المشاعر الحائجة» وفوق ذلك يمكن أن تكون عرضة للانفلات شبه المطلق.

في النص الآنف من شهادة الياسري وهو شيوعي سابق» سنرى الصور النمطية ذاتها للانتهاك والاستباحة وعمليات النهب وتصفية الخصوم, والتى نجدها في الكثير من الشهادات الممائلة عن حقبة نهاية الخمسينات من القرن ال ماضى:

<7

- 117 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

كانت القطارات مليئة بأنصار السلام ومعظمهم من الشباب القادمين من أحياء فقيرة في بغداد والمدن العراقية. لم يكن بوسعهم تحت ذلك النوع من الحماسات العقائدية» أن يقرءوا الواقع قراءة حسنة: إنهم كانوا مجرد أداة في فتنة أو مذبحة» كمالم يكن بوسعهم إدراك حقيقة وأبعاد هذا النوع من التحشيد. لقد تبادلت الجماهير الفقيرة الشيوعية والقومية القدئل وراحت تطحن بعضها بعضاً من أجل إنقاذ سلام عالمي مزعوم من خطر مزعوم.

إذا ما وضعنا أحداث الموصل وكركوك. التى تكررت مرة خلال مذبحة مهرجان السلام» ومرة أخرى بعد انقلاب الشواف؛ وفي سياقها الصحيح كاستطراد لأحداث سابقة ( سحل جثة الوصي على العرش وقتل نوري السعيد والتمثيل البشع من قبل الجماهير يبحنث الصرعى والموتى) فإن الاستنتاج الضروري الذي يتعيّن علينا استخلاصه هو أن الجماهير قد غدت. بالفعل» صاحبة خيرة في الاستبداد الذي صنعته. أي الاستبداد الذي حض عليه القادة العقائديين. إنها وإن أنتجت العنف. فإنها لا تتحمل المسؤولية السياسية عنه بمقدار ما تتحمل نتائجه الأخلاقية. والمثير في هذا النطاق واستناداً إلى شهادات كثيرين منهم الياسري نفسه؛ فإن العقيد عبد الوهاب الشواف» الذي كان - ويا للمُفارقة - عسكرياً يسارياً مقرباً من الحزب الشيوعي وصديقاً حميماً من أصدقائهم. بادر على الفور إلى الاتصال بقيادة الحزب وإلى تمحذير منظمة الموصل من مغبة مواصلة الدعوة إلى تنظيم المهرجان في معاقل القوميين والعربيين» منبهاً إلى خطورة مثل هذا التحشيد الجماهيري الشيوعي. ل يتجاوب الحزب؛ قط مع هذه التحذيرات» وعلى العكس جرى الاستخفاف بها. لكن الشواف بجسه العسكري وروحه الوطنية الوثابة أدرك بفطنة عالية» بأكثر ما فعل الإيديولوجيون في الحزب الشيوعيء ومنهم عزيز الحاج الذي

- 118 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

كان في قيادة الحزب آنئل ومسئولاً عن تنظيم المهرجان» أن حشداً جماهيرياً من هذا الطراز لن يكون سوى وسيلة لتفجير تناقضات المجتمع.

هذه الخبرة التي حض الشيوعيون العراقيون الشعب على تعلمهاء ليست و تكن؛ بل ولن تكون سؤى خلاصة الطريقة الى فهسم بهنا الحتزب نقسهة السياسة بوصفها ممارسة للعنف ضد الخصوم. ولذلك لا يتعين أبداء إلقاء التهمة على الجماهير أو إدانتهاء إلا من منظور كونها هي الأخرى. ضحية مفهوم عقائدي للسياسة نشرته وعملت على الترويح له أحزاب جماهيرية؛ عاشت طوال حياتها وهماً جماهيرياً ماسوياء هو في النهاية وعيها للعالم ولنفسها. إن الجماهير ضحية مفهوم للسياسة كان شاذاً وغريباً إلى النهاية. لقد جعل القادة الجماهير في قلب مواجهة شرسة ولا عقلانية مع الشعب. إن العنف الوحشي الذي تعامل به الشيوعيون» مع رفيقهم الضابط الوطني الشجاع عبد الوهاب الشواف وتهليلهم لقتله وسحلهءلا يفسره حادث وقوع الانقلاب بحد ذاته. ثمة أسباب أخرى لعل من بينها أن هذا الصديق ‏ من منظور الحزب الأيديولوجي الأعمى - هو في أعماقه عدو ما دام قومي النزعة. لقد كان الحزب في لا وعي قادته وحتى في لا وعي جمهور واسع من أعضائه. يتتقم من صاحب تلك التحذيرات المصممة ضد الإفراط في استخدام العنف. أبداً لم يرف جفن القتلة وهم يسحقون عظام رفيقهم القديم الضابط الوطني وأحد أبطال الثورة.

حرى بنا ونحن نعيد تركيب هذا التاريخ؛ أن ثلاحظ كيف أن القيم التقليدية في الجتمع العراقي, لم تلعب قطء أي دور في إعاقة العنف ولجم روح التصفيات الشريرة» سواء طاولت هذه التصفيات البعثيين والقوميين أم الشيوعيين أم الإسلاميين. لقد قامث الجماهير العقائدية ‏ وليس جماهير

- 119 -

الفصل الأول : الأحمر والأبيض, والأسود

المخزون الروحي للشعب وتحطيم الأسس التي نشأ عليها التراث والراسب الاجتماعي المتواصل. لم تعد هناك قيمة لعبارة مثل ( هذا ابن محلتى. من العيب سحله) أو ( هذا زميل دراستي من العار أن أفتله). هذه الحرمات التي يقيم للها من المفترض أن القيم التقليدية والثقافية القديمة والدين» تمنع وتعيق استخدام العنف ضد القرابات الأسرية أو الثقافية؛ إذ لا يجوز التهليل لقتل الأخ أو الصديق مهما كانت الظروف والخلافات. بيد أن تراجع هذه المنظومة من القيم عن التأثير في مجحرى الأحداث. وفي الحدٌ من الإفراط في القتل» يكشف عن وجه مريع من وجوه السياسة في العراق الحديث. كما يكشف عن الوجه الْمريع في قبحه لمفهوم العلاقة مع الشعب على النحو الذي صاغته الأحزاب الجماهيرية» وجعلت منه مفهوماً قائماً بذاته على مدى عقود. السياسة بالنسبة للحزب الجماهيري لم تعد سوى ممارسة يومية لفنون لا تأبه بالقيم التقليدية وهي تقوم بدلاً من التقيّد بقواعدها الصارمة التى تحرم القتل العشوائي وروح الثأر القبلية؛ بتحطيم الأسس الأخلاقية التى نشأت هذه القيم بفضلها. ولذلك لا يبدو غريباً أ يقوم البعفي في العراق المعاصر يقتل رفيقه. أو أن يقوم وملته؛؟ لأن السياسة كما فهمها العقائديون البعثيون والشيوعيون والمتدينون لا تعترف بنظام القيم القديمة للشعبء ومن النادر أن جرى الاعتراف بقيمة شيء اسمه العيب أو الحرام» أو بقيمة وأهمية عبارة مثل ( هذا ابن محلتنا) أو ( هذا جارنا). لقد أضحت وعلى طول الخط تجسيدا للعنف. وتلاشى منذئلر» ومع محاولة اغتيال قاسم كل أثر للتعقل والتروي والصبر؛ إذ تنكر الذئب في ثياب فتاة وبدأت حكاية افتراس أسطورية جديدة من صنع ورواية الجماهير.

- 120 -

الفصل الأول : الأحمر؛ والأبيض؛ والأسود

محاولة اغتيال قاسم: صدام الجماهيريات

في أوائل العام 1960 وفي أول اجتماع تعقده القيادة القطرية للبعث؛ والمؤلفة من خمسة أعضاء فقط» وهو فعلياً أول اجتماع كبير يُعقد بعد إعدام الشواف والطبقجلي ورفعت الحاج سري والآخرين» طرح الأمين القطري فؤاد الركابي على الحاضرين خطة اغتيال قاسم. لقد تسنى لي شخصياً الاستماع إلى قصة الاغتيال هذه مراراء والإطلاع على تفاصيلها الدفيقة حين التقيت في دمشق». صيف 1985 العضو القيادي في البعث عبدلله الركابي. كان عبد الله ابن خالة فؤاد وصديقه الحميم وتلميذه ‏ واحداً من الخمسة الكبار الذين اجتمعوا لمناقشة خطة اغتيال قاسم.ويبدو أن صوته كان حاسماً عندما جرى التصويت عليهاء إذ اعترض اثنان ووافق آخران. وهذا ما دعا طالب شبيب إلى التساؤل - في مذكراته ‏ عما إذا كان عبد الله عضواً في القيادة القطرية أم لا؟. فهو نفسه لا يعرف بالضبط الحالة الحزبية لصاحب الصوت الحاسم» وهذا أمر غريب ونادر الحدوث بالفعل؟ ولكنه يُدَلل على نوع الارتباك والفوضى التنظيمية داخل البعث في هذه الآونة جراء التصفيات والملاحقات؛ بحيث أن عضواً في القيادة القطرية» وهي أعلى هيئة حزبية في الإف الغرافيء ل يمرك ما إذا كان زفيلة ورفيقه مساحت الصو الات عضواً مثله في القيادة أم لا؟ وإذا ما تخطينا هذه العقبة المزعجة. لأن عبد الله الركابي أكد لي واقعة الاجتماع والتصويت وإنه كان عضوأ في قطرية البعث؛ فإن ظروف الاجتماع تدّلل على نمط الصعوبات والمضايقات والحصار المفروض على الحزب في هذا الوقت؛ بحيث أن قيادته لم تتمكن من جمع أعضاء آخرين لمناقشة عمل قد يكون مصيريا بالنسبة للحزب.

- 121 -

الفصل الأول : الأحمر؛ والأبيض, والأسود

أطلعنى عبد للّه الركابي حين التقيته مرات عدة في منزله بلندن شتاء العام 2000؛ على رسائل شخصية يحتفظ بها بعناية كان فؤاد أرسلها إليه في مناسبات مختلفة» ولم يكن من بينها أي رسالة تشير أو تلمح إلى ما جرى في السابع من تموز / يوليو 1959. عندما وقع حادث اغتيال قاسم الفاشل. بيد أ» عبد لله الركابي أخبرني» في المقابل» بتفاصيل أخرى هامة تخص دوره في امحاولة. وهذا ما كنت أرغب بسماعه منه؛ إذا كلفه فؤاد أثناء تقسيم العمل بين أعضاء فريق الاغتيال بإعطاء الإشارة التلفونية عن تحرك سيارة الزعيم عبد الكريم قاسم, التى تتجه عادة من مبنى وزارة الدفاع في منطقة باب المعظم مروراً بشارع الرشيدء وتحديداً في محلة رأس القرية. لقد كان هذا الدور الصغير؛ بل والذي يبدو عديم القيمة بالنسبة للحدث. حاسماً وهاماً ريبما بمثل أهمية صوت صاحبه في قرارات القيادة ‏ وحاسما حتى بالنسبة إلى فرقة الاغتيال التى كلفها الحزب القيام بهذا العمل وكان في عدادها صدام حسين ( الرئيس صدام حسين وكان يُعرف في هذا الوقت باسم صدام التكريتي). انضم الشاب صدام حسين إلى فريق الاغتيال المؤلف من سليم الزيبق وسمير عبد العزيز النجم وعبد الوهاب الغريري وعبد الكريم الشيخلي وأحمد طه العزوز وحاتم حمدان العزاوي» وكان عليه أن يلعب دوراً خطيراً يفوق إماكنيات شاب صغير. أدرك الشاب صدام حسين أنه لم يحض من المنفذين الرئيسيين سوى بنظرات التشكيك؛ حين دخل الشقة المخصصة لوضع اللمسات الأخيرة للعملية في شارع الرشيد. ومع ذلك فإن هذا الأمر لم يدفعه إلى التردد. لقد نشر وكتب الكثير عن محاولة اغتيال قاسم, والدور الذي لعبه فريق الاغتيال وظروف الفشلء ولا أجد في كل التفاصيل القديمة ما يستدعي النظر بعمقء إنما الرواية التاريخية» التي أصبحت اليوم معروفة جيداً. بيد أن ما يستدعي النظر

-122-

الفصل الأول : الأحمر والأبيض, والأسود

بعمق, إنما هو شيء آخر يخص علاقة هذه المحاولة بفكر البعث وخلافاته الداخلية وانعكاساتها السياسية.

التهت محاولة الاغتيال بالفشل الذريع ونا قاسم من الموت. وحين تمت عمليات بحث واسعة النطاق القي القبض خلاها على معظمهم؛ لاحت فوق سرير قاسم الجريح في المستشفى؛ أطياف قتلاه وأيقن أن أرواحهم ستطارده. ولذا قال قولته المشهورة: عفا الله عما سلف. قرر قاسم التنازل عن حقه الشخصي في الادعاء على الفاعلين» وني مساء اليوم ذاته خرج من المستشفى ليخاطب الشعب بأصدق وأقوى العبارات. وفي خطاب آخرء ألقاه بعد وقت قصير من اعتقال ومحاكمة المتهمين» سعى قاسم إلى استرداد روح الوحدة الوطنية وتهدئة الجماهيريات المتصادمة في الشارع. إن العودة إلى نص الخطاب الذي أعلن فيه قاسم العفو الشخصي عن مدبري محاولة قتله» ستكون مفيدة للغاية من أجل رسم صورة دقيقة عن رجل سعى خصومه. بكل الوسائل» بما فيها تأليب وتحريض الجماهيرء إلى تحطيمه وتشويه صورته أو إظهاره في هيئة رجل مجنون و( صاحب أذنين كبيرتين). إن الصورة النمطية التي ركبها السياسيون المخاصمون لقاسم في أذهان الجماهير» جديرة بأن يُنظر إليها اليوم ومن منظور جديد» بوصفها واحدة من أعظم البراهين على الطبيعة المتفجرة للتناقضات داخل المجتمعات الحزبية المتصادمة في الشارع. صُوَّرٌ قاسم على أنه صاحب أذنين كبيرتين شيطانيتين وأنهما دليل جنونه القاطع؛ فالبشر العاديين بملكون أذناً بشرية عادية» بينما بملك الخصوم الجانين آذاناً كبيرة وشيطانية. هذه الصورة النمطية كانت رداً بذيئاً على صورة غغطية موازية أكثر بذاءة أشاعها الشيوعيون عن عبد الناصرء الذي صور في هيأة حمار. هذه الصور النمطية المخزية التى تبادهها العقائديون المتخاصمونء وأشاعوها ورسخوها في المخيال

- 123 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

الشعبيى» تعطي فكرة دقيقة عن المستوى الذي انزلقت إليه السجالات السياسية في عراق الستينات من القرن الماضي حول أخطر القضايا وأكثرها تهديداً مصائر العرب.

ألقى قاسم بعد منتصف ليلة 1960-3-13 بعد أشهر من حادث الاغتيال الفاشل - وبعد أيام من صدور الأحكام بحق المتهمين: بيناناً إلى الشعب صارحه فيه كما لم يفعل زعيم من قبل» فقال: إنه متمسك بالوحدة الوطنية لأن العرب والأكراد والتركمان لا يحيون إلا:

بالتكاتف مع بعضهم البعض وبالدفاع عن كيان الوحدة العراقية الصادقة. اتركوا الطيش. يجب أن تسيروا وراء التفكير العميق. أرأيتم لؤلئك الذين تصدوا لي في الطريق. هل يسيرون بأسس يقبلها ضميركم؟ لقد اعتدوا علينا بوابل من الرصاص والنيران وأرادوا أن يجعلوا هذا الشعب يقاتل مع بعضه البعض فتسيل البرك من الدماء. أن القانون يحفظ مصلحة الجميع إنكم عندي سواء. أخبرت رئيس احكمة العسكرية أنني عفوت عن حقي الشخصي وليكن حسابهم عن الحق العام ولتكن الرحمة فوق العدل.

لم ينس قاسم في هذا الخطاب الرائع؛ أن يُذكر الشعب بأنه وافق على حكم بالإعدام بحق أحد الشيوعيين وذكره بالاسم» قصد البرهنة على أنه لا يحمي هؤلاء كما يزعم خصومه. عندما قال: ( صدر مرسوم جمهوري لتنفيذ حكم الإعدام بمجرم آخر هو منذر أبو العيس الذي اعتدى على أحد المواطنين وسبب قتله بصورة وحشية بين جمهرة من الناس). النفت قاسم في هذا الخطاب إلى أمر كان يثير في الصميم؛ مخاوف المجتمع العراقي بأسرهءففي هذه الآونة بلغت أعمال اياج والقتل في الشوارع حداً مقلقاً؛ وشهدت بغداد واحدة من أبشع المطاردات وأعمال القتل على الهوية» عندما تسبب شيوعي

- 124 -

الفصل الأول : الأحمر؛ والأبيض, والأأسود

يدعى أبو العيس من أهالي الكاظمية بقتل مواطن بريء ركلاً وضرباً بحجة أنه بعئي. فيما بعد. وبالروح التصاحية ذاتها سوف يخفف قاسم حكم الإعدام هذا. أما دعوته إلى التعقل والتفكير العميق» فقد ذهبت أدراج الرياح في مجتمعات عقائدية حزبية كانت تنزلق نحو الجنون الجماعي» بينما يتهم بعضها رئيس البلاد بالجنون؟. وكما في أسطورة ليلى والذئب» فقد أتضح أن نوعاً من التقنع أو التنكر كان يعم هذه امجتمعات التى راحت تتخيل مخاصميها في صورة الذئب. بينما تصور نفسها ‏ هي - في هيأة الفتاة البريئة المهددة بالموت. كانت هذا التذكير دلالة خاصة؛ إذا ما أخذ في سياق دعوة قاسم إلى نبذ العنف والتفكير بعمق وترك الطيش وجعل الرحمة فوق العدل؛ فقد تعاظمت هستيريا الجماهير آنئنر في الشارع وأصبح القتل ظاهرة عامة ومُقلقة. في الحقيقة كان القتل متبادلأء فلم يكن البعثيون والقوميون أقل شراسة من مليشيات الحزب الشيوعيء وبالطبع فقد تمتعوا بقدرة فائقة على استفزاز خصومهم وجرهم إلى معارك بالأسلحة الفردية في الشوارع والأزقة. وهذه تطورات إلى اغتيالات بشعة لأعضاء الحزب الشيوعي في بغداد والموصل وكركوك وسواها من المدن العراقة ١‏

وقعت محاولة اغتيال قاسم الفاشلة في وقت بلغ فيه التوتر السياسي والاجتماعي ذروته؛ وهذا ما انتبه إليه قاسم وحاول استثماره من أجل إعادة تجميع سلطته الموزعة» والمنشظية التى بترها الجمهيريون والعقائديون وراحوا يعبثون بها في الشوارع تماماً كما عبثت الجماهير بالعضو التناسلي للأمير عبد الإله. ولكن الوقت كان قد فات بالفعلء لأن الأسلحة صارت تتدفق إلى العراق من مصر بإشراف المخابرات المصرية وبمشاركة السفارة المصرية في بغداد. وذلك ما كشفت عنه حتى مذكرات قادة البعث تلياء الذين أكد

- 125 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

معظمهم أن بعضاً من السلاح الذي أرسل من القاهرة ومعه معدات إذاعة سرية إلى عبد الوهاب الشواف ورفاقه من أجل تنفيذ الانقلاب» قد أصبح في يد البعث ومَ استخدامه. بالفعل لتنفيذ عملية اغتيال قاسم. من جانبه. استخدم عبد الناصر منذ العام 1959 نفوذ عبد الحميد السراج رجل سورية القوي» وتنسيق السفارة المصرية مع فؤاد الركابي على حد سواء. لتمرير كميات كبيرة من السلاح إلى المدن العراقية. أضفى هذا التطور ني علاقات القوة بين العراقيين والمصريين طابعاً دراماتيكياً عنيفاً على الأحداث. إذ لم يعد الصراع مجرد صراع بين جماهيريتين» أو موجتين من الجماهير أو بين حزبين عراقيين كانا حليفين يومأ ما ضد الملكية وساهما في صنع استقلال العراق» بل بات صراعاً إقليميا بين أهم دولتين عربيتين.

وما زاد الطين بلة أن الأموال تدفقت من مصر ( نحو عشرين ألف جنية وهو مبلغ كبير في ذلك الوقت) إلى جانب السلاح. لتسهيل القيام بأعمال داخلية عنيفة. لقد سعى فؤاد الركابي بكل الوسائلء إلى إخفاء أمرين هامين عن رقابة القيادة القومية للبعث في سورية: خطة الاغتيال المدبرة ضد قاسمء» والعلاقة مع السفارة المصرية حيث تدفق المال والسلاح.وبضغط منه. صمم الوفد الذي سافر لحضور المؤتمر القومي الثالث لحزب البعث في بيروت» على أن يحجب عن القيادة أية معلومات بصدد هاتين المسألتين. في هذه الأثناء ظل الركابي يلح على أعضاء الوفد أن يشاركوا بفعالية في أعمال المؤتمر» وني الآن ذاته أن يواصلوا التكتم على خطة الاغتيال حتى على عفلق. بيد أن فشل محاولة الاغتيال أوقع الوفد العراقي في الحرج حين ترددت في وكالات الأنباء, أسماء بعض المتورطين ومن بينهم الركابي نفسه. الذي لم يجد مكانا آمنأله فوصل القاهرة فارا عبر دمشق.استدعى ميشيل عفلقء على الفور؛ طالب

- 126 -

الفصل الأول : الأحمرء والأبيضء والأسود

شبيب الذي انتخبه المؤتمر مسئولاً عن مكتب الأمانة في الحزب. وسأله إِنْ كان يعرف أي شيء عن محاولة اغتيال قاسم؟ أسقط في يد شبيب وقرر مكاشفة عفلق بالأمر. في هذا الوقت كان اشتراك عفلق في المؤتمر الثالث للبعث. يمثل - في أجواء التوتر بين البعث وعبد الناصر بسبب قرار حل الحزب - تحدياً سافراً لجمهور الحزب؛ ولذا جاءت أنباء فشل المحاولة لتضيف بُعداً جديداً على الأجواء اللبدة بالخلافات. ويبدو من الوثائق الخاصة بهذه الحقبة» أن عفلق شعر بفداحة الخطأ التاريخي الناجم عن حل البعث. وأضحى أكثر استعداداً للتراجع عنه. ( بينما على الطرف الآخر كان فؤاد الركابي وعبد للّه الريماوي في الأردن) يدفعان بتيار عريض استمر ينادي بتحقيق الوحدة مع مصر بأي ثمن حتى وإن أدى ذلك إلى حل البعث). وسوف نرى تاليا كيف أن هذا الأمر» ساهم في تعميق الفجوة بين عفلق والركابي» وعلى العكس ساعد في تحول الركابي نفسه إلى الناصرية نهائيا.

إن محاولة اغيتال قاسمء منظوراً إليها من زاوية العلاقة بين الحزب والجماهير يمكنها أن تكشف عن تحول مثير بالنسبة للخط البياني لتطور عقدية وسياسات البعث نفسه. وهاذ ما تنبهت إله قطرية البعث في آب 1960 حين سارعت إلى إدانة المحاولة وشجبهاء وتحميل الركابي مسؤولية القيام بها من وراء ظهر القيادة. رأى البعث في هذه الآونة إلى نفسه وقد أصبح نظرياً وبسبب محاولة الاغتيال» في وضع متناقض بشكل صراخ مع مبادئه. وكانت الجملة الواردة في بيان القطرية عطفاً على قرار إدانة أصدرته القيادة القومية من بيروت» والقائلة ( إن محاولة اغتيال قاسم من قبل القيادة القطرية السابقة هو خرق لعقيدة الحزب وانحراف عن أسلوبه الشعي) دليلاً على أن البتعث شعرء في هذه الأثناء؛ بالطبيعة الخطرة لانزلاقه وراء الحياج الجماهيري.

-127-

الفصل الأول : الأحمر والأبيض, والأسود

وتعكس مفردة ( الشعبي) في وصف البعث لأسلوبه في العمل السياسي؛ بدلاً من كلمة ( الجماهيري) شعوراً مُفعماً بالضيق من التورط في هذا النمط من الأعمال العنيفة» بأكثر ثما تبدو مجرد استخدام عابر أو عفوي لمفردة دون أخرى. ولكن ما هو بالضبط هذا الأسلوب الشعبي الذي عناه البيان؟

إذا افترضنا أن البعث وجاد.ء آنشلرء فارقاً مفهومياً وأخلاقياً لا لغوياً وحسبء بين كلمتي شعي وجماهيري, وأنه لهذا السبب استخدم الكلمة الأولى بديلاً عن الثانية» ليشجب غمطأ من انقلابية مضادة على أفكاره ومبادئه» فمن المنطقي أن ينعكس هذا الإحساس في سلوك الحزب إزاء جماهيره» التي بات يتعين عليه منذ الآنء أن يُعيد تثقيفها ويُعيد صياغة مفهومها للسياسة. إن كلمة شعي ومن حيث الدلالة الْمحْتَرْئة» تعطي إحساساً بالتواضع والتقرب من الشعب ومخاطبته بطريقة أكثر رقة وتهذباً واحترامأء ومساعدته على تلمس الحلول السلمية لمشكلاته؛ بينما على الضد من ذلك توحي كلمة جماهيري بنمط من غطرسة القوة وبنوع من المهابة» التي لا يمتلكها سوى قطاع محدود من اجتمع يُدعى الجماهير. وهو في النهاية» قطاع سياسي من امجتمع وليس الجتمع نفسه. وبالفعل؛ فإن العودة إلى أدبيات البعث والشيوعي والحركة الإسلامية والقوميين العرب في هذه الحقبة؛ بل وحتى في حقب تالية» سوف تبرهن على أن فكرتها عن الجماهير لم تكن سوى تجسيد لحقيقة أنها تريد تحويل قطاع من امجتمع؛ إلى مجتمع سياسي صغير يمكن الزج به في المعارك» وإن كل هدفها وكل استراتيجياتها وتكتيكاتها السياسية المتبعة في هذا الميدان» إنما هي أحداث نقلة في حياة قطاع بعينه من البشرهء والانتقال بهم من طور ما قبل الفعالية الاجتماعية إلى طور الفاعلية السياسية. وهذا يعنى ببساطة أن الجماهير تم تعريفها في الفكر السياسي العراقيء بأنها القطاع المسيس أو الذي أمكن

- 128 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

تسييسه من الجتمع» ولم تكن هي الجتمع أو الشعب أبداً. بيد أن البعث لم يكن قادراً أو صادقاً مع رغبته هذه. قطهء ولم ينجح في أحداث مثل هذا التبدل الحقيقي في أسلوبه السياسيء وربما تردد أمام إمكانية إحداث قطعية مع الماضيء كما ستبرهن التجربة بعد ثلاث سنوات فقط من هذا البيان حين سيقوم بانقلاب 1963 وتبادر مليشياته الجماهيرية المسلحة إلى الفتك بالشعب. بعد فشل محاولة اغتيال قاسم التى أسفرت عن سقوط قيادة الركابي؛ أصبح على السعدي قائدا جديدا للبعث في العراق.

ولكن؛ وبينما كان المحزب ينشغل بلملمة جراحه ويستعد لمعارك جديدة» طرأ تحول مثير في الحياة السياسية العراقية؛ فقد خرجث المرجعية لشيعية في النجف عن صمتهاء واستعدت للدخول كقطب سياسي معارض وكطرف أصيل في هذا الصراع؛ الذي احتدم بصورة واسعة وبات ينذر بمواجهات دامية. ففي العشرين من شباط / فبراير عام 1961 أطلقت النجف أول طلقات التحذير» عندما أصدر المرجع الأعلى السيد محسن الحكيم ‏ والد محمد باقر الحكيم - فتواه الشهيرة بتحريم وتجريم الشيوعية. ارتعد الشيوعيون هلعاً لسماع الفتوى. لقد دخل ملالي العراق على خط الصراع وقدموا أنفسهم عبر الفتوى كطرف أساسي فيه:

بسم الله الرحمن الرحيم ولله الحمد: لا يجوز الانتماء إلى الحزب الشيوعي فإن ذلك كفر وإلحاد أو ترويج للكفر والإلحاد. أعاذكم الله وجميع المسلمين من ذلك؛ وزادكم إماناً وتسليماً والسلام عليكم وبركاته.

هذه الفتوى القصيرة والمتقشفة في أفكارهاء كانت كافية لإثارة الذعر في صفوف الشيوعيين والارتياح في صفوف خصومهم؛ بينما تنفس قاسم الصُعداء لأن قاضمي سلطاته في الشارع أصبحوا منذ الآن» وجهاً لوجه أمام

- 129 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

خصم أكثر مكرأ وقوة» وأمام عدو جديد ما كان لهم أن يتخيلوه. في الواقع» كشفت الفتوى عن عنصر ضغط جديد على الشيوعيين؛ فالمرجعية الشيعية التقليدية ظلت صامتة إزاء الخطر العقائدي الخارجي المستوره - حسب تعابير تلك الآونة ‏ وقد جدت أخيرأء أن الوقت بات مُناسباً لإيقاف عمليات قضم حصتها من الجماهير الشيعية» التي صارت تتدفق على الحزب الشيوعي العراقي. لقد ثارت شكوك لا عد لها بشآن دوافع هذه الفتوى» وكالعادة تفنن الكثيرون في إعطاء تفسيرات بوليسية من بينها بالطبع دوافع خارجية. بيد أن قراءة موضوعية وأمينة للوقائع كما جرت. ستدّلل على أن الفتوى لم تصدر إلا بفعل بواعث وعوامل محلية خالصة؛ إذ وجدث الحوزة العلمية في النجف أن من واجبها حماية البيئة الشيعية التي تسلل إليها الشيوعيون. وراحوا يستقطبون فيها الجماهير الفقيرة والشعبية؛ إلى أفكارهم عن العدالة الاجتماعية والمساواة؛ وعمليا تقليص درجة نفوذ جماهيرية ‏ حمراء - تهدد بنسف التوازنات السياسية التقليدية في المجتمع. أدت الفتوى وبسرعة مثيرة إلى نصب حواجز فقهية أمام الجماهير» بحيث استحال على الشيوعيين تخطيها أو الصدام المكشوف معها. ني هذا الوقت استثمرت الأحزاب الدينية الشيعية وخصوصاً حزب الدعوة الإسلامية السري, أجواء التحريم من أجل التمدد في الأحياء الفقيرة والشعبية على حساب الحزب الشيوعيء بينما انتعشت آمال جماعة الأخوان المسلمين في المناطق السنية العروبية.

فيما بعد ستقوم الحوزة العلمية في النجف بتطوير هجومها المعاكس هذاء وتدخل في صدام مع البعث لإعاقة تحركه في الوسط الشيعي. يروي على

- 130 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

كريم الواقعة التالية ذات الدلالة الخاصة ( حوار المفاهيم 310) 3 ' نقلاً عن رواية لأحد رفاقه البعثيين من سكان مدينة الكاظمية:

بعد أيام قليلة من وقوع الانقلاب ضد قاسم. وبينما كان البعثيون يواصلون تطوير مليشيات الحرس القومي وهي مليشيات مُسلحة: تولت مهام الحراسة والقيام بحملات الاعتقال والتصفية المسدية بحجق خصوم البعث. وأوقعت مذابح مروعة ضد الشيوعيين بشكل خاص؛ وأمضى الشاب ‏ راوي القصة ‏ خلالها نحو سبعة أيام متتالية في نوبة حراسة طويلة؛ أقفل عائداً إلى منزله مُتعباً ليجد والده بانتظاره غاضباً ومُنزعجاً:

بسبب إلغاء الشهادة الثالثة من مقدمة الآذان ( والتى تذكر اسم علي بن أبى طالب وهي إضافة أصر الشيعة على ثثبيتها في الصلاة) فأخبرنا قيادة الحزب بخطورة ذلك؛ فارسلت القيادة إلينا فوراً الرئيس عبد السلام عارف. وبعد استماعه لحيئيات الموضوع قال: أشغلتمونا بموضوع ليس بذي قيمة. وأقفل راجعاً. أعلمنا القيادة ثانية فأرسلت رئيس الوزراء أحمد حسن البكر الذي اعتبر الأمر خطيراً لكنه قال: إن أحسن من يستطيع تولي مثل هذه الأمور هو علي السعديء الذي تصرف محزم ودون ترددء فوجه اللوم إلى جماعة الشيخ الخالصي ثم توجه إلى الصحن الكاظمي آمراً الشرطة بتجريدهم من أسلحتهم وتم ذلك.(..) ول يغادر المكان إلا بعد أن استمع إلى الآذان فجراً واطمأن إلى عودته كما كان.

تؤكد هذه الواقعة بدلالاتها الثقافية والسياسية المباشرة على الحقيقة التالية: إن الصدام مع الشيوعيين عنى بالنسبة لكثيرين في حزب البعث. صداماً (' - سعيد ( د. علي كريم) : عراق 8 شباط من حوار المفاهيم إلى حوار الدم ‏ مراجعات في ذاكرة

طالب شبيب» دمشق دار الكنوز الأدبية 1999 -131-

الفصل الأول : الأحمر؛ والأبيض؛ والأسود

لا مع الثقافة المستوردة لمؤلاء حسب. وإنما مع ثقافتهم الحلية أيضاً؛ هذه التي تصدر عن بيئة مذهبية ترعرعوا فيها ونشطوا بين أبنائها. وبذا اتسع الصدام بين الموجتين الجماهيريتين وانتقل من عال الأيديولوجيا والسياسة إلى عالم المعتقدات الدينية والمذهبية. وهكذاء سارت التصفيات الجسدية في الأيام الأولى للانقلاب كتفاً لكتف. إلى جانب وبموازات تصفية بعض المعتقدات المحلية الخاصة بالشيعة» ومن بينها ذكر اسم الإمام علي بن أبي طالب في الآذان الذي يرفعه مسجد الإمام موسى الكاظم ‏ كما كل مساجد الشيعة -. ولآن عبد السلام عارف تصرف, على نحو ما كرئيس سني مهموم بالوحدة مع عبد الناصرء فقد رأى في حذف اسم الإمام علي من الآذان أمراً تافهاً ولا أهمية له وفوق ذلك لا ينبغي أشغال القيادة به؛ ولذا اقفل راجعا وهو حانق على حلفائه البعثيين. بينما على العكس من ذلك تصرف البكر بتعقل» وفضل إرسال زعيم حزب البعث ( الشيعي) على صالح السعدي لعالجة المشكلة. كانت الرموز الدينية والمذهبية حاضرة بقوة في قلب هذا الارئتطام العنيف للأفكار والمعتقدات السياسية. ومن غير شك؛ فإن دوافع تصحيح الخطأ الذي وقع فيه بعض أعضاء المليشيات البعثة المسلحة ئمن ينتمون إلى مذهب أهل السنة» كانت تنصرف إلى منع تفجير صراع مُبكر مع ال حوزة في النجف. كان البعئيون يدركون ‏ مع صدور فتوى الحكيم الأب أن تجريم الشيوعية واعتبارها كفرأً لا يصب لصالحهم وحسب. وإنما يُزودهم بذخيرة هم بأمس الحاجة إليها. فهاهي النجف تنتفض على التمدد الأحمر وتضرب بيد من حديد على أيدي المتطاولين وتُعيد تحجيمهم. كانت المعركة تتخذ, آنل طابع صراع مُتراكب تدخل فيه الثقافة القديمة والرموز والمعتقدات والاجتهادات الدينية كقوة هيمنة. بيد أن سلوك بعض أعضاء ميليشيات البعث وإقدامهم على منع الآذان الشيعي» ومهما كانت مُبرراته» يعكس بدرجة كافية من وضوح

-132-

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

المقاصد. حقيقة أن جوأ تربوياً داخل الحزب الجماهيريء كان سائداً بالفعل؛ وأساسه احتقار معتقدات جماهير أخرى نظر إليها على أنها جماهير الخصم. إن هذا يُدَلل بلا مراء» على أن حزب البعث في هذه الآونة تصرف كحزب جمعة بعينها من الشعب ولم يتصرف؛ قط كحزب للشعب.

ألقت هذه الواقعة بظلال من الشرك والريبة على العلاقة بين حزب البعث والشيعة. وإذا شئنا الدقة والتخصيص أكثرء على العلاقة بين قيادة البعث والمرجعية في النجف. أي بين السلطة الجديدة في بغداد و( المركز الروحي للشيعة) في النجف؛ وربما فاقمت - الواقعة ‏ على نحو ما من درجة الكرافة الشادلة: رهد ها تمكسه بدقة واقعة اشر ذات دلالة هات سية تجنب المرجع الشيعي الأعلى آية الله محسن الحكيم اللقاء بقادة البعث, أثناء واحدة من زياراته النادرة خارج النجف. كانت قيادة عارف الأول تحارل؛ بكل الوسائل: عن طريق علي السعدي» إعادة مد الجسور مع النجف وتجاوز واقعة آذان الكاظمية المتلاعب به بالإيحاء أن جماعة الشيخ الخالصي أحد أبرز رموز الشيعة» هم من يقف ويا للمفارقة وراء التلاعب. لقد تحققت بنفسي من هذه الواقعة حين سألت الشيخ جواد الخالصي ‏ حفيد الخالصي الكبير ‏ إذ أكد لي في بيروت عندما التقيت به ( آذار مارس 2004) أن حذف اسم الإمام علي بن أبي طالب لم يحدث. بل جرى تعطيل الآذان في المسجد بسبب عنف المواجهات المسلحة مع الشيوعيين. ولكن المدرسة الخالصية لما اجتهاد خاص في إطار المذهب الشيعي يدعو إلى إسقاط اسم الإمام علي من الشهادة الثالئة في الآذان» بوصفها إضافة ليست من أصل التشريع الدينى. ومهما يكن من أمر فإن الصراع حول هذه المسألة وقع بصورة أو أخرى مع اختلاف الروايات.

- 133 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

وبالطبع فقد أيقن النظام الجديد أن الفتوى بتجريم الشيوعية» إنما مكنته وعلى غير توقع» من الحصول على غطاء فقهي مناسب سيجري استغلاله للبطش بالشيوعيين دون رحمة. غير أن سائر هذه المحاولات ارتطمت بصمت النجف وتمنعها عن تلبية أي طلب باللقاء الرسمي مع البعث. زار الحكيم مدينة سامراء في مطلع أكتوبر 1963؛ بعد نحو ثمانية أشهر تقريبا من واقعة حذف اسم الإمام علي من الآذان في مسجد الكاظم. وفي هذه المرة» كما في المرات التالية»ه سوف يواصل الحكيم تجنب اللقاء بقادة البعث على الرغم من الجهود الحثيثة التى بذها هؤلاء لخطب ود المرجعية في النجف. أرادت النجف» عبر هذا الرفض؛ إيصال رسالة مفادها أنها تحتج بشدة على السلوك الوحشي للبعث.ولكنها في الآن ذاته رسالة تسعى إلى مخاطبة جماهير الطائفة؛ بأنها سوف تتقدم بقوة لشغل الفراغ الذي تركه انهيار الحزب الشيوعي بعد انقلاب عارف الأول. وهذا ما تجسده زيارة سامراء السنية الى تحتفظ بمرقدين من مراقد أئمة الشيعة: مرقد الإمام الهادي والإمام العسكري.

تحولت زيارة الحكيم إلى تظاهرة هائلة شارك فيها تجار الشيعة بنشاطء عندما نظموا حملة تبرعات وأقاموا الولائم في كل مكان بلغه الموكب في طريقه من النجف ماراً بكربلاء فبغداد. حيث افتتح المرجع الأعلى سلسلة من المساجد. وعلى خلاف ما اعتقد بعض السياسيين العراقيين؛ فإن احتجاج الحكيم الصامت والذي عبر عنه برفض اللقاء بالبعث. ليس مرده المخاوف من استغلال فتواه ضد الشيوعيين» فهذا أمر لا يعينه كما نتصور؛ بل مرده سلوك الميليشيات البعثية الوحشي الذي نشر الرعب في العراق كله. وفي هذا النطاق من الاحتجاج؛ سعت النجف إلى استغلال أجواء النقمة الشعبية على سلوك البعث وانهيار الشيوعيين» أي إلى استغلال ظروف انهيار الموجتين الجماهيريتين

134

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

المتقاتلتين» من أجل تقديم نفسها كقوة مجتمعية وحيدة داخل الطائفة وداخل امجتمع .

ها قد حانت الفرصة للمرجعية في النجف. لكي تقوم بتنظيف البيئة الطائفية من نفوذ الجماهيريات العقائدية»ولكي تعود إليها بقوة بعد أن تطهرت من الشيوعيين والبعثيين على حد سواء. ابتداء من هذا الوقفت» سوف يبرز حزب الدعوة الإسلامية الشيعي كأهم حزب جماهيري طائفي. أنه حزب الجماهير الطائفية المفتونة والمغرمة بفكرة كونها تمثل أغلبية ا جتمع. وسوف ثبين الأحداث أن حزب الدعوة» الذي كان حزباً مغموراً منذ الخمسينات» وأخفق في التنافس مع الأحزاب الجماهيرية كالشيوعي والبعث وحركة القوميين في نطاق جاذبية الأفكار» ولم يتحول إلى قوة جماهيرية إلا بعد واقعة زيارة الحكيم ( عندما استغلها بنجاح وعمل عل قيادة حشودها الجماهيرية المواكبة للزيارة) قد أصبح اعتباراً من هذا الوقت هو الحزب الجماهيري الوحيد الممثل للطائفة.

وبذلك بدأت تتشكل ملامح حقبة جديدة في الحياة السياسية في العراق: لقد جاء الحزب الطائفي الحقيقي أخيراً ليزيح عن طريقه الحزب الطائفي المزيف - الشيوعي - الذي تسلل إلى البيئة الشيعية. وكما في الأساطير والحكايات الشعبية؛ فإن البطل الحقيقى لن يظهر إلا بعد وقت طويل من انتصار البطل الأزيف. من أجل أن يقوم بإزاحته وتحرير الجماهير من عقائده وشعوذته وأفكاره السامة. كان الحزب الشيوعي والبعث. في نظر حزب الدعوة» بمثلان من المنظور الرمزي صورة الأعور الدجال - في المثيولوجيا الشيعية ‏ بينما رأى هو إلى نفسه؛ في صورة المهدي الْننظر والمخلص الذي جاء إلى جماهيره. وابتداء من هذه الحقبة سوف تتبلور في الحياة السياسية والاجتماعية في العراق» أولى الأفكار والتنظيمات السياسية؛ وذلك بفضل

- 135 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

انزياح الأحزاب والأفكار العقائدية الشيوعية والعروبية عن بيئاتها التي ترعرعت فيهاء وبفضل إخفاق الفكرة الجماهيرية كصانعة للديمقراطية.

م يكد يمضي وقد طويل على التحالف البعثي - الناصري الذي أطاح قاسم؛ حتى قام عبد السلام عارف الْمنصب باتفاق الجماعات القومية رئيساً للجمهورية؛ والذي انهار حلمه بالوحدة الفورية مع مصر كلياً - إثر تُمنع عبد الناصر الْمعلن عن إبرام وحدة حقيقية مع العراق ‏ بالانقضاض على حلفائه البعثيين وأذاقهم من الكأس التى أرغموا المجتمع كله على التجرع من سمها الزعاف. لقد أطاح بهم في انقلاب عسكري صاعق حل بُوجبة المليشيات المسلحة ( مليشيات الحرس القومي) سيئة الصيب؛ وشهر بها وفضح جرائمها وطاردها. بيد أن عارف لم يكد. هو الآخرء يهنا بانتصاره طويلاً حتى خطفه الموت بصورة غامضة؛ عندما كان يحلق بطائرة هليكوبتر فوق بغداد. لم يتمكن عارف الأول من إنجاز أي تغيير حقيقي. لا في الحياة السياسية ولا في الحياة الاجتماعية» واتسنت سنوات حكفة بوجنة الأتغال يكونهنا سئوات اتطفناء جذوة المشاعر والحماسات للعمل العام. وربما تراجعت وإلى حد يعيد فكرة ومعتقدات العامة والنخب عن مكانة العراق في العالم العربي. لم يكن للعراق في عهد عارف الأول وزن سياسي أو تأثير في مبحجرى السياسة الإقليمية والدولية؛ وكان حضوره كدولة قائدة باهتاً واضعف مما كان عليه الحال في عهد نوري السعيد؛ الذي يظل له الفضل - بالرغم من كل ما يقال بحقه ‏ في وضع العراق على خريطة الأحداث كلاعب هام في السياسة الإقليمية. فور الإعلان عن موت عارف الأول في حادث سقوط طائرة الهليكوبتر» باشر قادة الجيش وبعض السياسيين الإعداد لمرحلة ما بعد عارف الأول. وبعد مداولات سرية تم اختيار شقيقه شقيقه عبد ال رحمن عارف لزعامة البلاد؛ وبذلك أسدل الستار على مرحلة رهيبة من الصدام العنيف بين الجماهيريات.

- 136 -

الفصل الأول : الأحمرء والأبيضء والأسود

القرامطة الجدد يساريون عند بحيرات البترول

مع عارف الثاني 1966 ستبدأ حقبة جديدة يتواصل فيها تلاشي كاريزمية القائد» بالتوازي مع تلاشي وتآكل كاريزمية الدولة. هاقد عاد العراق مرة أخرى, لينزوي ثانية وبعد انجلاء غبار المعارك الدامية بين العقائديين المتنافسين في الشارع, في دولته شبه البولندية حبيس طموحات وأحلام لن تتحقق. ولكن. وفي الآن ذاته لتبدأ حقبة جديدة في الحياة السياسية لا أثر فيها تقريباً للأحزاب الجماهيرية» التى أضحت الآن أكثر ضعفاً وهواناً. فالبعث حطم الحزب الشيوعي. بينما تولى عارف الأول تحطيم البعث في اتقلاب 18 تشرين الأول / اكتوبر 1964. على هذا النحو عاش العراق السنوات الخمس الممنتدة مابين1963 -1968 من دون أدوار أو طموحات أو أمال بالتحديث؛ ولكن بسلام داخلي يتحسر عليه العراقيون حتى اليوم. لقد تبدى قبول العراقيين لحاكم ضعيف مثل عارف الثاني» وساسة يتحدثئون بلغة ليبرالية مثل رئيس الوزراء عبد الرحمن البزاز» وبعد أقل من عقد على ثورة تموز / يوليو ولغتها الثورية؛ وكانه تكفير عن سنوات من ضياع الفرص بالتقدم والحداثة والإصلاح والهدوء؛ وربما كتعبير أو استجابة ولو من طرف خفي؛ لرخبة مكبوتة في امجتمع بأسره بإحداث قطيعة مع عهد الأحزاب الجماهيرية ومليشياتها المسلحة وجماهيرها المكفهرة الوجوه والغاضبة» والتى روعت المجتمع وأغرفته في مذابح متواصلة وصراعات لا عقلانية» كانت تنتقل وتتفشى كالوباء من مدينة إلى أخرى. ارتأى باحث عراقي ( انظر رسالة عامر العاني إلى

-137-

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

المؤلف والتى سيتم اللجوء إليها كشهادة شخصية في هذا الكتاب مراراً) 4 !: إن اختيار رجل القانون عبد الرحمن البزاز كرئيس للوزراء يمثل ‏ على نحو ما - محاولة أخيرة من الدولة لتخطي العنف الجماهيري في هذه الحقبة. وهذا تقدير حصيف ومقبول تماماً. بيد أن البزاز واجه منذ البداية رفضاً مُبطنا أو شبه معلن في بعض الحالاات» من معسكرين. الأول:

البيروقراطية العسكرية ‏ كبار الضباط الذين تمكنوا خلال الفترات الماضية من تثبيت مواقعهم في إدارة الجيش وفي الحياة السياسية . وكذلك ومن جانب جماعات مدنية» كانت قد وجدت نفسها في وقت سابق أيضا في مواقع المسؤولية؛ وقد بانت الآن مع صعود البزاز أكثر شعوراً بالخطر على مصا حها. أما الممسكر الثاني:

فقد تمثل في الحزبين الجماهيريين الكبيرين البعث والشيوعي. إذ يبدو أن صعود دور البزاز في الحياة السياسية العراقية في هذه الحقبة» كان يمثل هو الآخرء نوعا من خطر ليبرالي بالنسبة للحزبين المنهمكين ولكن الواقفين مع ذلك على طرفي نقيض.ولذا ‏ كما ارتأى العاني ‏ شعر الحزبان كل من موقعه وعقيدته» أن» إشاعة نهج سياسي ليبرالي جديد في البيئة السياسية التقليدية» قد يحمل في أحشائه محاطر مباشرة على تصوراتهما الإيديولوجية. وفي هذا السياق؛ فإن لمن اهام للغاية لفت الانتباه إلى أن الحقبة البزازية الخاطفة» رسخت الآمال والأحلام بدولة القانون في العراق عند جمهرة واسعة من الشباب والمثقفين؛ إذ كانت بحق ‏ حقبة ازدهار نسي لبعض قيم ومفاهيم

'“‏ العاني ( عامر) رسالة شخصية للمؤلف بتاريخ 2003-10-2. والعاني تلميذ الدكتور علي الوردي» باحث وسياسي عرافي يعيش في باريس. رسالته إلى مؤلف الكتاب هي خلاصة معايشة شخصية للتجربة ومن هنا أهميتهاء فهو ليس مجرد مراقب للؤحداث. بل مشارك فيها.

-138 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

الحرية. وقد لفت عامر العاني انتباهي في هذا الإطارء إلى الدور الذي لعبه ملحق جريدة الجمهورية في بلورة أفكار النخبة الثقافية لا على الصعيد الأدبي والفنى» وإنما كذلك على صعيد أدوارها السياسية. وبالفعل» فقد شهدت الحياة الأدبية والفكرية في هذه المرحلة ولادة الحداثة الأدبية في العراق. وجرى بشكل جذريء وربما على نحو هو الذروة في الجرأة؛ القطع مع قيم الماضي الأدبية ومع أشكاها وتعبيراتها التقليدية والكلاسيكية» والانتقال إلى أنماط أدبية وشعرية وفكرية جريئة وراديكالية.

ولذلك يمكن للمؤرخ أن يلاحظ خلال هذه الحقبة القصيرة والخاطفة. كيف أن أفكار البزاز الليبرالية وفرت الأرضية الضرورية للانطلاق بالحياة الأدبية نحو آفاق جديدة غير مسبوقة» سوف تعرف بحقبة أدب الستينات. وهذه الحقبة الأدبية» لا تزال من حيث الأثر الذي تركته» فاعلة بصورة لا تصدق. كانت قصص عبد الرحمن مجيد الربيعي الشاب القادم من الناصرية في الجنوب» والذي خرج لتوه من تجربة مُحزنة في الحزب الشيوعي العراقي» واحدة من أكثر مفاجآت هذه الحقبة إثارة للنقاش والسجال. حطمت قصص الربيعي الشكل التقليدي للسرد القصصي لا في العراق وحده. بل في العالم العربي بأسره» وكشفت عن إمكانيات جديدة لم يكن بالإمكان تلمسها. وبصرف النظر عن التقيبمات النقدية النهائية لهذه القصص. وبقطع النظر كذلك عن الآراء التى قيلت أو ستقال في المستقبل عن أهميتها أو قيمتها الحقيقية» وما إذا كانت جديرة بالقبول والرضا أم لا؛ فإن ما لا شك فيه أن أقاصيص ١‏ السيف والسفينة) ثم ( الظل والرأس) كانت ثورة أدبية يأتم المعاني على صعيد الشكل الأدبي في هذا الوقتء وبينما كان الربيعي يطرح تصوراً أدبياً جديداً للقصة ولشكلها الفنى» يتخطى تصورات أجيال سابقة تمتد من محمود أحمد السيد في

- 139 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

مطالع القرن قبل الماضي وصولاً إلى معاصريه؛ كان محمد خضير يرسل من البصرة أولى قصصه الثورية التى ستنشر في ملحق الجمهورية بحفاوة خاصة وتنال أول جائزة أدبية هامة. "

حدثت قصص محمد خضيرء هي الأخرى. انقلاباً شاملاً وموازياً مكن من الانتقال من الواقعية التقليدية بتصوراتها السوفياتية الجامدة إلى الواقعية الجديدة. والأمر ذاته ينطبق بكل تأكيد على أجيال جديدة من الشعراء العراقيين» الذين سطعت نتاجاتهم الشعرية بقيم أدبية وفكرية غير مسبوقة. وفي الواقع لم يتوقف الدارسون للحياة الأدبية العراقية في هذه الحقبة» ويا للأسف. أما ظاهرة لافتة ومثيرة وهي أن روح التجديد التي بعثتها هذه الكتابات والنتاجات الشعرية والقصصية؛ في أوصال حياة أدبية تراخت مع كل ضربة من ضربات العنف الاجتماعي والسياسي؛ لم تصدر عن كتاب مدينيين بل عن كتاب قادمين من الريف أو أطراف المدن إلى العاصمة. وحتى اليبوم لا تزال هذه الظاهرة مستمرة» إذ أن معظم الأعمال الأدبية الثورية والتجديدية في الشعر والرواية والقصة وأغاني المطربين» هي من خلق كتاب وشعراء يتتمون إلى بيئات فلاحية وريفية فقيرة» ومن أحزمة الفقر الأُتتشرة حول العاصمة في الغالب. ومن النادر أن يعثر المؤرخ على أثر أدبي تجديدي وكبير خارج هذه البيئة» ربما باستثناء أعمال فؤاد التكرلي البغدادي الخارج لتوه أيضاً من تجربة محزنة مع الحزبيين الجماهيريين. بوجه العموم كان الشبان ‏ القادمون من الريف إلى بغداد العارفية ‏ البزازية» أو الذين عاشوا معظم حياتهم في الجنوب. وإلى حد ما بعض مدن الشمالء هم قادة التجديد الأدبي والثقاني والحدائة الأدبية. في هذا الوقت اعتنق الكثير من الأدباء والكتاب» وبعضهم ممن خرج مهزوماً من الحياة السياسية أثر انقلاب شباط / فبراير 1963» أفكاراً ذات

- 140 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

طبيعة إشكالية مثل الفلسفة الوجودية ( فلسفة سارتر» كامى). حتى أن واحدة من مقاهي العاصمة بغداد حصلت على شهرة واسعة النطاق بفضل اللقب الذي أطلق عليها: مقهى الوجوديين أو مقهى المعقدين ‏ نفسياً ‏ عندما كان هؤلاء يتخذون منها مركزاً لتجمعهم. والمثير للاهتمام في نطاق هذه الفكرة أن المثقفين الشيوعيين المتمردين على ماضيهم السياسيء أو المتمردين على الحزب وحسبء كانوا يعقدون صداقات حميمة مع أقرانهم من المثقفين البعثيين» ؛ الذين كانت تتنازعهم الأفكار ذاتها تقريباً عن التجديد. ويجدون في الحياة الأدبية مجالاً رحبا لتجربة إمكانيات المصالحة. لقد وحدت الأفكار التجديدية وقيم الليبرالية الأدبية» بعد نحو عقد كامل من التشبث بالأيديولوجيا وتصوراتها للأدب؛ أعداء وخصوماً ما كان بالإمكان تخيل إمكانية للقائهم في فضاء فكري واحد. وفي العام 1967 وفيما العالم العربي يغرف في الحزن والياس إثر هزيمة حزيران؛ حدث اشقاق كبير داخل الحزب الشيوعي العراقي. كان الانشقاق وليد توترات داخلية عنيفة على خلفية الهزيمة التى مني بها الحزب في العام وأصبح أثرها ضائعاً ومشرداً حيث وصلت بعض فلوله القيادية إلى عواصم أوربا الشرقية. إن موضوعات الصراع الداخلي» الذي فجر أول وأكبر انقسام في تاريخ الحزب جديرة بأن تقرأ من زوايا مختلفة. ومن بين هذه الزوايا المقترحة» سننظر في مسالتين: المسألة الأولى:

وتتصل بالآثر الذي خلفه الصراع مع البعث والقوميين على تفكير قطاعات واسعة داخل الحزب الشيوعي؛ إذ استفاق الشيوعيون ومنذ وقتث مبكر 7 تقريباً من الصراع المتواصل ( وتحديداً في مطلع العام 1946 في بسراغ) على حقيقة حقيقة أن موقفه من فكرة القومية العربية» ليس صحيحاً ودقيقاً ولا نزيهاً

1

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

بما فيه الكفاية وإن انزلاقهم في الصراع ضد الناصرية لم يكن مُبرراً. ومع ذلك لم تصدر وثيقة نظرية ذات قيمة فكرية أن تحليلية يمكن أن يُستنبط منهاء توجه جديد في العلاقات بين الحزبين الجماهيريين» ربما باستثناء بعض البيانات أو البلاغات أو الدراسات القصيرة الحزبية الطابع» الخالية من العمق الفكري. وهي دعت بشيء من الحياء إلى مراجعة بعض أفكر وسياسات الحزب. وبكل تأكيد بضغط من المثقفين في الحزب. ومع ذلك؛ فقد كانت لهذه الصحة المتأخرة قيمة عظيمة عندما تم إدراك الطابع المدمر للصراع. وبصدد هذه النقطة يمكن القول إن الصراع البعئي - الشيوعي ولد عرضياًء نوعاً من القناعات الجديدة لدى الطرفين» منها أن للطرف الآخر بعض الحق في أفكاره المطروحة. في هذه الأثناء كان حزب البعث يعيش انشقاقاً مماثلاً على نحو ماء مع تحول بعض قياداته وكوادره إلى الماركسية عقيدة خصومهم؛ بل إن الأمين القطري للبعث علي صالح السعدي. نفسه. كان على رأس المنادين بالماركسية التي جرى اكتشاف جاذبيتها في خضم القتال ضدها.

أما المسألة الثانية:

فإنها تتصل بتحول هذه الصحوة إلى ما يشبه الغرام المتبادل بين قوى جديدة من داخل الحزبين» كانت ناقمة بصورة لا توصف على تدهور الأوضاع الفكرية وعلى انزلاق الحياة السياسية إلى مستوى المهاترات وتحولها إلى ما يشبه الوقوع في حب العدو.

إن تاريخ الصراع بين الحزبين الشيوعي والبعث طوال هذا العقد 1958 - 1968 هوء ومن دون أدنى شك تاريخ صدام بين جماهيريتين عنيفتين استخدمتا كل الوسائل والأساليب شبه القتالية» من الاغتيالات إلى التجابهات الميدانية في الشارع. لقد اشتبكتا على نحو متواصل تقريباً فكرياً وسياسياًء ولكن

- 142 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

من دون أن يولد ‏ هذا الصراع والاشتباك ‏ أي نوع من الأفكار الجديدة. على العكس من ذلك؛ ساهم الصراع العنيف في تكريس التصورات والأفكار والصور النمطية عن بعضيهما. فكما ارتبطت صورة الشيوعي في المخيال القومي بأعمال السحل في الموصل وكركوك وبغداد؛ فإن صورة البعثي والقومي ارتبطت هي الأخرى. في مخيال الشيوعيين المقهورين» بجرائم الحرس القومي - مليشيات حزب البعث في العام 1963 وإزاء هذا التحول في علاقات القوة بين الحزبين خلال عقد كامل» فقد فرضت جملة من التغيرات والظروف الداخلية» على قادة وزعماء وكادرات حزبية» القيام بما يمكن اعتباره محاولات جدية لإحداث تغيير طفيف على شلك هذا التحول وزحمه في علاقات القوة.

ويبدو أن التحطيم المتواصل» وإنهاك واستنزاف القوى الجماهيرية في الحزبين وبالتعاقب؛ وخصوصاً بعدما تبين أنهما قد تعرضا إلى تصفيات عنيفة» هو الذي فرض على الأرجح مثل هذه المراجعة. كان الحزب الشيوعي قد خرج للتو مُنهمكاً ومحطم القوى من تجربة الصدام مع البعث إثر انقلاب شباط / فبراير1963» ولكن ليجد وبعد أكثر بقليل من عام إن خصمه قد خرج هو الآخر مُحطماً على يد عارف الأولء بعد أن كتب هذا نهاية درامية للعلاقة مع البعث في انقلاب 18 تشرين الأول / اكتوبر 1964. سوف تبرهن هذه التجربة المريرة للصدام بين الجماهيريتين أن أجنحة سياسية وتنظيمية يةداخل الحزبين الخصمين, ستقع, في النهاية» في غرام بعضها البعض0ء أي أن كل جناح من هلين الجناحين وقع في غرام خصمه. ما من صراع إلا ويولد نوعاً من ردود الأفعال العكسية التى قد تنتهي بالمرء» ومن دون إرادته؛ إلى اعتناق عقيدة العدو التى حاربها. ويبدو أن الححزيين 1 يكونا استثناء في هذه القاعدة النظرية

11

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

التى سنبرهن تالياً على صحتها؛ ففي العام 1961 وفي ذروة الصراع والاشتباك العقائدي بين الجماهيريتين» تبلورت داخل البعث كتلة يسارية ذات أفكار عمالية هي كتلة الكادحين العرب, بنت تصوراتها عن نفسها بوصفها كتلة تصالحية تريد تفاهماً من نوع ما مع عقيدة الخصم عبر جناح جديد من أجنحته.

ولأجل إلقاء مزيد من الأضواء على هذا التحول سنرسم هنا إطاراً تاريفيا مُقتضباً عن حالة ومواقف الحزيين.

في شتاء العام 1 تمكن ستة من كادرات حزب البعث هم عبد الإله البياتي» وهناء العمري ( أول فدائية عراقية تعمل في صفوف الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين وقد استشهدت في عملية جريئة) وعبد الأمير الشريفي عضو المكتب العمالي في البعث ومحمد الزيدي وحبيب الدوري وصفاء صادق» من ترتيب لقاء تدولي هام لبحث مشكلات الحزب الفكرية والتنظيمية. عقد الاجتماع في دار البياتي الذي استضاف المجموعة لبحث أوضاع الحزب. بعد أقل من شهر تمت الدعوة لاجتماع موسع حضره نحوأ من ثلاثين كادراً كان من بينهم قيس السامرائي ( الذي سوف يلعب دورا بارزا في الساحة الفلسطينية»). كانت الفكرة المركزية التى هيمنت على الاجتماع الموسعء هي الفكرة ذاتها التى بلورها اجتماع الستة في منزل البياتي: بحث مسالة الإنباء المتداولة في صفوف البعث للتحضير لانقلاب يطيح قاسم. طرح الموسعء وبدلاً من فكرة الانقلاب؛ مسألة القيام بانتفاضة شعبية. ويبدو آن الاجتماع بنقاشاته الحيوية والخصبة ومحاولته ملامسة القضايا الحساسة في الحزب» قد أدى عمليا إلى إثارة موضوع فكر البعث. لقد استفاق المتجادلون في الاجتماع الموسع على حقيقة أن أفكار البعث ذات طبيعة ضبابية ومُشوشة. وإن الحزب

- 144 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

بتركيبته البرجوازية الصغيرة الراهنة لن يتمكن من النهوض بمهام راديكالية, وأن السبيل إلى ذلك يبتدئ بالمطالبة بتحويل المكتب العمالي في البعث إلى جهاز حزبي فاعل. وكان هناك اقتراح بجعل المكتب من حيث التراتب الحزبي في مستوى فرقة حزبية وهي مرتبة متقدمة بلا شك.

يلاحظ عامر العاني نقلاً عن شهادة لعبد الإله البياتي نفسه» بعد اتصال جرى معه في باريس ( اكتوبر / تشرين الأول 2003) إن أهم نقطة ركز عليها الاجتماع الموسع عند مناقشة هذا الاقتراح» كانت تتعلق بالمهام الفعلية للمكتب العمالي. كان هناك اقتراح هام للغاية يقول بضرورة أن يأخذ المكتب على مسئوليته» مسألة تحسين وتطوير العلاقات مع القواعد الجماهيرية للشيوعيين. كان المجتمعون الذين أعلنوا عن أنفسهم باسم: كتلة الكادحين العرب. يرون آن الجماهير الشيوعية هي ضحية من ضحايا القيادة الشيوعية» التي اتسمت في سلوكها السياسي بالذيليلة» وبالتالي فإن تخاطبة هذه الجماهير والعمل معها هو السبيل الحقيقي لإيجاد شراكة سياسية جديدة. جوبهت أفكار كتلة الكادحين العرب من جانب قيادة البعث» بالزجر والتعنيف وتم طردها من الحزب بتهمة ودود ميول فكرية متناقضة مع فكر الحزب التقليدي أو ما أصطلح عيه: آنئل: وجود تخبطات ماركسية.

في الواقع» واستناداً إلى شهادة البياتي التى نقلها لي عامر العاني؛ فإن الكتلة ل تتبن الفكر الماركسي في هذا الوقت مُطلقاء بينما أظهرت في المقابل؛» ميولاً يسارية عامة ذات طبيعة عمالية.

لسوف تندثر هذه الكتلة بعد قليل من الوفت فقط وتغيب عن المشهد السياسي؛ ثم ليدخل أعضاء بارزون منها في المنظمة العمالية الثورية. ويبدو أن صلاتها المبكرة بالموضوع الفلسطيني» لعبت دوراً حاسماً في تسريع ذوبانها

- 145 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

وتلاشيها. فقد التحق قيس السامرائى ‏ مثلاً ‏ بحركة المقارمة الفلسطينية» الجبهة الديمقراطية؛ بينما يختار آخرون الانزواء بعيداً كما فعل البياتي. أما فؤاد الركابي الأمين القطري للبعث. والذي جرى إسقاط قيادته بعد فشل محاولة اغتيال قاسمء فقد وجه نفسه هو الآخر خارج الحزب وعقيدته. كان الركابي في أعماقه يتحرق شوقاً لهذه اللحظة» فها قد أصبح حراً بأكثر كما كان في الماضي لكي ينجز تحوله نهائياً إلى الناصرية. كان الركابي أسيراً لسحر الزعيم عبد الناصر ومفتوناً به وبأفكاره العروبية. وحين رتب لمحاولة اغتيال قاسم؛ فإنه قام بتنسيق كامل مع المصريين» بينما كان السوريونء رفاقه في القيادة القومية» يستمعون بدهشة إلى أنباء ا حاولة من محطات الإذاعة. في هذا الوقت وبينما كانت كتلة الكادحين العرب تتبلور خارج البعث كتيار يساري مسحور بعقيدة الخصم الذي قاتله البعث. أخذ الركابي يشق طريقه مع عدد محدود من رفاقه باتجاه التحول كلياً كتيار ناصريء ولتتأسس حيتئلر النواة الأولى لما يُعرف بتنظيم الحركة الاشتراكية العربية. على أن الُْثير في هذه الانقسامات المتتابعة التي نجمت عن الخلافات السياسية والتنظيمية داخل البعث» وبعضها له صلة مباشرة بفشل محاولة اغتيال قاسم؛ هو أن الحركة القومية في العراق بدت كما لو أنها تتشظى فعلياً أو تتوزع بين تيارين: بعثي وناصري. ولكن من دون أن تتول هذه الانقسامات إلى تعبير حقيقي ودقيق عن انقلاب فكريء أو حتى أن تكون تجسيداً لحراك فكري وثقاني داخلي؛ بمقدار كانت تجسيداً لأزمة أيديولوجية هي في النهاية» أزمة مجتمع المؤمنين العقائديين» الذين سدت في وجوههم الأبواب والخارج والحلول الفعالة.

وأكثر من ذلك. أن التيار الناصري الذي غادر صفوف الحزب؛. وجد نفسه وقد تشظى هو الآخر إلى مجموعة أحزاب صغيرة متعارضة. كان أياد

- 146 -

الفصل الأول : الأحمرء والأبيضء والأسود

سعيد ثابت أحد أبرز اللاعبين في محاولة اغتيال قاسم والعقل التنفيذي لماء يترك صفوف الحزب ليؤسس حركة مؤمر القوميين الاشتراكيين ويعلن عن نفسه كتيار ناصريء بينما يباشر رشيد محسن وخالد علي الصالح بتأسيس حزب الوحدة الناصري. بعد ثلاث سنوات فقط وفي العام 1964 مع انعقاد المؤتمر القومي السادس لحزب البعث. والذي شهد ولادة ما يعرف في تاريخ البعث الفكري بالوثيقة النظرية الْمسماة المنطلقات النظرية؛ عاش البعث بعمق أجواء أول انفجار علنى للسجال الأيديولوجي في صفوفه؛ ففي هذا المؤتمر تمكن علي صالح السعيد بدعم من محسن الشبخ راضي وآخرين؛ من تمرير مصطلح الاشتراكية العلمية بدلا من الاشتراكية العربية. كان اصطلاح الاشتراكية العلمية حجكرا على الشيوعيين» وهو اصطلاح فلكلوري يراد به نظرية ماركس عن الاشتراكية. وكما ارتأى العاني في شهادته» فإن تعليق ميشيل عفلق يأخذ دلالته الواضحة هنا عندما قال: إنني أشم رائحة جديدة وغريبة على فكر الحزب. وبالفعل فإن ما داعب أرنبة أنف مؤسس الحزب وفيلسوفه؛ لم يكن سوى الخيط الأول من الدخان في حريق فكري لايني يولد حرائق كثيرة. فمع فشل البعث في الاحتفاظ بالسلطة وهزيمته على يد عارف الأولء نشب خلاف جديد انتهى بخروج أمينه العام على صالح السعدي إلى المنفى.

إن التيار الوحيد ‏ داخل البعث - الذي أثار جدياً حينئر مسألة فكر الحزب» وقام بمراجعة جريئة للبعثية الأولى» التي ولدث في مقهى الافانا بدمشق بتأملاتها البسيطة في الحياة العربية» عمل على وضع عقيدته على طاولة النقاشء, هو التيار الذي تبلور في بغداد ثم في دمشق - يا للمصادفة ‏ بعد وصول السعدي إليها هاربا. يعزو عامر العاني ( شهادة شخصية عن

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

الخلافات داخل البعث ‏ رسالة خاصة للمؤلف في 2003-10-2) 5 1 على ياسين الحافظ المفكر اليساري السوريء فضل التأثير المباشر على أفكار السعدي البعثية؛ وفي تسريع تحوله إلى الماركسية عقيدة خصومه ( ولنقل إلى ضرب من ضروب الماركسية في هذا الوقت هو القومية العربية المغلفة بالأفكار الماركسية). والعاني في شهادته. يربط بين هذا التيار وبين تبلور تيار صغير ولد داخل السجن على أثر فشل محاولة انقلابية قادها العقيد عبد الكريم نصرت للإطاحة بعارف الأول في 8 آب / اغسطس 1964. وسرعان ما ظهر إلى السطح تيار يساري جديد من داخل البعث هو حزب العمال العربي الشوري. إن لهذه التسمية دلالة خاصة: فالأفكار العمالية في هذه الأثناء» والتى كانت حكراً على الخصوم الشيوعيين أخذت تتردد في أرجاء مجتمع العقائديين البعقوة:

والمثير أن قائد الحرس القومي الضابط الطيار منذ توفيق الونداوي كان إلى جانب السعدي.من بين دعاة التصدي للبيروقراطية العسكرية المتربعة على عرش السلطة. وهو سعى في واحدة من المرات إلى التنسيق مع السعدي. وإقناعه بضرورة التخلص منهم بضربة واحدة من خلال قصف مبنى وزارة الدفاع حيث يتمركز العسكريون. وبذلك يكون البعث قد استفاق. جزئيا وفي وقت مُبكر؛ من صدمة الصراع العنيف مع الشيوعيين ليجد أن أفكار الخصم ليستءولا يجب أن تكون مرفوضة كلياً ونهائياً وأن على البعث بعد كل هذه الأحداث أن لا يواصلء أو يستمر في النظر إليها كصورة نمطية لأفكار مُستوردة وخارجية. لقد وقع جناح من البعث عملياء في غرام خصمه. ورمزياء وقعت الجماهيرية البعثية في حب عدوها الجماهيرية الشيوعية, الني

*' العاني ( عامر ) مصدر مذكور. - 148 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

نازلتها وقاتلتها وتصادمت معها صداماً دموياً في الشارع. عاش عامر العاني هذه التجربة بعمق وجداني وراقبها عن كثب في بغداد ثم في باريس التي أصبحت أهم مركز من مراكز تجمع التروتسكيين العرب الشباب. ولذا راح يتساءل: هل بوسع الحزب؛ أي حزب وفي مناخ من هذا النوع؛ أن يخلق ظروفاً جديدة حقأ لثقافة سياسية قابلة لإنتاج المعرفة؟ رأى العاني الذي التقفى السعدي في دمشق لقاءاً عابرأء أن القائد المطارد والمنشق عن حزبه كان بالفعل» شخصية كاريزمية وفي حدودها القتصوى». شخصية ذات طابع شعبوي جذاب» ولكنه ل يكن قادراً على لعب دور المفكر أو الفيلسوف الجديد في حزب منقسم على نفسه.

ساعد هذا الجانب برأي العاني» في التفاف عدد من الكادرات البعثية حول الأفكار الجديدة للسعديء والتى استلهمها من معلمه السوري ياسين الحافظ. في هذا الإطار من البين أن جاذينة الأفكار لعبت بعد انجلاء غبار المعارك والاشتباكات الدامية بين الجماهيريتين» دورا مركزيا غير معهود من قبل. كانت الحاجة إلى إصلاح مفهوم السياسة حاجة حقيقية داخل البعث. وهذا ما يُفسر بعض أوجه وتجليات الصراع الداخلي الذي انتهى بقيام ونشوء منظمات يسارية وناصرية ناقمة وناقدة لفكر البعث. لم تعد أفكار عفلق وحدها قادرة على إعطاء جواب عن الواقع؛ فيما كانت أفكار عبد الناصر تبدو أكثر نضارة وهيبة ووعوداً بالنسبة لجيل من البعثيين العراقيين» المسحورين بكاريزما المصري وخطبه الحماسية بمقالات هيكل. ( بصراحة هيكل في الأهرام القاهرية التي كانت تدخل كل بيت تقريباً في الأعظمية والجعيفر والعطيفية في قلب بغداد في مطلع الستينات). ومع ذلك؛ فإن جوهر التحويل في عقيدة البعثء بالنسبة لهذه الأجنحة؛ لم يُحدث أي أثر حقيقي وظل مقتصراً

- 149 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

التي انتقل إليها السعدي كانت ماركسية عمومية. 3 حتى العام 1968» بكونها سنوات اكتشاف الأطراف المتصارعة لبعضها البعض. وكما تحول جناح من البعث بقيادة السعدي وتأثيره» ومباشرة بعد هزيمة البعث على يد عارف الأول إلى الماركسية ‏ أو هكذا يدعى ‏ كان جناح في الحزب الشيوعي يكتشف العروبة وينتقل رمزياً إلى اللحظة ذاتها: اكتشاف عقيدة الخصم القومي - البعثي.

إن هذا التزامن مثير بالفعل» إذ تمكن المتصارعون من اكتشاف سحر عقيدة الخصوم وربما الوقوع في غرام بعضهم البعض. ويبدو إن هذا الاكتشاف لم يكن تماماً وليد أو نتاج تأملات عراقية خالصة بالمآل المأسوي. نعنى للصدام بين الجماهيريات العنيفة؛ بمقدار ما كان نتاج تأملات وصراعات فكرية بالدرجة الأولى جرت في الحيط العربي» قادتها أجنحة داخل حركة القوميين العرب في دمشق وبيروت وترددت أصداؤها في بغداد. في هذا الوقت كانت حركة القوميين العرب تعرض مصاحة تاريخية بين الفكر القومي والشيوعيء. نشأت بفضلها جماعات ماركسية في الساحة الفلسطينية واللبنانية» ما لبشت أن تبلورت كقوى فعلية خلال السنوات الممتدة من 1964 حتى آب 1967. ولسوف تظهر في العام التالى 1969 فصائل فلسطينية ماركسية؛ كانت قد عاشت كل حياتها كفصائل قومية معادية للشيوعية. ولأن هذا التحول في أفكار حركة القوميين العرب وخصوصاً تيار نايف حواتمة ومحسن إبراهيم تلازم مع تصاعد فكرة الكفاح المسلح كسبيل وحيد لمقاومة إسرائيل وتحرير الأرض العربية» فقد بدا منطقياً وإلى أبعد حد أن العروبة الجديدة المسلحة

- 150 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

سوف ترتويء وتشبع من النبع العذب لعقيدة عدوها القديم الذي قاتلته: الشيوعية؛ وهذه ستقدم للعروبة الجديدة كل ما يلزمها من آليات وخبرات فكرية» بل وتقدم لها كل ما يلزمها للتماهي مع خصمها الشيوعي: التسلح بالعقيدة الجماهيرية الشيوعية.

ويبدو إن فكرة المصالحة هذه قد ترددت بقوة في بغداد ولندن وبراغ. حيث عاش أحد قادة الانشقاق الشيوعي - عزيز الحاج ‏ هناك ضيفاً على الحزب الشيوعي الجيكوسلوفاكي سوية مع قادة ما يعرف بالجناح اليميني في الحزب. والمثير للاهتمام أن الجناح المتهم اليمينية سارع وتحت تأثير المنظرين السوفيت. إلى تبني خط سياسي مغاير يقوم على القبول مع بعض التحفظ» بخطط عبد الناصر الاشتراكية التى وجدت من يحاكيها في بغداد العارفية. وهذا ما كان يعني نوعاً من التصالح مع الجماهيرية القومية والبعثية استطراداً. لكن المثير أكثر أن واحدة من أسباب الانشقاق داخل الحزب الشيوعيء والذي سيقوده الحاج بنفسه. تتصل بالموقف - مما دعاه الحاج بالقيادة اليمينية في الحزب من الخطوات الاشتراكية التى أقدم عليها عارف الأول. مئل هذه الاشتراكية نظر إليها قادة الجناح المنشق بكثير من الريبة والرفض والاستخفافء لأنها كانت تتأسس على قواعد فكرية ومنهجية» تفضي في النهاية إلى هيمنة رأسمالية الدولة لا أكثر. بعد وقت قصير فقط من صدور بيان للجنة المركزية ( في ما بعد سيُعرف بخط آب / أغسطس 1964 . الداعي إلى انخراط الشيوعيين في أجهزة الاتحاد الاشتراكي في العراق ودعم إصلاحات عارف الاقتصادية ‏ الاشتراكية» تفجرت الأزمة في الحزب الشيوعي وراحت تتفاعل خلال أعوام 4- 1967. وفي هذه السنئوات كما رأينا كان البعث نفسه يعيش غلياناً داخليا.

2.

- 151 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

لسوف تتبلور توترات مجتمع الشيوعيين العقائديين» الفارين من انقالاب شباط / فبراير البعئي. تالياً» في صورة انشقاق كبير بقيادة الحاج العائد من براغ إلى بغداد. كانت السنوات الثلاث الفاصلة بين إعلان خط آب / أغسطس 1964 وإعلان الانشقاق عام 1967: وحيث عاش الحزب الشيوعي أجواء أزمة عميقة فكرية وسياسية وتنظيمية» شلت قدرته على التحرك تقريباً؛ هي بحق سنوات نقاش خصب وحيوي ونادر. لقد انتقل الصدام أو حول مجراه؛ من صدام بين الجماهيرات إلى صدام فكري داخلي. وهذه المرة» لم يخلو الصدام الداخلي من أساليب عنيفة» فقد قام المنشقون بقيادة الحاج بسلسلة من الاعتقالات وعمليات الخطف طاولت بعض أعضاء ما دعي بالقيادة اليمينية مثل زكي خيري وبهاء الدين نوري. وحتى اليوم يُجادل الحاج دون كثير جدوى. للتنصل من نتائج أعماله الصبيانية تلذك؛ وذلك من خلال تكرار القول بأن هذه الاعتقالات التي قام بها ضد أعضاء في المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي؛ لم تكن عملا عنيفاً وإنما هي تدابير احترازية. ( يمكن العودة إلى مساجلات الحاج حول هذه النقطة في كراسته: ذاكرة تحت الطلب» باريس 1997 من دون ذكر دار النشر).

في العراق الخارج للترٌ مرهقاً من صدام الجماهيريات العنيف» شقت القيادة المركزية للحزب الشيوعي العراقي ‏ وهذا اسم الجماعة المنشقة مع الحاج - طريقها بثبات ومن داخل الجتمع العقائدي الشيوعي الصغير لتقدم نفسها كجواب ثوري ابتداء من العام 1967. في هذه الأثناء نشأت في بغداد مجموعة راديكالية من بقايا البعثيين أطلقت على نفسها اسم المنظمة العمالية الثورية. تلقت المنظمة الوليدة دعماً جيداً من التروتسكيين العرب في لندن» وتحديداً من الشبان العراقيين اليساريين البعثيين والشيوعيين على حل سواء؛ إذ

- 152 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

كانوا يُعيدون طبعة أدبيات المنظمة ويسهرون على توزيعها ونشرهاء كما لو أنها كانت تنسج كلياً مع أحلامهم وأفكارهم. كانت المنظمة الجديدة مُحاكاة بارعة لأفكار وعقائد الثوريين العماليين في العالم والعالم العربي بشكل خاص؛ وربما بدت تعبيرا - مُمنهجاً بعض الشيء ‏ عن التحول إلى أفكار الشيوعية والاشتراكية والعمالية في أوربا. يلاحظ عامر العاني في شهادته الآنفة» أن هذه المنظمة ضمت فضلاً عن بعض العناصر من أصور بعثية مباشرة» مجموعة من بقايا منظمة الكادحين العرب التي كان قيس السامرائي أحد أبرز قادتها. وإلى جانب هولاء كانت هناك جماعة ضغيرة من المثقفين البساريين العراقين التروتسكيين» نشق طريقها هي الأخرى؛ وتستعد لملاقاة سائر المجموعات الممائلة لتتشكل منذئئر المنظمة الثورية العمالية.

على هذا النحو امتزجت العروبة السياسية الجديدة» وتفاعلت أكثر فأكثر مع فكر القيادة المركزية ونزعتها الثورية إلى الكفاح المسلح» وهي أسلوب غير معهود في التفكير الشيوعي التقليدي ( بينما ينتسب إلى تقاليد الجماعات اليسارية في أمريكا اللاتينية). كانت المنظمة الثورية العمالية كما ارتأى العاني» أكثر راديكالية بين المجموعات البعثية والقومية الأنشقة» وقد لعبت مجموعة لندن دوراً نشيطأاً على صعيد إنشاء مُقاربة فكرية وسياسية وتنظيمية مع القيادة المركزية ‏ الشيوعية ‏ ويبدو أن هذه المقاربة انتهت إلى قبول بعض أعضاء المنظمة العمالية الثورية في الجسم السياسي والعقائدي الجديد: القيادة المركزية. هذا التلاقي في إطار النخب المنفية المشبعة بالفكر اليساري عبر ببلاغة عن تعطش جيل من السياسيين العراقيين إلى تقدم حلول فكرية لأزمة السياسة في العراق بما هي أزمة مفهومية. ولذا عثر هذا الجيل من المناضلين على جواب في عقيدة الخصم نفسه الذي قاتلوه. على هذا النحو اكتشف جيل من البعثيين

- 153 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

مزايا ثورية في عقيدة الخصم الشيوعي وتحولوا إلى جزء من أجزاءه؛ وراحوا يقاتلون رفاقهم القدامى من أجله؛ بينما اكتشف جيل آخر من الشيوعيين مزايا مُمائلة في عقيدة خصمهم البعثي العروبي» ورحبوا بانتقاله إلى صفوفهم وبمساهمته في المعركة ضد الحزب الشيوعي الرسمي.

عنى هذا التلاقي» ومن منظور رمزي خالصء نوعاً من اللقاء بين جماهيريتين عنيفتين» في الأصل» تقاتلنا بشراسة طوال أكثر من عقد من العام 8 حتى العام 1978» ولكنه ظل» مع ذلك, مُعبرأ عن نمط محدود من التحول الفكري والتنظيمي؛ فقد اكتشفت الأجنحة المنشقة على مجتماعاتها العقائدية على الضفتين الشيوعية والبعثية؛ أن هذه المجتمعات العقائدية المخلقة والصغيرة تعيش ش أوهاماً أيديولوجية وأنها ميتة إكلينيكيا. وني هذا الإطار الرمزي للتحول في الأفكار» أتضح أن الجماهيريات العنيفة القديمة قد ولدت جماهيريات جديدة صغيرة ومبعثرة ولكن أكثر شراسة.

بهذا المعنى جاءت الأفكار الجديدة لتلعبء وبالضد من كل محاولة للتأمل والعقلانية وإعادة النظر في مفهوم السياسة؛ دوراً تأجيجياً للمشاعر الملتهبة ولتضع البلاد مرة أخرى في قلب الدوامة نفسها. هذه المرة» وبدلاً من الجماهيريات القديمة المنهمكة من الصراعء ولدت جماهيريات فتية أكثر شراسة وعنفاً تنادي بتحويل العراق إلى ساحة حرب أهلية ثورية على النموذج الأمريكي اللاتيني.على أن هذا التحول عنيء في المقابل» حراكاً ثقافياً شديد الحيوية في صفوف الراديكاليين الشباب في العراق» الذين نقموا من أحزابهم وفضلوا العيش إما في المنافي أو في أوكار سرية. وتتجلى أهمية وحيوية هذه الأفكار التي تعفرت بدماء زكبة وطاهرة لشهداء شباب وآلام لا تصدق في السجون. في أنها عبّرت وبقوة عن تطلع المجتمع العراقي إلى الخلاص من

- 154 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

المأزق السياسي. كانت الأزمة السياسية في أنصع صورهاء تتجلى كأزمة سياسية واجتماعية شاملة» فقد وصل العراق الكاريزمي إلى أحط عصوره وتم تهميش دوره في السياسات الإقليمية والدولية. وبالطبع ليس بوسع المرء في هذا السياق, إلا أن يُلاحظ أن أحد أهم أوجه وتجسيدات هذا الحراك الثقاني؛ وأكثر تمثلاته قوة» إنما تمكن في تعاظم الميول داخل الجتمع العراقي نفسه للعب دور أكثر حيوية في إطار الصراع على مستقبل العراق. لقد أيقظت هذه التحولات ميولا ونزعات وتطلعات كانت خاملة؛ وراحت تؤجج الصراع لا حول مسألة بعينها كالوحدة مع مصر مثلاً؛ بل حول مستقبل العراق برمته. ولذا يتوجب النظر إلى هذه التحولات» وبصرف النظر عن الأخطاء هنا وهناك؛ على أنها عبرت ببلاغة تامة عن الدور الذي يمكن أن تلعبه الأفكار الجديدة؛ وفي الآن ذاته عن الطاقة المذهلة التي يختزنها المجتمع في داخله. إن إخفاق برامج التحديث وفشل التنمية والتدهور الْمريع في الحياة العامة واستفحال الأزمة الاقتصادية وانزلاق فئات وطبقات المجتمع نحو التهميش 0 بلغت البطالة مثلاً في هذه السنوات ذروتها وتجاوز عدد الشباب من خريجي الجامعات الذين لم يعثروا على فرصة للعمل نحو مئة ألف شاب) هي الحاضنة التي ولدت فيها جماعات اليسار العراقي أي الجماهيريات الجديدة العنيفة. يتبقى في هذا الصدد النظر بعمق أكبر وبقليل من الحماسة. إلى مسألة أخرى شغلت اليساريين العراقبين» وهي تتصل بنيوياً بفكرة الكفاح المسلح ذاتها كما تردد صداها داخل العراق. كانت فكرة خوض حرب عصابات انطلاقاً من أهوار العراق في الجنوب» وتنظيم جيش من الفلاحين ومن صيادي الأسماك الفقراء للإطاحة بحكم عارف الثاني» الضعيف وشبه المعزول؛ فكرة صبيانية يأتم ما في الكلمة من معان كما ستبرهن الأحداث. وأريد في هذا

- 155 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

الصدد أن أثبت الرأي التالي: إن فكرة الكفاح المسلح التي نادت بها القيادة المركزية ‏ وهذا هو الاسم الذي اختاره الفريق المنشق عن الحزب الشيوعي الرسمي لنفسه ورفض التخلي عنه إلى النهاية ‏ كانت رجع صدى لسلسة من الأفكار والتصورات الرائجة آنذاك في العالم والوطن العربي بعد هزيمة حزيران / يونيو 1967. ولذلك ستبدو عند تشريحهاء كما لو كانت أول محاولة في الفكر السياسي العراقي لحاكاة أسلوب الكفاح المسلح الفلسطيني» الذي نادت به حركة القوميين العرب المتحللة إلى فصائل وحركات مقاومة. وفضلاً عن ذلك هي محاكاة لأسلوب العدو العقائدي نفسه الانبهار به والاستسلام لإغرائه.في الآن ذاته» فإن فكرة الكفاح المسلح كما ولدت في أهوار العراق ( جنوب) كانت تجسيداً لسحر الغيفارية. بالطبع؛ لم يكن العراق في عهد عارف الثاني» لا من حيث أوضاع السكان ولا طبيعة الأرض ولا من حيث موضوع الصراع نفسه. شبيهاً بفلسطين الحتلة» كما لم يكن شبيهاً لا من حيث الثقافة ولا طبيعة السكان بكوبا أو بوليفيا. ولذلك بدت الفكرة مقطوعة السياق مع الداخل العراق ‏ الحلى» غريبة ومثيرة للدهشة والتساؤل على صعيد البيئة كما على مستوى الثقافة السياسية؛ وتطبيقاً ميكانيكياً تعسفياً لأساليب تنتسب إلى ثقافة وظروف الخارج. وسنرى تالياً كيف أن هذا المأزق فرض على المثقفين اليساريين العراقيين المشاركين في الكفاح المسلح. ومن أجل تبرير الفكرة والترويج لها ولمنافع هذا الأسلوب النضالي؛ أن يُفتشوا داخل التاريخ عن ثورة شبيهة» يمكن القيام جمُماهات ماكرة معها قصد البرهنة على عراقية فكرة الكفاح المسلح.

م يجد هؤلاء سوى ثورة القرامطة التى هددت عاصمة الخلافة العباسية في أواخر أيامها ( عصر المقتدر الضعيف والمضطرب في القرنين التاسع

- 156 -

الفصل الأول : الأحمرء؛ والأبيض؛ والأسود

والحادي عشر). كانت العودة إلى التاريخ المحلي تروي ظماأ جماعات,. تم تهميشها في امجتمع كما في علم الحزب العقائدي الداخليء المغلق والمسيطر عليه من جانب قادة لم يكونوا يت يتمتعون بمؤهلات حقيقية. وبعضهم كان من أبطال وصناع سياسة الشعارات البذيئة في نهاية الخمسينات مثل عزيز الحاج نفسه. ولذلك انكب الثوريون الجدد على دراسة التاريخ العراقي القديم؛ ولكن لينوفقوا عند ثري الزئج والقرامطة؛ ؤهما ثورتان مترامتتنان وفعنا في وقت متقارب تماما ضد الخلافة العباسية في بغداد» وانطلقتا ويا للمصادفة من الجنوب في البصرة والأهوار. ولقد تسنى لي شخصياً اللقاء ببعض المشاركين في ثورة الكفاح المسلح بعد إخفاقها بنحو سنتين؛ لاكتشف أن كثرة من هؤلاء. وبعضهم من فلاحي الناصرية أو من معلمي المدارس الابتدائية هناك لم يكونوا يعرفون أي شيء حقيقي لا عن الكفاح المسلح ولا عن القرامطة ولا ثورة الزنج» التي ظل المثقفون اليساريون يتشدقون بها وبأخبارها أما الفلاحين كما لو أنها وقعت بالأمس. ومع ذلك استمعت منهم إلى الفكرة ذاتها: التماثل بين ثورتي القرامطة والكفاح المسلح.

لقد كانوا يؤمنون إماناً صادقاً وحقيقياً بأنهم يخوضون معركة» هي استطراد في معركة عراقية قديمة خاضها أجدادهم ضد المركز انطلاقاً من الأطراف في أقصى الجنوب.

بيد أن أكثر الأفكار سحراً وجاذبية في هذه المُطابقة بقة» إنماهي أفكار العدالة والاء شتراكية الت البست. حينتلرء ثوباً عربياً - إسلاميا ول تعد ترداداً لمقولات ماركسية مألوفة. ولأن ثورة القرامطة اللتبسة والتى أفرط المستشرقون الأوربيون في تعظيم أفكارها الاشتراكية» وبالغوا إلى حدود بعيدة في قيمة أهدافها الاجتماعية» ثم طور الشيوعيون أسطورتها الاشتراكية» لم تصل إلى

- 157 -

الفصل الأول 0 الأحمسر والأبيض, والأسود

هؤلاء إلا عبر قراءة استشراقية» فقد بدت الحاجة مُلحة إلى تقديم قراءة عراقية - عربية للثورة بديلة ومضادة. ومع ذلك؛ فإن هذه القراءة المقترحة لم تبلغ إلا هدفاً محدوداء ولم تتمكن من تجاوز السقف الذي وضعه ميكال يان دي خويه؛ امستشرق المولندي ( الذي كتب أهم كتاب عن القرامطة في العام 1862 ثم أعاد صياغته في العام 1886). كان كتاب دي خويه أهم مصدر من مصادر القراءة الجديدة للثورة» وإن لم يكشف عنه بعض الكتاب العراقيين والعرب حياء. كانت أفكار خويه تتردد من دون ذكر اسمه في مؤلفات بعض كتاب التاريخ العربي» ومع ذلك فقد وصل هذا المصدر من خلال كتابات هنا وهناك. ولذلك تبدت القراءة العراقية ‏ العربية لثورة القرامطة» بكل أبهتها من الإفراط البالغة» كما لو كانت إعادة إنتاج للقراءة الإستشراقية. وكانت تلك واحدة من المفارقات المثير في الثقافة العراقية والعربية؛ إذ تم الاستغناء عن أفكار استشراقية غريبة عن العدالة والاشتراكية من أجل التقرب من الجماهير وثقافتها وموروثها؛ لصالح أفكر مائلة مُستمدة من تاريخ العراق والعرب.ولكن ليتضح أن هذا الاستبدال كان نوعاً من التزوير والتزييف. لأنه مبنى على مُبالغات وتصورات استشراقية في الأصل.

وفي هذا السياق» يجدر بنا التوقف عند الطبيعة الخاصة لمذه الطابقات الحميمة والعزيزة على القلوب؛ والتى قام بها المثقفون اليساريون ومعظمهم من أبناء الشيعة» إذ أنها صدرت عن فط من الولاء للبيئة الشيعية حيث اندلعت هناك الأعمال المسلحة الأولى. هذا الولاء يمكن رؤيته ببساطة وقد تجسّد في صورة مراجعة لتاريخ الشيعة من خلال نموذج ثورة القرامطة. ولكنها بالطبع مراجعة بشروط اليسار العراقي. وأريد» في هذا السياق» أن ألفت الانتباه إلى الحقيقة التالية التي كشفت عنها السجالات الدائرة في الوسط اليساري العراقي

-158-

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

الجديد» في ذروة الأزمات الاجتماعية والفكرية الطاحنة» السابعة على عودة البعث إلى السلطة في العام 1968: وهي أن الجتمع العقائدي الشيوعي الصغير والمغلق» الذي شهد انقساماً كبيراً مثله مثل المجتمع العقائدي البعثي - القومي» وعاش هو الآخر أجواء الانقسام؛ وجد نفسه في الواقع أمام معضلة فكرية استثنائية وغير مسبوقة. إن بعض أوجه الخلافات بين الشيوعيين اليساريين الجدد وأقرانهم من التيار اليميني ‏ كما يُدعى في الآدبيات السياسية اليسارية ‏ انصبت على مراجعة بعض أفكار الماركسية السوفياتية» وبشكل خاص حول فكرة الطريق اللا رأسمالي لبلدان العالم الثالث. هذا يعني أن الراديكاليين الجدد في الحركة الشيوعية العراقية» قاوموا فكرة ذات طابع استشراقي غريبة عن الواقع ومصطنعة؛ رأى فيها هؤلاء بحق» محاولة من القيادة السوفياتية لترويج سياسة دولية انتهازية وحتى إمبريالية» على حساب الشعوب المضطهدة والفقيرة والمستغلة. بيد إن هؤلاء اليساريين ومن خلال عودتهم إلى التاريخ المحلي» لإعادة اكتشاف ثوراته الاجتماعية ومنها ثورة القرامطة؛ لم يفعلوا شيئاً في الواقع سوى إعادة إنتاج فكرة استشراقية.

إن أوهام العدالة والاشتراكية في ثورة القرامطة؛ المحققة بواسطة القوة المسلحة؛ هي أوهام استشراقية لا أصل لماء وقد روج لها الغرب في إطار محاولاته اكتشاف سحر الشرق تبريراً للفتوحات الاستعمارية» وفي إطار محاولته لتلفيق تاريخ ثوري ماضوي للعرب مسيطر عليه عبر السيطرة على السرد في الرواية التاريخية. لم يكن المجتمع العراقي مُستعداً لا من الناحية الثقافية» ولا من الناحية السياسية» للقبول بالعودة إلى الماضي وارتداء أرياء المحاربين بالسيوف انطلاقاً من أسباخ البصرة. كان ذلك مجرد تاريخ خلفه الجتمع وراء ظهره. كما أن البلاد لمتكن مهيأة من الناحية الفعلية» للسير على طريق وهمي يدعى

- 159 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

التطور اللا رأسمالي. الفكرتان أو الخطتان كانتا مجرد سجال يدور في نطاق ضيق لا علم للمجتمع به. ل يكن هناك اهتمام حقيقي من جانب الجتمع بهذا النوع من الأفكار وهي ربا لم تبلغ مسامعه. ظلت الفكرتان ( الخطتان) اليمينية واليسارية محرد تطوير لسجال كان يدور في نطاق مجتمع العقائديين المأزوم. ومن المتعدر على أي باحث جاد» العثور على:دليل واد يؤكد وجوه نوع من الاهتمام الشعبي بهاتين الفكرتين المتصارعتين داخل التبار الشيوعي: نظرية طريق التطور اللا رأسمالي ( السوفياتية) المدعى أنها بمينية؛ ونقيضها اليسارية نظرية: العودة إلى التاريخ امحلي لاكتشاف مخزونه الثوري - اليساري.

وهكذا؛ فإن إخفاق الجيل الجديد من الشيوعيين اليساريين على صعيد فهم الواقع كما هوء كان يتمثل كإخفاق فكري: لقد استبدلوا تصوراً استشراقياً للواقع بتصور استشراقي آخر. على الطرف الثاني» أتضح للجيل الجديد من البعثيين العروبيين الذين اكتشفوا الماركسية» إن هذا القران المعقود بين العروبة والماركسية على يدي المفكر السوري ياسين الحافظ وتلميذه السياسي العراقي علي صالح السعديء محفوف بعوامل الطلاق وأسبابه ( يذكرنا هذا بمحاولات مجاهدين خلق الإيرانيين للمزوجة بين الشيوعية والإسلام). وهذا ما يفسر لنا جزئياً - على الأقل - السبب المنطقي لفشل محاولة الانعطاف بفكر البعث؛ بل وفشل الجماهيرية العقائدية العنيفة والجديدة» في التحول إلى جماهيرية على أرض الواقع. كان المأزق مأزق أفكار وتأملات في الواقع الحقيقي قبل أن يكون أي شيء آخر.

هذا يعني أن الجناح المنشق عن الحزب الشيوعي اضطر محكم ثقافته» إلى الاسترشاد بنموذج ( شيعي ثوري) افتراضي. وبذلك يكون اليساريون المنشقون عن الحزب الشيوعي العراقي قد ساهمواء على نحو ماء في بناء نموذج

- 160 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

استرشادي يسير جنباً إلى جنب مع الماركسية؛ ويكون واحداً من مرجعياتهم المبتكرة والخاصة. لم تفض هذه القراءة حتى في طبعتها الإستشراقية الحديفة والراديكالية» إلى نتائج حاسمة أو جذرية على صعيد العلاقة بين تنظيم القيادة المركزية وجماهير الفلاحين» وظلت محصورة في نطاق النخبة القائدة للكفاح المسلح؛ وتالياً محصورة بشكل خاص في نقاشات المثقفين اليساريين الفارين إلى أوربا.

برأينا أن هذه المحاولة لإضفاء هوية ترائية على الثورة» أخفقت في وقكت مبكر نسبياً لا لأن القراءة كانت مغلوطة:؛ أو عاجزة عن بلورة أفكار جذابة» وإنما بدرجة أكبر» لأن قادة الكفاح المسلح أنفسهم فشلوا في إدراك الواقع كما هو بعيداً عن الأيديولوجيا. وأكثر من ذلك فشلهم في إدراك حقيقة أن وجود جماعات مسلحة يسارية قرب منابع النفط» سيعجلء وعلى العكس مما كانوا يتمنون» في تبلور اصطفاف سياسي للقوى داخل الجتمع العراقي مُضاد ومناوئ لأفكارهم وتطلعاتهم.

هذا التبلور سيّرى بوضوح تام مع مسارعة البعث؛ الذي ذعر من الأنباء القادمة من الجنوب ( الشيعي» وهذه المرة اليساري المسلح) إلى إجراء أولى اتصالاته مع القيادة الشيوعية الرسمية اليمينية»؛ خصمه القديم وخصم القيادة المركزية؛ بما هي قيادة مُعتدلة سياسياً من هذا المنظورء وذلك من أجل إقناعها بالاشتراك في انقلاب عسكري للإطاحة بعارف الثاني. تمنع الحزب الشيوعي - اليميني ‏ عن إعطاء موافقته على خطة البعث في مطلع العام 1968. ربما بسبب إدراكه أن مثل هذه الخطوة» قد تسرّع في مزيد من الانقسام داخل الحزب الجريح» فجماهيره وكثرة من قادته لم يكونوا على استعداد للصفح عن جرائم البعث أو غفران أخطاء مليشياته. وهكذاء وبيئما كان اليساريون الجدد

- 161 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

المنشقين ‏ البعثيين والشيوعيين ‏ المتصاحين مع بعضهم البعض. يعثرون على قواسم فكرية مشتركة فيما بينهم في لندن وبغداد وباريس ويُعيدون تنظيم صفوفهم, كان خصومهم اليمينيين في البعث والحزب الشيوعي يجدون» هم أيضاً قواسم مشتركة للقاء وربما الاتفاق على مقاومة الوليد الذي خرج من رحميهما.

إن التفسير المقبول في هذه الحالة لسبب وجود أو مشاركة عسكريين ومدنيين معروفين بولائهم للإنجليز والولايات المتحدة الأمريكية» ومن خارج حزب البعث. في الإعداد لانقلاب 17 تموز/ يوليو 1968 الذي أطاح عارف الثاني وجاء بالبعث إلى السلطة» يجب أن يربط. بحقيقة أن القوى الدولية المذعورة من ثورة الكفاح المسلح على ضفاف بحيرات النفط العراقي» هي التي عجلت بوضع نهاية سريعة لحكم عارف الثاني. وفي المساعدة على وصول قوى تقليدية قوية وعنيفة إلى سدة الحكم؛ لقطع الطريق على الوباء اليساري الذي كان ينتشر عند ضفاف محيرات النفط. ولنتذكر أن الولايات المتحدة في هذا الوقتء لم تكن ترى عدوا في العالم سوى اليسار والشيوعية عموماً. ويبدو أن القوى الدولية وتحديداً البريطانيين والأمريكيين أجرت على وجه السرعة أولى اتصالاتها بالبعث عن طريق دبلوماسيين عراقيين في الخارج؛ بهدف التعرف على أفكارهم وتصوراتهم وربما خططهم المستقبلية» وقامت بتشجيعهم سراً على إزاحة عارف الثاني بانقلاب عسكري أدخلت فيه بعض الشخصيات الموالية ها.

إن هذا التقدير لا يجب أن يُفهم منه. بأي حال من الأحوال» وجود تواطؤ أو مؤامرة نخارجية أوصلت البعث إلى السلطة من جديد؛ بمقدار ما يجب أن يُفهم منه ‏ حصراً ومنعاً لكل تأويل مغلوط ‏ وجود توافق داخلي

- 162 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

وخارجي على خطورة اندلاع ثورة يسارية في البقعة الشيعية ‏ النفطية. وهذا ما لم تدركه أبدأ قيادة عزيز الحاج لا بالأمس ولا اليوم. والمؤلف ‏ هنا يحذر من إساءة فهم المقاصد الحقيقية لفكرته الآنفة عن هذا التوافق» كما يحذر من استخدامها في غير الموضع الذي اختاره لما ومن سوء تأويل للمقاصد الحقيقية المنشودة؛ لأن هذه الاتصالات التي باتت اليوم معروفة» لم تكن سوى محاولة من جانب القوى الدولية للدخول على خطوط التطور في الأحداث الداخلية.

انتهى العام الأول من ثورة الكفاح المسلح دون نتائج حقيقية على الأرض؛ بينما كان البعث ينغمس في الإعداد لعودة ظافرة إلى السلطة» مستفيداً من التطورات المتسارعة التى أرغمت قوى عظمى على التعامل معه والقبول بعودته إل الستلطة: :إن جتاهيريعه وحدها لقادرة» يقفا تعنفها ونظفتها؛ علي وقف زحف موجة جماهيرية يسارية مفاجئة. أما الشبان الذين لم تهدأ ثورتهم المسلحة في الأهوار فكانوا إذ ذاك يواصلون التفتيش في كتاب فيصل السامرء الوزير الركني في حكومة قاسم ثورة الزنج ‏ عن خيط ناظم لشورتهم في أسباخ الناصرية بدلا من البصرة ؛ حيث الموطن التاريخي لثورة الزنج). لم يلنفت عارف الثاني كما يبدوء إلى ظهور حركة القيادة المركزية للحزب الشيوعي العراقي في الأهوار» مثلما أبدى تجاهلاً عكسته سياسته العامة في البلاد حيال المخاطر الناجمة عن هذا النوع من التحول في مفهوم السياسة. وربما غمره شعور باللامّبالاة ما دامت الحركة في الأهوار, أي ما دامث بعيدة عن العاصمة. في هذه الأثناء كانت القيادة المركزية تحاول توسيع نطاق هجماتها بإشراك فقراء الريف غير المسيّسين. ممن لا يعرفون أي شيء لا عن الشيوعية» ولا عن الخلاف مع قيادة الحزب الشيوعيء وبالطبع تمن لم يسبق لهم الاحتكاك بعالم السياسة؛ ولكنهم كانوا يستشيطون حنقاً وغضباً من التهميش

- 163 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

والفقر امدقع والإهمال. سوف يتلقى جيل من السياسيين في الريف؛ بفضل حركة الكفاح المسلح هذه. مفهوماً جديداً للسياسة بوصفها عملا عنيفاًء بوساطة السلاح والعقيدة الثورية من أجل الاستحواذ على السلطة.

إذا ما قمناء ومن منظر رمزيء بمعاينة هذه الواقعة من داخل إطار أبناء الريف من الفلاحين الفقراء وصيادي الأسماك في أهوار العراق» وضد السلطة المركزية الضعيفة والمعزولة؛ كما لو أنها كانت مجرد إعادة إنتاج للعصيانات الفلاحية التقليدية ‏ المسلحة أيضاً ‏ وهي وقعت في عصر المماليك كما في عصر الاحتلال البريطاني للعراق. أي ( ثورة عشرين) أخرى ممصغرة» عقائدية ومؤلفة من جيش قليل العدد وضعيف الخبرة بالأرض والسكان؛ ولكن هذه المرة بقيادة مثقفين يساريين عراقيين بعضهم جاء من أوربا مثل الشهيد خالد أحمد زكيء الذي ترك بريطانيا ليلتحق بالثورة. كان خالد أحمد زكي على رأس مجموعة من الشيوعيين العراقبين في لندن» الذي نادوا وفي وقت مبكر بالثورة الُسلحة. إن أفكاره الغيفارية ا ملتهبة وعنفوان الشباب في دمهء قادتاه إلى التعبير بصوت عال عن فكرة الثورة. ويسدو أن عزيز الحاج وجد في أفكار خالد أحمد زكي ورفاقه ( وهو حتى اليوم لا يشير إلا نادراً إلى ذلك وربما يقلل من أهمية مساهمة خالد) مصدراً مُلهماً لتأجيج خلافه مع قيادة الحزب اليمينية. بهذا المعنى » سنرى أن أفكار الكفاح المسلح القادمة مع رياح المقاومة الفلسطينية والثورات الغيفارية في أمريكا اللاتينية على حدر سواءء قد ارتدّت إلى جوهرها الأصلي ونزعت عنها أرديتها وانقلبت بسرعة خاطفة إلى نط مألوف وقديم من العصيانات الفلاحية؛ لا أثر فيه تقريباً لأي أفكار أو موضوعات حديثة. وبالفعل »فإن التأمل في أفكار القيادة المركزية في

- 164 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

هذا الوقت» سوف يكشف عن حقيقة فظيعة: إن الصراع ضد الحكومة المركزية من جهة وضد القيادة اليمينية في الحزب من جهة أخرى؛ كما كانت تدعى؛ لم يولد الأفكار الضرورية التى تخص المجتمع في الصميم, بمقدار ما كان يوّلد موضوعات وأفكاراً حزبية تحص مجتمعاً صغيراً عقائدياً ثائراً على نفسه. ومُحتجاً على مُحيطه وناقماً على الفساد بأبلغ الكلمات وأقساهاء وعلى عدوين شاخصين: القيادة اليمينية في الحزب وحكومة عارف الثاني.

اتجهت فكرة الكفاح المسلح برمتها ‏ في المآل الأخير ‏ نحو هدف وحيد مواصلة الصراع الدامي ضد الحزب الجماهيريء. الذي ولدت من رحمه. وصولاً إلى تجريده من جماهيره وإعادة استقطابها في دائرة أفكار أكثر راديكالية: تتاسس على موضوع واحد: الاستيلاء بالقوة المسلحة على السلطة. وهذا ما تعكسه بدقة سلسلة من الوقائع الخاصة بالنزاع بين جناحي الحزب حول استقطاب الجماهير, التي لم تكن تعلم إلا بصعوبة جمة بالفارق غير اللغوي بين الاسمين: اللجنة المركزية اليمينية والقيادة المركزية اليسارية. ومرة أخرى كشف الصراعء الذي دار منذ الآن داخل وخارج الحزب الجماهيري؛ بين جماهير يسارية وجماهير بمينية؛ عن كونه الصراع الوحيد الُصمم من أجل الفكرة ذاتها: الاستيلاء على الجماهير وقيادتها في معارك عنيفة ومسلحة. وهذه المرة بالعقيدة والسلاح معأ من أجل دحر اليمينيين في الحزب والحكومة الرجعية في بغداد على حدٍ سواء. وطوال أكثر من عام ابتداء من صيف 1967) حتى صيف 8. عاشت القيادة المركزية بقيادة عزيز الحاج» وهم الثورة ووهم الجماهير املتفة حول الثورة. وبينما ظل عارف الثاني قليل الاهتمام بمخاطر هذه الحركة؛ التى انبثقت على ضفاف بجحيرات البترول» كان البريطانيون والأمريكيون يتابعون بذعر الرجات الأولى للاهتزازات والإنزلاقات المتتالية»

- 165 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

ويراقبون بحجذر انهيارات التربة السياسية لعراق الحقول النفطية الغنية بالاحتياطي العالمي» وراعهم تواتر وصول مثل هذه الأنباء مصحوبة باللغط, ثورية مسلحة قرب منابع النفط. حيث الأهوار والجزر شبه البحرية الغنية بالمعادن» وحيث يوجد أكبر خزان نفطي في باطن الأرض؛ دلل على انعدام أي أثر للتحليل العميق أو التفكير السياسي الحصيف عند قادة ومنظري فكرة الكفاح المسلح. وعلى العكس من ذلك برهن على وجود نزوع صبياني متأصل» لتحويل السياسة إلى نوع من المغامرات الطائشة. وبالطبع؛ فإن الأمر الذي يتوجب رؤيته بكثير من التبصرء هو أن قادة ومنظري الكفاح المسلح, وحتى جزء عظيم من جماهيره» هم في الأصلء من جيل السياسيين الذين دخلوا عام السياسة فور سقوط النظام الملكي. إنهم ينحدرون من صلب الجيل ذاته الذي ترعرع وتشأ في قلب الحشود الجماهيرية القديمة» التى كانت تلوح بالحبال وتقوم بعمليات القتل والسحل في بغداد والموصل وكركوك. ولا يعدم المرء إذا ما قام بتدقيق موضوعي بأسماء المشاركين في الكفاح المسلح, رؤية عدد كبير منهم ثمن كانوا قبل سنوات قليلة فقطء يهتفون في الشوارع بالشعارات البذيئة نفسها. إن قائد الكفاح المسلح نفسه عزيز الحاج» كان من بين أبرز قيادات الحزب الشيوعي وأهم منظري الحزب في الحقبة نفسهاء وقد كتب وروج لأفكار وسياسات أذكت نار الصراع؛ وهو لا ينكر ‏ اليوم - الدور الذي لعبه في الماضي. ويبدو أن حُسن الطالع وحده هو الذي مكنُ الحاج من الاستفادة القتصوىء وعلى امتداد حقبة الخمسينات؛ من إعجاب كثرة من قادة الحزب به وبعضهم كان أمياً بالفعل ( كانوا إجمالاً من القيادات الفلاحية الكردية والعربية أو من العمال البسطاء) ليُضفى على نفسه هالة أيديولوجية. هي نتاج الماكينة الدعائية الغوغائية للشيوعيين. لقد صور الحاج في مناسبات

- 166 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

مختلفة» كمثقف لا منازع له وكمُنظر اطلع على أسرار النظرية عرف خباياها. وحتى اليوم لا تزال بقايا مشل هذه النظرة راسبة في لا وعي الشيوعيين العراقيين لتاريخهم. في الواقع كان الحاج متعلماً ومُثقفاً. ولا شك عندي في هذا الأمر» بيد أن حاجة الحزب لتضخيم وتعظيم طاقات رفاقه. هي التي رسخت الانطباع بالدور الذي لعبه الحاج على المستوى النظري. وهذه كما يُلاحظ ليس لها سوى أساس ضعيف من الدّقة. إن هذه الصورة؛ لوحدهاء ستكون كافية لالتفاف الراديكاليين الشباب في الحزب من حوله قبيل الانشقاق.

إن ثقافتهم السياسية مؤسسة في الجوهر. على منظومة من الأفكار والُعتقدات التي تييح استخدام العنف. وكل ما حدث,. مع الانشقاق وإعلان الكفاح المسلح, هو أن هذه الثقافة عثرت على موضوعات مغايرة وغير مألوفة من قبل لمواصلة الصراع العنيف. واكتشفت عدوا جديراً بأن ينزل العقاب الثوري به انطلاقاً من الأهوار. وثقافة كهذه؛ كما تبرهن الوقائع» ما كان لها أن تتحسس أو تتفهم المخاطر والتهديدات» النى يمكن أن يحملها توادد كثيف لمسلحين شيوعيين قرب منابع النفط» لا على النظام الضعيف في بغداد. بل على واشنطن مذعورة من هؤلاء الغيفاريين» أتباع أنور خوجة وماو؛ ولذلك بدت مستعدة لقبول احتمال عودة البعث إلى السلطة» فهو القوة الجماهيرية الوحيدة القادرة على خنق الوليد في مهده. وبالفعل؛ فإن الضربات الموجعة التي سددها البعثيون فور نجاح انقلابهم, إلى القيادة المركزية في بغداد والأهوار, أدت إلى شلل تام لحركتها وقلصت من تواجدها في المدن الكبرى. لقد عادت الجماهيرية القديمة العنيفة والكبرى لتجتث بنفسها جذور الوليد الشيوعي العنيف.

- 167 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

أريد - هنا - أن أتوقف قليلاً عند نهاية السبعينات من القرن الماضي حين تلاشته فعلياًء الدلائل على وجود حي وحقيقي للقيادة المركزية من الناحية التنظيمية.

لقد استمرت أفكارها القديمة» ومعها تواصل النقاش ذاته عن ثورة الزنج والقرامطة. وهذا جلي في ما نشر من دراسات ومقالات. ظلت ثورة الكفاح المسلح محصورة في حدود الرقعة التي ولدت فيها سياسياً وتنظيمياً: وهى رقعة شيعية خالصة؛ كما ظلت أسيرة الأفكار الأولى التى نمت وترعرعت فيها. إن تحليل الأسباب الفعلية التى أفضت إلى تشكل جماعة القيادة المركزية: ثم تحللها وتلاشيها عن المسرح السياسيء؛ سيقود على التأمل في الصيرورة ذاتها للحزب الشيوعي العراقي كحزب شيعي» من حيث غالبية الأعضاء والقادة والكادرات الأساسية وجماهير الأنصار والمؤيدين؛ إذ كرر الجناح المنشق الوضعية ذاتها تقريباً حين امجذبت إليه قوى من داخل الحزب وخارجه تنتمي إلى المذهب الشيعي في الغالب؛ بينما افتقد كلياً ربما ‏ إلى جماعات سنية متماسكة سواء داخل القيادة أم في القاعدة الجماهيرية. ومن غير شك؛ فإن ثم مغزى شديد الأهمية لبعض المُطابقات الفكرية التي قام بها إبراهيم علاوي أحد قادة الكفاح المسلح. في وقت تال من اندلاع الشورة؛ وستظل مُلازمة بتأثيرها لفكر القيادة المركزية حتى بعد سنوات طويلة من خروجها من المسرح السياسي. في نهاية السبعينات كان نجم إبراهيم علاوي يسطع في سماء التنظيم المحطم؛ ومن حوله التف ب ومناضلون وجدوا أنفسهم في المناني هائمين. بيد أن علاوي المناضل الذي يستحق كل الاحترام» والمثقف الذي انصرف بكل جوارحه إلى تطوير أفكار القيادة المركزية» لم يتمكن من تحقيق أو إنجاز حل يُعيد بعث هذه التجربة إلى الحياة. لقد بانث التجربة مع بروز دوره ضربا

- 168 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

من ضروب الماضي بعد الانهيار المدوي لعزيز الحاج. كل ما كان بوسعه أن يفعله هو مواصلة المطابقات النظرية القديمة» ومواصلة تبرير الشورة الفكرية وشحنها بالمزيد من الممطابقات ذات الطابع الترائي. في هذه الحقبة المدأخرة من حياة القيادة المركزية ‏ في ثمانينات القرن الماضي - وربما تحت تأثير الكاتب العراقي هادي العلوي صديق القيادة الحميم؛ جرى تطوير تلك المطابقات بين ثورة القرامطة وثورة الكفاح المسلح.

كان هادي العلوي مبهوراً بالقيادة المركزية» مسحوراً بقدرتها على التحدي الذي لطالما افتقده في القيادة الشيوعية الرسمية» ولكنه ظل عاجزاً عن كشف هذا الإعجاب بسبب جملة من الظروف. وحين تمكن العلوي من مغادرة العراق في نهاية السبعينات من القرن الماضي.ء اتجه بكل مشاعره وحماساته المفرطة إلى بقايا القيادة المركزية في أوربا وفي دمشقء وراح ينسج معهم صلات علنية ويروج لأفكارهم. في الواقع لم يت يتبق من القيادة في هذه الأثناء شيء نباسي صرى قات هائمة على جز هيهاي لكا رع مر تكد راهنا من عقد كامل من السنين قريباً بين فشل الثورة عام 1969. وبين خروج العلوي من العراق في نهاية السبعينات. ومع ذلكء فإن جذور المطابقات الأولى التي قامت بها القيادة المركزية على مستوى التاريخ» تؤكد وجود هذا الميل القديم.

على الطرف الآخرء اظهر الراديكاليون الجدد. الذين واصلوا دون كثير أمل أو جدوى. تجديد حياة حركتهم وتطوير أفكارها؛ قدرة ممتازة على تخطي العقبة وذلك من خلال تنشيط أجواء النقاش وتبادل الأفكار التي سوف تختلط ببعض النفحات التروتسكية. ويبدو أنهم انتبهوا مُبكراً إلى أهمية تأسيس هوية فكرية ذات طابع عراقي عروبي إلى حد ما من خلال الاهتمام الخاص بالموضوع الفلسطيني. ولذ تضاعفت في هذه الحقبة أيضاً الاهتمامات بهذا

- 169 -

الفصل الأول : الأحمرء والأبيضء والأسود

النوع من التحليلات التراثية»التى كان العلوي يشجع عليها وينشر مزاياها في صفوف الشباب من خلال مقالاته وكتبه. وفي هذا النطاق تبدى هادي العلوي في نظرهم ‏ نحث نتحدث هنا بالطبع عن مرحلة متأخرة من حياة الكفاح المسلح عندما انهارت التجربة ولم يتبق منها سوى إطارها الفكري - كمثقف ثوري مختلف عما ألفوه في أجواء الحزب القديم. في ما بعد سوف يتطور هذا الإعجاب الْمتبادل ويتحول إلى علاقة حميمة ولكن بعد فوات الأوان. والمثير أن العلوي بعد أقل من خمس سنوات من الإعجاب المتبادل مع اليسار الشيوعي؛ سارع إلى العودة إلى أضان الحزب الستاليني الذي صوب نحوه كل نقده السياسي عندما أتضح له في منتصف الثمانينات من القرن الماضي أن التجربة الثورية مات سريريا بالفعل.

إن الأساس الذي قام عليه هذا اللقاء» يمكن أن يُرى بوضوح في المرحلة الأخيرة من حياة القيادة المركزية» حين تم طردها من الأهوار واعتقال مقاتليها أو اضطرارهم إلى ال هرب خارج العراق. رأى الراديكاليون إلى أنفسهم. بتأثير أفكر إبراهيم علاوي ثم تالياً تحت تأثير هادي العلوي كما لو أنهم يُعيدون إنتاج ثورة القرامطة أو يواصلون ثورة الزنج» ويعيدون إنتاج وتركيب التاريخ امحلي؛ ولنقل يواصلون إشعال الثورتين القديمتين» وبعثهما نظرياً وحسب من قلب التاريخ بوصفهما ثورتي فقراء ومحرومين. وفي هذا السياق وزع بعض قادة الحركة في الثمانينات من القرن الماضي وبعد أكثر من عقد على نهاية الكفاح اللمسلح كتيباً مطبوعاً على الآلة الكاتبة وبحروف بدائية: يُدعى (المشترك)؛ يُزْعم أنه من نتاجات إبراهيم علاوي وهادي العلوي المشتركة» يُبينان فيه أوجه التمائل بشكل غير مباشر؛ بين ثورة القرامطة وبين صورة القيادة المركزية لنفسها؛ وذلك من خلال محاولتهما اكتشاف الطابع الاجتماعي التاريخي لحركة اليسار العراقي.

-170-

الفصل الأول : الأحمرء؛ والأبيض؛ والأسود

في الواقع لم يُعلن عن هذا النوع من الكتابات إلا في وقت متأخر من حياة القيادة المركزية. بيد أننى أستطيع» نظراأ لمعرفتي المباشرة بكتابات هادي العلوي. التاكيد على أن الُنظر الوحيد المؤهل لإنجاز مثل هذه القراءة إنما هو العلوي؛ بينما يمكن الافتراض أن إبراهيم علاوي سار على الطريق في هذا الميدان وقام بتطوير الجانب السياسي من التحليل التاريخي. إن المطابقات والتمثلات الفكرية المشحونة بالتاريخ العتيق بين القرامطة القدامى والجدد سواء أكانت قد تبلورت في وقت مُبكر أم أنها ظهرت في وقت متأخر؛ ذات أهمية خاصة لأنها تين للمؤرخ والباحث وحتى للقراء المهتمين بتاربخ بلادهم» كيف أن الأفكار الجديدة لم تلعب» قطء أي دور حقيقي في النشاط السياسي» وإن قوى المجتمع العراقي ظلت مشدودة إلى الماضي. صدر كتيب ( (المشترك) في العام 1983 بعنوان: ( المشترك: نظام الاشتراكية الديمقراطية في ضوء تاريخ المجتمع الإسلامي وخبرة الثورات الاشتراكية الحديئة) ' وفيه توضح القيادة المركزية للحزب الشيوعي العراقي بعضاً من أفكارها عن المهام المناطة باليسار العراقي. إن الفكرة الجوهرية التي يسترشد بها الكُتيب في تحليله لمعطيات الواقع» تقول ما يلي: ١‏

إن المرحلة الراهنة للثورة العراقية الديمقراطية أخذت تقترب من مرحلة تاريخية أعلى تفترض وضوح المهام الاشتراكية» وهذا بدوره يتطلب تحديداً علمياً دقيقاً لطبيعة المراحل الثورية ومهام وطبيعة كل منها وأهدافها السياسية والاجتماعية. وقد صبغت هذه الوثيقة انطلاقاً من هذه التطورات. ( ص: 15)

'“‏ المشترك: نظام الاشتراكية الديمقرطية في ضوء تاريخ الجتمع الإسلامي وخبرة الثورات الاشتراكية الحديثة» منشورات الحزب الشيوعي العراق ‏ القيادة المركزية 1983 ( وثيقة حزبية بلا دار نشر)

-171-

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

إذا كانت أفكار الوثيقة ( الكتيب) صيغت على أساس أن المرحلة الراهنة ( نحن الآن في العام 1983 والحرب العراقية ‏ الإيرانية مشتعلة حيث اا ا ا ل 17 او الديمقراطية المقتربة من مرحلة تاريخية ية أعلى؛ يُفترض أنها ذات مهام اشتر ل و ل 0 قراءة أيديولوجية لا صلة ها بتفاصيله الحقيقية ومعطياته اليومية» ولا بالنتائج المروعة الناجمة عن الحرب. لقد تخيلت القيادة المركزية للحزب الشيوعي العراقي ‏ الإيرانية» في صورة حرب روسية - ألمانية لا بد أن تنتهي بشورة بلشفية جديدة. وطبقاً لحاذ النوع من التحليلات؛ فإن العراق لم يكن يعيش في زمن حقيقي ( أرضي) هو 1983.؛ بل في زمن نظري ( أيديولوجي) هو 7 حيث الثورة الاشتراكية على الأبواب. وما يُضاعف من درجة طغيان الجانب النظري - التجريد في هذه التحليلات» هو وجود نمط من تخيل للواقع يعود به إلى الوراء وعميقا في التاريخ» بدلا من ملامسته ورؤية موضوعاته الساخنة. كانت الحرب مع إيران تتسع وتتنمدد فوق رقعة جغرافية تتجاوز حدود البلدين» مع تزايد الهجمات الصاروخية على الكويت وتهديد سفن وبواخر شحن النفط في عمق الخليج. أما في جبهات القتال؛ فقد كانت البصرة مهددة بالسقوط في قبضة الإيرانيين. لم تكن هناك دلائل فعلية على قرب انهيار النظام العراقي أو هزيمة الجيشء وبالطبع لا وجود لمؤشرات إقليمية ودولية عن استعداد الغرب لقبول مثل هذا التحول في مجرى النزاع المسلح بين البلدين. ومن ذلكء رأت القيادة المركزية في تحليلها أن:

من الممكن والمحتمل في ظروف سياسية معينة؛ أن تتطور الشورة الديمقراطية الراهنة في العراق إلى ثورة اشتراكية في فترة قصيرة نسبيأء تجعل من

-172-

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

مهمات هذه الشورة قضية عملية تتطلبها ظروف البلاد وتحظى بمساندة ومشاركة غالبية الجماهير والطبقات الاجتماعية المنتجة. وفي مثل هذه الحالة» سيتعين على الطبقة العاملة العراقية وطليعتها الثورية الإطلاع بمهمات تاريخية عظيمة يتطلب تحقيقها بنجاح؛ وعياً اجتماعياً وانضباطياً تنظيمياً. ( ص: 30)

مثل هذا النوع من التنبؤات النظرية الخيالية ذات الطابع التجريدي؛ والتى اتسم القسم الأول من الوثيقة» بوسعه أن يكشف بدقة عن نمط التفكير السائد في أوساط الراديكاليين الشباب» وعن مقدار فهمهم واستيعابهم للواقع الواقعي لا الواقع الأيديولوجي. ولكنه يُبِينَ» بدرجة أكبر من ذلك؛ كيف أن اليسار العراقي الثائر والحانق على الأوضاع السياسية»كان يدرك بأقل نما يتطلبه الواقع المأسوي ‏ من تحليل منهجي سليم ‏ لا طبيعة مهامه ودوره» وإنما كذلك تحديد وتعيين إمكانياته هو. كانت القيادة المركزية في هذا الوقت قد تلاشت كليأ من الخريطة السياسية في العراق» وظهرت أجيال من العراقيين الذين ربما ل يسمع ‏ بعضها ‏ أصلاً بهذا الاسم.ولا يعرف شيئاً له قيمة عن تاريخ الحركة وقادتها؛ فبين العام 1969 يوم انهارت القيادة المركزية والعام 3 حين صدرت الوثيقة» نحوا من عقد ونصف من السنين غرق خلاله امجتمع العراقي في أوحال حرب مأسوية» وتبدلت فيه كلياً)صورة امجتمع القديم الذي تركه اليساريون وراء ظهورهم.

بعد أربعة عشر عاماً من نهاية الكفاح المسلح لم يتبق من القيادة المركزية سوى جمهور من الأعضاء القدامى في الخارج» ظل يواصل دون انقطاع تبادل الأفكار نفسها التي سبق لهم وإن تبادلوها عن التاريخ والفلاحين واليسار والقيادة اليمينية. وكانت آخر محاولة للعب دور في الحياة السياسية قد انتهت

بالفشل الذريع في دمشق عام 1978 1979 عندما انفرط عقد جبهة سياسية

- 173 -

الفصل الأول : الأحمر؛ والأبيض, والأأسود

من المعارضين» كانت قد تشكلت هناك ضد نظام بغداد وشاركث فيها القيادة المركزية. ولذا يبدو غريباً ومُئيراً أن الأفكار التراثية التي نشطها إبراهيم علاوي وهادي العلوي وبدت ضرورية في وقت ما من الأوقات. بالنسبة لمثقفي القيادة المركزية حتى بعد فشل الكفاح المسلح؛ قد استمرت من دون انقطاع أو انفعالية» وليست محض ترد على الحزب الجماهيري المترهل واليميق» ولا ضد الأوضاع الفاسدة والرجعية والسلطة؛ بل هي تواصل مع تقاليد ثورة عراقية عند تخوم هذه النقطة التي جرى إيضاحها لاحقا وبشكل ملخاح؛ تجلى المسعى الحقيقي لؤلاء المثقفين الثائرين. لقد كانوا يُفتشون في تاريخ العراق عن هوية وراء فكرة الكفاح المسلح.

وجدت القيادة المركزية أن تعريق الشورة نظرياً ( تحويلها إلى ثورة عراقية) وإعادة بناء هويتها على أساس أنها تتضمن قرابة عضوية بالتاريخ المحلى.هو الحل الوحيد الممكن. ويتضح من سلسلة من الوثائق والمقاللات والدراساتء أن جذور فكرة المطابقة بين التاريخ المحلي وبين ثورة الكفاح المسلح تمتد إلى المراحل الأولى من الانشقاق. واحدة من هواجس المثقفين اليساريين الذين التحقوا بالثورة سواء في بغداد كأصدقاء ومناصرين» أم ذهبوا بالفعل إلى الأهوار كمقاتلين» كانت تتجسد في هذا النوع من المطابقات بين الماضى والحاضر. وبالفعل» فقد تراءت القيادة المركزية وطوال الوقفت وحتى بعد اندثارها التنظيمي» في مرآة وفي أعين الأعضاء والقادة والمثقفين اليساريين العراقيين» كما لو كانت استطراداً لثورة اشتراكية قديمة قام بها العراقيون قبل ظهور ماركس بأكثر من ألف عام» وهي تجلت مرة في صورة ثورة زنج في

- 174 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

أسباخ البصرة» ومرة في صورة قرامطة يخرجون لقيادة الفلاحين من أجل قيام نظام اشتراكي» إن العام الأول من الثورة» لا يوفر للباحث النزيه وقائع ذات قيمة دراسية عن إحراز الثائرين لنجاحات عسكرية حقيقية» ربما باستثناء بعض المعارك الحدودة والتى علقت بالكثير من المزاعم عن البطولات . ومع ذلك؛ فإن استشهاد خالد أحمد زكي أحد أبرز القادة» يذلل على أن هؤلاء الشبان كانوا يتمتعون برباطة جأش كافية للدفاع عن معتقداتهم حتى الموت. في الواقع؛ ظلت ثورة الكفاح المسلح معزولة عن الشعب والجماهير في العاصمة» ولم تتمكن من تجنيد أعداد كافية للخروج من الرقعة ة الجغرافية القاتلة» كما انعدمت السُّبل والوسائل والأموال وحتى السلاح لمواصلة الشورة بقوة وعنفوان. وفي حالات غير نادرة» تحولت إلى نوع من الصدامات العنيفة في المدن ضد القيادة اليمينية للحزب الشيوعي.إنهم لا شك يتذكرون الحقيقة التالية اليوم عن أنفسهم وعن مصير حركتهم ما داموا يهتمون بالتاريخ:

فما أن حل شهر تموز / يوليو من العام التالي 1968 حتى كان البعث يتأهب للعودة فعليا إلى السلطة. مع صعود البعث في 17 تموز / يوليوه يكون العراق قد دخل حقبة ربما غير مسبوقة» هي حقبة الحزب الجماهيري العائد إلى الحكم ارات وأفكان ووعود عديدة كان أمام البعث العائد إلى جماهيره والمسترد لسلطته الضائعة سلسلة من المهام العاجلة» من بين أكثرها إلحاحاً القضاء على القرامطة الجدد عند مجيرات البترول.

-175-

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

عندما يحتقر الحزب جماهيره

لآن الحزب بنى مفهومه عن الجماهير على أسس نظرية تجريدية» فقد كان بديهياً أنه سوف يقوم باحتقار أي شكل واقعي وحي يمكن أن يجسدها أو تتعين من خلاله. الديزييها برينية على الدراء! غير متتصيندة أو متعيدة في شكل واقعي ملموس وأن تظلء فوق ذلك : نقية ومقدسة لا يفسدها الواقع بواقعيته. رح ل ا تربية الجماهير الحزبية وبشكل متواصلء على فكرة أن الحزب هو شيء مقدسء متسام ومترفع لا تدرك أسراره الفكرة سوى قلة من المتبحرين في النظرية. سوف يشتكي عزيز الحاج السياسي الشيوعي المخضرم. بعد سنوات طويلة من خروجه من الحياة الحزبية وأثر فشل الكفاح المسلح» ومن عزلته في باريس» بمرارة وإحساس فظيع بالآلم الشخصيء أنه أصبح عرّضة للتشيهر بأصله الطبقي الوضيع» من قبل الشيوعيين أنفسهم الذين لم يكفوا عن تقديس الأصول الوضيعة للجماهير ‏ ويا للمفارقة -. وقد تسنى لي فر مراسلات شخصية مع الحاج ( بعض رسائلي إليه وجدت طريقها إلى مذكراته الصادرة مؤخراً في باريس. ولمن يرغب في الإطلاع على هذا الجانب من المسألة المثارة يمكن العودة إلى بعض المقتطفات من رسائلي إليه وإحداها تتضمن نصيحة مني بأن يكف عن المجادلات العقيمة مع خصومه على صفحات الجرائد حول هذا الجانب من التشهير وسواه) أن اطلع عن قرب على صور ونماذج من هذه المفارقة المزعجة والمؤلمة. وفي كراسة صغيرة أصدرها الحاج في باريس (دون تاريخ أو دار نشر) عاد ليضع مسألة التشهير بأصله الطبقي من جديد على الطاولة» مُتسائلاً عما إذا كان هذا الأسلوب يدل على شيء ما له صلة بالتاريخ أو الحقيقة؟ وذلك في سياق سلسلة من الملاحظات الثمينة حول كتاب حنا بطاطو. من بين هذه الملاحظات وهي كثيرة» سأتوقف عند مسألة التشهير

- 176 -

الفصل الأول : الأحمر؛ والأبيض, والأأسود

أو احتقار الأصل الطبقي للجماهير» كما تجسدت في فكر وسلوك الشيوعيين العراقيين. ١‏

يكتب الحاج تحت عنوان الأصل الطبقي لعائلة الحاج ما يأتي: إن حنا بطاطو؛ واستنادا إلى مصادر البوليس العراقي كتب في مؤله عن الطبقات الاجتماعية في العراق قائلاً: إن والد الحاج كان عتالاً ‏ حمالاً -. ويبدو أن هذا التوصيف وجد هوى في نفوس كثير من الشيوعيين العراقيين من كارهي الحاج؛ ومن خصومه الألداء حتى في أوساط رفاقه القدامى في الكفاح المسلح, حتى من جون أدنى معرفة شخصية مباشرة أو سياسية به؛ فراحوا يكتبون بتشف مرضي وكأنهم اكتشفوا النقيصة المطلوبة في خصمهم. وبمناسبة أو دونها راح هؤلاء يعيدون رواية انهياره أثناء التعذيب على أيدي زعماء البعث العائد إلى السلطة» قصد التذكير بأصله الطبقي الوضيعء مُستخدمين التشنيع الصادر في الأصل عن البوليس والذي رده بطاطو دون احتراس كاف أو معرفة بحساسية هذا النوع من المعطيات الشخصية. لقد جرى استغلال عبارة بطاطو الموظفة بروح العلم ولإغراضه لا أكثر ولا أقل» بطريقة مهينة كمادة تشهيرية في الصراع مع الحاج؛ وراح بعض الكتاب يتحدث باحتقار عن ( ابن الحمّال). مع أن الحاج خرج من عالم السياسة منذ سنوات طويلة؛ وانزوى في باريس يكتب ذكرياته؛ فإن الشيوعيين العراقيين لم يكفوا يوما عن التشهير به والتحريض على الاعتداء عليه» كما حصل في لندن خلال ندوة فكرية تحدث فيها الحاج عن ثورة تموز / يوليو 1958. إذ هاجمه مهووسون وانهالوا عليه بالضرب.

بلغ التشنيع ذروته حين راحت الشتائم تجد طريقها على صحيفة الحياة اللندنية» ويدخل في حلبتها أفراد لا أحد يعرف عنهم أي نشاط سياسي من قبل. مثلت مساهمات عزيز الحاج الفكرية والسياسية منذ الخمسينات, في

-177 -

الفصل الأول : الأحمر؛ والأبيض, والأأسود

النقاش حول اعقد الموضوعات النظرية والسياسية الساخنة بحق. وبالنسبة للفكر العراقي في تلك الحقبة» ظاهرة مُلفتة للنظرء فهذا الشاب الذي استلم قيادة الحزب العراقي مؤقتاء بنوصية من قائد الحزب ومؤسسه يوسف سلمان يوسف ( فهد) بعد اعتقاله في العام 1947» والذي كان اصغر الأعضاء سنأء كان من بين قلة من قيادة الحزب آنذاك من شاءت الظروف أن يحوزوا على تعليم جيد» فمعرفته باللغة الإنجليزية وشغفه بقراءة الكتب وإطلاعه المبكر على النظرية الماركسية - اللينينية على نحو ما؛ كلها عوامل مكنته من أن يقدم مساهمات فكرية وسياسية جريئة وجديدة قياساً إلى فترتها. ومع أنني أعتقد أن صورة الحاج المنظر هي من اختراع الحزب ومن نتاج ماكينتهم الدعائية الغوغائية» وإن دوره الفكري هو في الحقيقة أقل أهمية مماروّج له؛ فإن لمن العدل والإنصاف الإشارة إلى أن الحاج لعب في ماضي الحزب دوراً نشطأ على المستوى الفكري» ضمن فريق من قياديين انصرفوا إلى العمل التنظيمي كلياً . وم يبرز لدى معظمهم اهتمام جدي بالفكر لقد كانوا يفهمون السياسة على أنها شقاء يومي بين الجماهير؛ نشاط أكثر أهمية وقداسة من الفكر.

عظَّم الحزب في الماضي. من صورة عزيز الحاج الُْنظر والمثقف والكاتب» بل ونشر من حوله الأساطير» وفي مناسبات غير قليلة كان الشيوعيون يتبادلون أسطورة تقول أن قائدهم هذا لديه قدرة عجيبة: أنه يستطيع أن يكتب في يله اليسرى مقالاً يسارياً وفي يده اليمنى مقالاً بمينياً. أنه أعجوبة الحزب وأسطورته. ولكن ما إن اختلف الحاج مع قيادة الحزب حول الأفكار؛ الأفكار ذاتها التي انبهروا من قدرته على التعامل معهاء حتى شرعت الماكينة الغوغائية في تحطيم الصنم دون رحمة. وبين ليلة وضحاها أصبح الرجل الأعجوبة مادة للسخرية والاحتقار. إن أكثر ما يُحزن الحاج في شيخوخته السياسية: أن يُشتم

-178-

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

والده وأن يعير بأنه كان حمالاً في الشورجة ‏ السوق التجاري الشعبى في قلب بعاد حتى بعد كل هذه السنوات الطويلة نين المزوج:من الم الببياسة» والتقاعد وتضاؤل الاهتمام بالشأن العام عنده. ولذا اضطرته حملات التشهير المتواصلة إلى الرد.

يكتب الحاج في كراسته قائلاً إن بطاطو أخطأء حين لم يُميز بين كون والد الحاج من صغار رجال الأعمال. وكان مسئولاً عن تفريغ سيارات الشحن القادمة من سورية إلى سوق الشورجة ببغداد» وبين ما يزعم أنها عتالة. وللتدليل على ذلك يكتب نافياً هذه التهمة ومؤكداً أن والده كان صديقاً حميماً للأدباء ولكبار الشعراء والسياسيين في العراق أيضاً. حتى أن الجواهري ذكره بالاسم في إحدى المقابلات قائلاً: ( بالمناسبة فإن والد عزيز الحاج رجل كريم وكان من أصدقائي ‏ كراسة الحاج). وبالطبع فمن غير المنطقي أن يكون الرجل الكريم» وصديق أكبر شعراء العراق» في هذا الحالة» حمالاً وضيعاً يستحق الشتيمة. كما يروي الحاج ما قصه عليه المحامي جرجيس فتح الله في رسالة خاصة عن ظروف المعتقلين في سجن نقرة السلمان الصحراويء؛ في الخمسينات من القرن الماضي ما يلي: ( كنا نتنظر موعد المواجهة -المقابلة - بفارغ الصبر حيث يأئي الحاج علي حيدر والد عزيز السجين معنا ومعه عادة حمل لوري ‏ حمولة سيارة شحن كبيرة ‏ من المواد الغذائية بما فيها الخضار واللحم اللذين كنا نفتقدهما. كان من التجار الكبار ومن الناس الطيبين) ( كراسة الحاج: 19 حنا بطاطو والحركة الشيوعية في العراق ‏ الكتاب وترجمته العربية).

قد يبدو هذا التفصيل سخيفاً أو عديم القيمة ولا أهمية له من الناحية الثقافية» ولكنه في المقابل» يُدلل على نوع النقاش الفكري الذي انغمس فيه

- 179 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

بعض السياسيين العراقيين خلال هذه الحقبة؛ بحيث تحولت السياسة إلى مهاترات وتشنيعات شخصية مليئة بالأكاذيب. ومن ناحية أخرى؛ يدلل على أن الحزب سيلجأ في لانهاية؛ إلى التشنيع على الجماهير والثذكير بأصلها الوضيع وهو الذي يتباهى ويفتخر بها. إنها جماهير أسطورية» مجردة وغير واقعية» مقدسة وسحرية؛ ولكنها ما إن تتعين في الواقع وتصبح واقعية وتخرج من شرزئقتها الأسطورية حت ركتدش الخدرت أميوها الرضينة: فيتحول الرجل الكريم وصديق الشعراء إلى حمال. في هذا الإطار يورد الحاج عطفاً على ما كتبه بطاطو حول علاقة خالد يكداش زعيم الحزب الشيوعي السوري؛ مع فهد زعيم الحزب الشيوعي العراقي قائلاً: ( وبالنسبة لفهد فإن خالد بكداش كان يتهم نهجه بالتطرف السياسي والسياسة الانعزالية فضلاً عن تجريحه لكونه مسيحيا ص: 9).

وإلى هذا كله يسترد الحاج بعضاً ما قيل محقه من قبل البعثيين والقوميين في العراق عندما هاجمه هؤلاء؛ مُذكرين القراء بأصول وجذور وضيعة أخرى للحاج: فهو ليس عربياً وإن اسم والده ليس الحاج عليء بل الحاج قلي.أي أنه من أصول كردية ‏ إيرانية ومن الأكراد الفيلية الشيعة.

توضح هذه الأمثلة حة حقيقة أن الحزب» سيقوم بحملة تشهير بالجماهير ويندد بأصوها الوضيعة الدينينة والعرقية والاجتماعية» من خلال التشهير بقادتها التاريخيين. إنها جماهير عتالين ‏ حمالين» وتنتسب فوق هذا إلى ( دين ) غير ( ديننا) كما أنها لا تنتسب إلى ( قوميتنا ) وهي في الواقع جماهير ليست من أصل الشعب. إنها جماهير غريبة دخلت عالم السياسة الخاص بنا وحدنا في غفلة من الزمن» ويتعين إخراجها فوراً والتشهير بها. إن نموذج التشهير الذي قام به الشيوعيون؛ وسائر المعارضين العراقيين طوال السنوات من عام 1968

- 180 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

حتى سقوط بغداد 2003» بنائب مجلس قيادة الثورة السيد عزة الدوري ( عزة إبراهيم) وذلك عبر تعييّره بأنه كان بائعاً للثلج في شبابه» والإصرار على استخدام اسمه مشفوعاً باللقب التحقيري ( عزة أبو الثلج) يُدلل بقوة؛ على أن الحزب في قرارة نفسه يحتقر المهن الوضيعة؛ أو التي يتخيلها على أنها وضيعة؛ وبالتالي فهو يحنقر الجماهير الت تنجذب إلى السياسة من هذه الأوساط. وتتجلى المفارقة بأنصع مكور ها عن تمل إن مؤسس الحزب الشيوعي وقائده التاريخي ( فهد) كان بائعاً للثلج في الناصري. هذا يعني أن المهنة ستكون وضيعة حين تكون مهنة خصمناء بينما تصبح مُشرفة ومدعاة للفخر حين تكون مهنة زعيمنا.

إذا كانت هذه هي بعض نظرات السياسيين إلى الجماهير وإلى قادتهاء والتي لا يجري التعبير عنها إلا في أوقات الخصومة والنزاع؛ فهذا يعني أن الحزب في قرارة نفسه كان يحتقر الجماهير حتى وهو يقوم بتقديسها علنا. ذلك ما يُفسر لنا على أكمل وجه البعد الحقيقي للسياسة كما فهمها الحزب الجماهيري: إنها نشاط اجتماعي للزج بذوي الأصول الوضيعة: في أعمال عنيفة ضد الخصوم الوضيعيين؛ الذي لا ينتسبون إلى قوميتنا ولا - إلى ديننا - وفوق ذلك يعملون في مهن نحن نحتقرها.

وسوف أسوق الثال الآتى لتعميق النقاش حول جوهر الفكرة الآنفة: 8 شباط / فبراير 2001 كنت في زيارة قصيرة في لندن» عندما علمت أن جماعة عراقية تعمل في حقل الثقافة تنظم في هذا اليوم احتفالاً سياسياً في قاعة همرسمث بلندن مكرساً لتمجيد ذكرى ثورة تموز / يوليو). كان توقيت الاحتفال لافتاأ للانتباه فهو صادف يوم الثامن من شباط / فبراير حيث وقع انقلاب عسكري قاده تحالف بعثي ‏ ناصري ضد قاسم. ولأن هذا اليوم

- 181 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

يُصادف ذكرى مُلتبسة سياسياً ونفسياً بين بعض الجماعات العراقية المنفية المقيمة في لندن؛ فإن اختياره للاحتفال بثورة تموز / يوليوء انطوى على سوء تقدير فظيع؛ فهو - في الأقل ‏ يثير ذكريات مشحونة بعناصر الانقسام والتشظي داخل جماعات تعاني أصلاً من الانقسام؛ بل هي مُنقسمة على نفسها بصورة لا توصف. بيد أن اللافت والمثير للاهتمام في هذا الاحتفال لايقع هناء ولا في هذا الحيز الحدود من سوء التقدير أو الالتباس, وإنمافي اندلاع أعمال عنف داخل القاعة شاركت فيها جماهير حزبية شرسة. أدت إلى وقوع إصابات خطرة تسبب بها المهاجمون من الرجال والنساء.

وقع العنف الجماهيري قبل بدء الاحتفال بدقائق» احتجاجاً على وجود الحاج في القاعة» وخلال دقائق تحول الرجل الذي جاء من باريس للمشاركة في ندوة' ثقافية عن ذكزياته بول الثورة والعنف الذي :رافق مسيرتهاء إل موضوم عنفي أي لعدوان جسدي. وكان أكثر مالفت انتباهي أن المهاحمين كانوا خليطا من الرجال والنساء؛ بل إن النساء هن اللواتى قدن حملة العنف. ينتمى المهاجمون إلى بقايا تنظيم القيادة المركزية» وإلى الجناح الذي قاده الحاج نفسه. وإلى مجموعات تنتمي إلى الحزب القديم ( الجناح اليميني) وبعضهم إلى جمعة ترفع شعارات الديمقراطية. وهؤلاء تلقوا مساعدة مباشرة من تنظيم كردي شديد التطرف أعلن عن نفسه في إيران ثم في لندن» يدعى حزب العمال الشيوعي العراقي ( مؤسسه يهودي إبراني) قاد بنفسه ونظم ال هجوم.

في إطار محاولتنا لتقصي ومعرفة جذور هذا النمط من العدف الممزوج بالاحتقار للأصول الوضيعة؛ والبحث عن بواعثه الجديدة وأسبابه سوف نجد إن الحادث يطرح الدلالات الرمزية السياسية التالية:

- 182 -

الفصل الأول : الأحمسر والأبيض, والأسود

-1

إن العنف الجماهيري الجديد وقع في اليوم ذاته الذي يصادف ذكرى عنيفة وقعت في الماضي. ويبدو أن المهاجمين أرادواء فعلياء استرداد ذكريات العنف القديم قصد مواصلة التشهير بأبطاله» ولكنه انتهى إلى نشوب نوع من العنف بمشاركة حشود كبيرة»؛ ضد خصوم سياسيين يظهرون في صورة أعداء» وهذا ما يُدلل عليه اشتراك أعداد كبيرة من الرجال والنساء في الاحتفال. إن هذه الاستعادة اللا واعية يمكنها أن توضح وعلى أكمل وجه. المغزى الحقيقي للذكريات الراسبة حتى في أذهان جيل جديد؛ لم يتسن له المشاركة في الحياة السياسية في تلك الحقبة. لقد عبرت ذكريات العنف ‏ واجتازت ‏ حاجز الزمن لتصل إلى جيل جديد من السياسيين المنفيين المقيمين في لندن ولتصبح موضوعاً أثيرأ من موضوعاتهم.

رمزياء قام المهاجمون من الرجال والنساء وعبر تفجير العنف داخل القاعة» بإعادة تمثيل لواقعة العنف القديمة؛ وبإعادة رواية لم يتسن لكثرة من المشاركين في الاحتفال أن يعيشوا أحدائها لأنهم ولدوا في المنفى؛ ولكنهم في المقابل» قاموا بتقديم مشهد تمثيلي يُعيد تجسيد الذكرى من خلال لعب أدورا ثماثلة لأدوار آخرين عاشوا تلك الحقبة.وإذا ما علمنا أن معظم المهاجمين هم من أبناء الشيعة ( ومعظمهم من الأكراد الفيلية) فإن هذه المشهدية ‏ المسرحية ‏ الشبيهة بالطقوس الْمستعادة» ستكون تعبيراً لا واعياً وتحريفياً لواقعة استشهاد الإمام الحسين التي يُعيد العراقيون الشيعة تجسيدها كل عام» بكل ما يتخلل ذلك من مشاهد دامية ومأسوية. بهذا المعنى لعبت الثقافة الراسبة( الشعبية) دوراً في تنشيط الميول إلى إعادة تمثيل الواقعة السياسية. إنهم يعيدون رواية مشهد سياسي من عراق

- 183 -

الفصل الأول : الأحمر والأبيض, والأسود

الستينات ولكن في مسرح بريطاني يناضلون فيه من أجل عراق ما بعد عام 2000 وبالطريقة ذاتها: تمثيل العنف.هذه المرة يتخذ التمثيل طابعه كاملا كممارسة واقعية خالية من الإيهام المسرحي. وللمرء أن يقرر أي عراق هذاء الذي يحلم ويرغب به ممارسون وممثلون لذكريات العنف القديم؟

إن الدلالة المباشرة لوقوع عنف جماعي من هذا النوع من جانب جماعات سياسية ضد فرد أعزلء وفي لندن, كافية بحد ذاتها للتعبير عن مغزى تدني روح التمدن وانحطاط السياسة إلى مستوى أعمال عنيفة. فبعد نحو من أربعين عاماً أو أكثر على ذكريات من هذا النوع؛ لا يزال مفهوم السياسة عند العراقيين القاطنين في قلب عالم الحضارة الغربية والتمدن» محصوراً في الإطار القديم نفسه: إنها ممارسة عنيفة ضد خصوم لا يستحقون سوى التشنيع بأصولهم الوضيعة. هذه الطاقة على استزاد العنف وإعادة إنتاجه؛ حتى مع تغير الظروف والأمكنة» تدلل على أن الحياة السياسية العراقية تعاني من خلل بنيوي» يتصل بدرجة أساسية بمفهوم العرقيين للسياسة. وهذا بكل تأكيد هو المفهوم الذي سهرت الأحزاب الجماهيرية عند مهده وقامت برعايته حتى اليوم. ذلك ما سوف نناقشه في الفصل الثاني

- 184 -

الفصل الثاني: الدولة الكاريزمية

كرسي الفرعون وعرش أشور

إن للدول؛ على غرار البشر نصيباً من الكاريزما ‏ الهالة؛ هي خلاصة مزايا مُتراكبة ومُتعددة» قد يكون من بينها فرادة التكوين الجغراني أو الإرث البطولي أو الإرث المعرنيء بحيث أنها تلعب في إطار التاريخ والسياسة أدواراً استقطابية مثيرة وتصبح دولاً قائدة. في سياق هذه الأدوار كما يُبِين لنا التاريخ بجلاء. تنجذب إلى الدول القائدة دول أخرى وجماهير وشعوب أخرىء تنقاد إليها خصوصاً في مراحل الصعود والانتتصارات؛ وقد يصعب أو يكاد يستحيل مع الوقت» حمل القادة والحكومات المتعاقبة على نسيان هذا الدور القيادي أو التنازل عنه. إن العراق التاريخي هو بامتياز عراق كاريزمي نشأ وترعرع في قلب هذه الفكرة عن نفسه. ومع أن العراق التاريخي هذاء لم يعد قائماً منذ وقت طويل وحلّ محله عراق أقل مهابة وثراء وأضعف من حيث ميوله الؤمبريالية الكلاسيكية ‏ مثلما جسدتها الطموحات العسكرية للومبراطوريتين الآشورية والعباسية ‏ فإن لمن النادر رؤية زعيم سياسي أو مواطن عادي في العراق. لا يرى في بلاده دولة قائدة في العالم العربي وربمافي العالم الثالث. والآمر ذاته ينطبق تماماً على مصرء التى تحظى بما يشبه الإجماع عند العرب. منذ بزوغ نجم عبد الناصر السياسي وحتى اليوم كدولة قائدة.إن الزعيم الكاريزمي؛ لا يفعل شيئاً للدولة الكاريزمية سوى مُفاقمة الإحساس بهذا الدور وتصعيده؛ وذلك ما برهنت عليه التجربة الناصرية في مصرء إذ جاء عبد الناصر ليضيف إلى كاريزمية مصر وجاذبيتها التاريخية» بعضاً من جاذبيته وسحره كزعيم. هذه العلاقة بين سحر الدولة وسحر الزعيم» هي التي تفسر الطبيعة الخاصة والمتميزة للأدوار السياسية والتاريخية؛ عندما تلعب دولة ما في

- 185 -

الفصل الثاتي: الدوئة الكاريزمية

عالم السياسة والمصالح, دوراً مُتفرداً وديناميكيأء بأكثر ما تلعبه دول أخرى ربما تكون أكثر ثراء وقوة.

في عالم الدول؛ كما في عالم البشرء لا تكفي القوة وحدها ولا الثراء وحده. ولا عدد السكان أو المساحة الجغرافية بالطبع» للعب دور قيادي؛ فماليزيا مثلاء أكثر ثراء من إندونيسياء ولكن الأخيرة لعبت في الماضي مع سوكارنوء كما اليوم» دوراً قيادياً في آسيا عدم الانحياز وأسيا الثورات الوطنية التحررية بأكثر مما لبعته ماليزيا. والسودان أكبر من حيث المساحة الجغرافية من العراق» ولكن بغداد وليس الخرطوم هي التى كانت تمتلك باستمرار إمكانيات لعب أدوار قيادية. وبينما ليبيا أكثر ثراء من مصر؛ فإن القاهرة هي التي لعبت الدور القيادي وليس طرابلس؛ وسكان المغرب أكثر عدداً من سكان سورية, ولكن دمشق هي التي لبعت دوراً استقطابيا في عالم السياسة العربية وليس الرباط. الحال ذاته مع البشر؛ فالسحر الشخصي للمرء والهالة الروحية وجاذبية الاستقطاب؛ قد لا تتصل كلها لا بمقدار الشروة التى يملكهاء ولا بمساحة البيت الذي يسكنه ولا حتى بقوته. إن المزايا القيادية للدول هي المزايا القيادية للبشرء خلاصة تشابك عوامل متنوعة قد تنحصر في نطاق الكاريزما أخيراً.

هناك اليوم كما في الماضي البعيد؛ دولتان كاريزمينان في العالم العربي هما العراق ومصرء وقد لعبتا على مر التاريخ أدواراً استقطابية شديدة الحدة في بعض الأحيان. وثمة في المقابل» وني الإطار الإقليمي المحيط بهماء دولتا كاريزميتان هما إيران وتركياء يشهد التاريخ بوقائع لا سبيل إلى نكرانها» كيف أن تنافسهما على المصالح والنفوذ والاستقطاب السياسي كان مجبولاً بالدم. هذه الفكرة وثيقة الترابط بموضوعة الحزب الجماهيري في العراق وفي صميمهاء

- 186 -

الفصل الثاني: الدوئة الكاريزمية

كما أنها شديدة التلازم بمادة الصراعات التى فجرها الشيوعيون والبعثيون والقوميون الناصريون حول الوحدة مع مصر منذ نهاية الخمسينات في القرن الماضي» ولا تزال أصداؤها تتردد حتى اليوم في الفكر السياسي العراقي؛ وكأنها صراعات قائمة ومستمرة باستمرار أبطالها. ولذلك فسوف يتم تناول صراعات تلك الحقبة من التاريخ الاجتماعي والسياسي في العراق» والتي دارت وتركزت في الجوهر حول مسألة الوحدة مع مصرء من منظور جديد ومغاير سيّلاحظ بداهة كيف أن الصراع الْمتفجر كان يستعيد في الواقع بعضاً من تقاليد صراع غابر سبق له وأن نشبء مراراً وتكراراً بينهما في مناطق نفوذ كثيرة» وما كان له أن ينتهي إلا مع سقوط بابل ثم اندثار مصر.

ليس من دون معنى أن مصر والعراق تقاسمتا في العالم القديم» السلطة والنفوذ في أراض شاسعة تمتد حتى السواحل الجنوبية الغربية للجزيرة العربية» ركان كرسي الفرعون مثلما هو الحال مع عرش العاهل الآشوري. يحكم بالمقدار ذاته من اليبة شعوبا وجماعات لا يجمعها جامع بجغرافية مصر أو بابل الحديئة. ومع ذلك فإن الحقيقة التاريخية المؤكدة» هي أن مصر لم تكن في تاريخها دولة إمبراطورية قط. إن ميولما الإمبريالية لم تتشكل أو تنبلور في صورة تمددات استيطانية أو سياسية؛ ولكنها لعبت بفضل حضارتها العظيمة دورا تنافسياً هائلاً من حيث الزخم والقوة؛ مكنّها من تقاسم الثروة والنفوذ مع بابل. إن حيوية الميول الإمبريالية في مصر القديمة؛ ستبدو أضعف مما هي عند الآشوريين الذي بلغ بهم تهورهم العسكري مرات عدة» حد مهاجمة ساحل الإسكندرية. ومما له دلالة في هذا السياق أن التاريخ العسكري للحضارتين المصرية والعراقية» هو تاريخ صراع وتلاق في الآن ذاته. ولكنه لم يبلغ في أي وقت إلا في ظل الإسلام؛ درجة الاتحاد أو الوحدة حين خضعت مصر لسلطة

-187-

الفصل الثاني: الدولة الكاريزمية

العباسيين في بغداد. بينما على العكس من ذلك لم ينسن لمصر حتى في أوج عظمة الفاطميين أن تحكم العراق من القاهرة» أو أن تدمجه في كيانها السياسي الوحدوي. ولذلك مهد سقوط بغداد عام 1258 في يد المغول؛ السبيل أمام دور جديد للمماليك في مصر على طريق استرداد دورها التاريخي. هذا الدور الذي سوف يتجلى بكل أبهته الإسلامية مع غياب بغداد عن المسرح؛ يكشف عن معنى التنافس بين البلدين وعن مغزى تعثر محاولات توحيدها الإداري أو السياسي.

شكلت هزية ثم انكسار الموجة التتارية في معركة عين جالوت انتصاراً مصرياً لامعأ سوف يفتح بنتائجه وتفاعلاته التالية السّبل أمام بزوغ نجم محمد علي باشا 1831 - 1841» والذي تجلت طموحاته العسكرية والسياسية في الفكرة ذاتها: استرداد دور مصر بعد غياب العراق عن المسرح. في هذا الوقت عام 0آظ1

- كان للعراق محمد علي باشاء ممائل تماماً في إصلاحاته وطموحاته وكاريزميته للوالي المصري يدعى داوود باشاء وكان من المماليك الذين ولدوا في تفليس عاصمة جورجيا ( السوفياتية تاليأ). وحين كانت بغداد في العصر الحديث؛ تئن تحت وطأة الاحتلال البريطاني» كان نجم عبد الناصر من هذه الزاوية» وكما افترض أحد الكتّاب وهو على حقء أول خروج لمصر النهرية باتجاه البحرء وذلك حين راحت كتائب بعد الناصر تقاتل في اليمن وسياسيّوه في سورية والعراق ودبلوماسيوه في أسيا وأفريقيا. وفي هذا الوقت أيضاً بزغت كاريزمية عراقية موازية مع صعود نجم الضابط عبد الكريم قاسم.

من هذا المنطون: فإن الؤحدة مع عضر :وبالضورة الى افترحها القوميون والبعثيون؛ وخاضوا نضالاً وصراعاً دامياً ضد الشيوعيين في سبيل إنجازها

- 188 -

الفصل الثاتي: الدوئة الكاريزمية

فوريء لم تكن مُمكنة؛ قطء ولا بأي شكل من الأشكال. وقد لا تكون مُمكنة كذلك في المستقبل إلا إذا صدرت عن العراق لتنطلق نحو مصر وليس العكس .ولعل تجربة الإسلام التاريخي جديرة بأن ينظر إليها من هذه الزاوية؛ كوحدة كبر للبلدين والحضارتين القديمتين» ما كان لما أن تتحقق وتُنجز في صورتها التاريخية» إلا بعد صعود دور بغداد كدار للخلافة الإسلامية في العصر القناضي عن خرى الاق معت رإدارة خرا ها اميك اخلياتة في ينداف وإنما باسم دولة الإسلام الكبرى. وإذا ما عدنا إلى حقبة نهاية الخمسينات من القرن الماضي في العراق؛ فسنلاحظ أن القوميين والناصريين والبعثيين العراقيين» هم الذين اظهروا حماسة للوحدة بأكثر مما اظهر المصريون وعبد الناصر نفسه؟ ولعل مذكرات الكثير من السياسيين العراقيين» والتي تناولت شهاداتهم هذه الحقبة» تشير في مجملها وبقدر مذهل من الصراحة والوضوح - كما فعل طالب شبيب مثلا إلى أن عبد الناصر ظل مُتحفظأاً إلى النهاية؛ إزاء حماسات البعثيين العراقيين للوحدة. ولطالما نصح بأن يتريث هؤلاء. لأن إنجازها أمر محفوف بالمخاطرء على الطرف الآخر كان المشروع النظري للوحدة؛ يبدو وكأنه محكوم بعامل التنافر بين كاريزميتين وقفتا مُتخاصمتين دون هوادة» أحداهما على ضفاف النيل والأخرى على ضفاف دجلة والفرات؛ بينما راح الأنصار والمعجبون المسحورين المتعجرفين» يخوضون بالنيابة عن قاسم وناصر معارك طاحنة لا سبيل إلى حسمها بالقوة. لقد عبر صدام حسين ذات يوم, بقدر كبير ومدهش من المكاشفة والصراحة؛ عن المواجس الحقيقية التى تنتاب الحاكم العراقي؛ حتى وإن كان حاكماً قومياً وعروبياً بعثياً أمضى حياته في سبيل النضال من أجل الوحدة؛ حين قال في مؤتمر للسفراء العراقيين عام 1979 ردأ على سؤال حول الوحدة: ( إذا كنا مُسيطرين فأهلاً بالوحدة). - 189 -

الفصل الثاني: الدولة الكاريزمية

إن هذه الفكرة الساطعة عن السيطرة والنفوذ المطلق الذي يرغب به العراق» والملخصة بأبلغ ما يمكن من الصراحة هي الت يتعين التوقف عندها؛ فالعروبي الوحدوي العراقي لا يستطيع في النهاية» تخيل الوحدة العربية إلا كمنطلق لسيطرة بغداد» إنها لا تعنى سوى تمكين العراق من السيطرة على مصر واعترافها بقيادته؟ في هذا السياق يروي صفاء الفلكي سفي العراق في هولندا ‏ والذي أصبح لاجئاً سياسياً فيما بعد في حديث مع علي كريم سعيد وهو من البعثيين العراقبين الموالين لسوريا ( انظر: هامشء حور المفاهيم: 5) إن صدام حسين قال في معرض حديث عن الوحدة مع سورية ما يلي: ( إن البلد الأكبر والذي فيه إمكانيات وثروات أكثر يجب أن يُسيطر. وبغداد هي عاصمة الوحدة). إن تأملاً أكثر موضوعية في هذه المقتطفات من حديث الرئيس العراقي صدام حسين» سوف ذلل على الفكرة التالية: إن الحاكم العراقي القوي مهما كان دينه ومذهبه ولون عقيدته السياسية» سيفكر تلقائيا بأن الوحدة لا تعنى شيئاً آخر لديه سوى عودة بغداد كعاصمة للخلافة. بينما يمكن لحاكم عراقي ضعيف أن يرى في حلم الوحدة مع مضر مشروعاً قابلاً للتحقق على أساس مقلوب: خضوع بغداد لمصر. على هذا النحو يمكن رئية نمط من تقسيم ميكانيكي تتوزع عليه فكرة الوحدة مع مصر: بالنسبة للحاكم العراقي القوي والطموح؛ هي فرصة سانحة للسيطرة» فيما هي بالنسبة للحاكم العراقي الضعيف فرصة للخضوع.

ليس صدام حسين وحلده أسر الفكرة القائلة - بشيء من العغنجيهة ربما -: أهلاً بالوحدة إذا كانت تعني أننا سنفرض سيطرتنا؛ بل الجتمع السياسي العراقي نفسه. هذا الجتمع الذي تكون في ظل عقدية القوة؛ هو مَنْ يبدو أسر الفكرة ذاتها أيضاً. على الطرف الآخر عبر جمال عبد الناصر عن هذه الفكرة

- 190 -

الفصل الثاتي: الدوئة الكاريزمية

ولكن بطريقة أكثر لطفأ وأريحية. يروى طالب شبيب ( ص: 222) القصة التالية: إنه ذهب إلى مصر عندما كان في قيادة البعث وزيراً للخارجية؛ برفقة الرئيس عبد السلام عارف في أعقاب انقلاب شباط/ فبراير 1963 ومصرع قاسم. وكان معه حازم جواد الوزير والقيادي البعثي. فضل عبد الناصر استقبل ضيوفه الوحدويين القادمين من بغداد والمحملين بدعوات الوحدة الفورية مع مصر؛ في الإسكندرية وليس في القاهرة. ( وكأنه يعيد تذكيرهم من الناحية الرمزية بالصراع على الساحل المصري مع أجدادهم في أشور) ولذا اصطحبهم في رحلة بالقطار إلى هناك.

كانت هذه هي المرة الأولى لعارف؛ التي يزور فيها مصر منذ أن أصبح رئيساً للجمهورية. م يكن عارف زعيماً كاريزميأء وعلى العكس كان يفتقد الجاذبية في شخصه ويظهر في حالات غير نادرة كرجل شديد العفوية في تصريحاته» على نحو يفضح ثقافته السياسية الهزيلة وفظاظته. ولكنه في المقابل» أثار إعجاب خصومه وأصدقائه على حل سواء» برجولته وشجاعته وبروحه الوطنية الوثابة» وهذه مكنته من أن يلعب دوراً حاسماً في الثورة العراقية. وبالإضافة إلى الزوار اصطحب عبد الناصر معه» صديقه الحميم المشير عبد الحكيم عامر وعلى صبري وعبد اللطيف البغدادي ونائبه حسين الشافعي وزكريا حي الدين. أثناء الرحلة ترك الوفدان زعيميهما ينفردان. بيد أن جواً من عدم الارتياح؛ وانعدمت فيه الحيوية فوق ذلكء سرعان ما ساد بين الرجلين بينما كانت عربات القطار التي تجمّع فيها أعضاء الوافدين تضج بالمرح. ولذا كان عبد الناصر يختلس اللحظات ليغادر مكانه؛ تاركاً عراف وحيداً في مقعده؛ ليمضي بعض الوقت مع الوفدين ويشاركهما المرح

- 191 -

الفصل الثاتي: الدوئة الكاريزمية

والضحك. كان عبد الناصر كما لاحظ شبيبء بالكاد يخفي برمه من ضيق أفق عارفء وفي تلك الرحلة طلب عبد الناصر:

اللقاء بناء أنا - طالب شبيب ‏ وحازم على انفراد؛ فانتظرنا حتى الواحدة بعد منتصف الليل» وكنا خرجنا من داره مع عبد السلام ‏ عارف ‏ الذي أوصلناه إلى مقر إقامته. وانتظرنا قليلاً ليخلد إلى النوم» لنعود مرة أخرى إلى معمورة ونستأنف جلستنا دون عارف وهناك قال لنا عبد الناصر: أنتم رجال وطنيون. أثق بكم ثقة مطلقة» وأنا على استعداد أن أسلمكم حكم مصر. لكن هذا الكرسي المصري عمره آلاف السنين» جلس عليه فرعون. فاستفيدوا من ذلك؛ استفيدوا من ثباته وقوته واعتبروا استقراري عليه ضمانة وصيانة وحصن لكم. أما كراسيكم فهي مُزعزعة تهددها الانقلابات والمؤامرات الداخلية والخارجية. والشيء الثاني الذي أطلبه منكم أن تكونوا جسوراً ينا وبيق شورية فتحق. لارلريك أن ارت أسوزية وبعضي النظر عن ما يقوله أخونا أمين الحافظ أو غيره نحن نريدكم جسورا إليها عبر العراق؛ فأعملوا ما شئتم ولكن ابقوا على شيء واحد هو التضامن الثوري بين مصر والعراق وسورية.

سمع طالب شبيب مندهشاً كلمات عبد الناصر هذه ففكر حيتئار بأن بلاده هي أيضاً بلاد عريقة» وفيها عرش أشور وعمره آلاف السنين:

فكرت حينها بأن العراق ( بلد ) عريق أيضاً وعنده سبعة ألاف سنة من التاريخ» ولكننيى أدركت واقعية كلامه ‏ عبد الناصر ‏ لأن العراق كان فعلياً بلدا مهزوزاً وبلا زعامة أو مرجعية سياسية مُتفق عليها ويعيش انقلابات وصراعات واغتيالات وتلعب بمصائره أيل خفية.

- 192 -

الفصل الثاتي: الدوئة الكاريزمية

هذا الاستذكار للتاريخ القديم والغابر» وفي خضم حديث مشحون بالعواطف عن مشروع الوحدة ليس دون معنى, لأن ماضي البلدين الكاريزميين هو الذي كان يقود اتجاهات الحديث المتبادل ويبلورها وليس الحاضر. كان التاريخ حاضراً بقوة وروحه ترفرف حول المكان. وبتحليل نص عبد الناصر من المنظور الرمزي؛ فإن الحوار حول الوحدة لم يكن يجري بين عبد الناصر وعارف؛ ولا بين ملكين أحدهما فرعون مصر والآخر عاهل إمبراطوري ن أشور؛ بل بين عرشي هما كل ما تبقى من التاريخ.

في كاريزما الكراسي والعروش هذه ء الساحرة والمهيبة» يكمن لب المعضلة. صحيح أن عبد الناصر مُستعد لأن يقبل - نظرياً ‏ ببغداد قائدة للوحدة بما هي دار الخلافة الإسلامية ووريثة بابل القوية» ولكن الصحيح أيضاً أن هذا الوريث بات من الضعف والموان» بحيث أن عرشه يمكن أن يُطوح به في الهواء مع أول انقلاب داخلي أو خارجي. تلك هي نبوءة عبد الناصر الذي أدرك بحصافة لا مثي, أنهاء أن إغراء الوحدة مع العراق» وحيث تتعالى هتافات العراقيين باسمه بعد إعدام قاسم ومطاردة فلول الشيوعيين؛ لن يحجب عن أنظاره الحقيقة المرة التالية: لقد كانت بغداد في مهب الريح وعرش أشور عُرضة للزوال؛ بينما كان كرسي الفرعون ثابتاً في الأرض ينغرس بقوة في رمال الجيزة مثل تمثال أبي الهول. فهل أدرك عبد الناصرء مع نهاية قاسم كزعيم كاريزمي أن بغداد كانت تدخل فعلياً مرحلة احتضار طويل؟ وأنى مصرع قاسم ربما يكون قد أفضى فعليأء لا إلى دور الجسر عارض مشروع غير واقعي للوحدة بين البلدين؟ وأنه لهذا الغرضء لا يريد من قادة البعث سوى لعب دور الجسر بين مصر وسورية؛ لا الوحدة الفورية مع العراق ولا الاتحاد

- 193 -

الفصل الثاتي: الدوئة الكاريزمية

الفدرالي معه؟ وأن كل ما يطلبه منهم هو أن يحولوا دون تدهور العلاقات مع دمشق» وأن يسعوا إلى ترميم الصدع في جدار العلاقات معها.

كان عد اللامشرلى الشترية يدرف قا تررق الجائيع المصري وتقاليده» فلمصر هوى ( شامياً) قديماء مُ: مُنعشأ رقيقاً وعذباً يضوع في أرجاء الماريخ ميد غيم على يال وبطبيعة الحال؛ فإن مصر المتوسطية كانت أ:ئر انسجاماً مع سورية المتوسطية؛ منها إلى عراق حائر عند شواطئ الخليج العربي تتقاذفه أمواج عاتية. أدرك البعثيون فور وصولم إلى السلطة» بعد مذابح وجرائم بشعة ارتكبت ضد الشيوعيين في العام 1963؛ أن الحفاظ على السلطة وحماية النظام» يتطلبان القيام بتدابير مائلة تماما للتدابير التي قام بها خصومهم الشيوعيون: تسليح الجماهير وتحويلها إلى ميليشيات مسلحة. كانت فكرة تشكيل كتادب مسلحة امن الحمافير الحزبية السلحة بالتقيندة العزوبية: جفابة إعادة إنتاج للفكرة ذاتها عن الجماهير كما قدمها الشيوعيون؛ ولكن هذه المرة بتصعيد درجة ومستوى العنف. وهذا ما حدث بالفعل» حين راحت مليشيات الحرس القومي تمارس أبشع الجرائم وتواصل صناعة الاستبداد باسم العقيدة.

وبالطبع تلات بسرعة وعود البعث للمجتمع بالتخلص من دكتاتورية قاسم وفرديته وتأسيس حكم ديمقراطي. وابتداء من اليوم التالي لانقلاب 8 شباط / فبراير» ظهرت مجموعات مُسلحة أنزلت الرعب في قلب الشعب. كما أدركوا في المقابل» أنهم سوف يسيرون على الطريق ذاته الذي سار عليه خصومهم. في ما يتعلق بقضية الوحدة مع مصر والموقف منها: لقد ساروا كار وتثاقل وراحوا يبخلون عن أعذان للتتصل مسن فكرة الوحدة الفورية واقعياء بينما يكتفون نظريا بالشعارات الحماسية. وبدلا من دكتاتورية قاسم وفرديته؛ أقام البعثيون دكتاتوريتهم الخاصة والثورية وغير المسبوقة. وبدلاً من

- 194 -

الفصل الثاتي: الدوئة الكاريزمية

تردد الشيوعيين حيال فكرة الوحدة مع مصرء أصبح البعثيون يملكون مبرراتهم الخاصة للتردد. على هذا النحو أصبح الاستبداد الجديد ثمرة الزواج لسري بين العقيدة الانقلابية ومليشيات الحرس القومي. كان عبد الناصر يراقب عن كثب نتائج تدخل مصر في المعركة البعثية - القومية ضد قاسمء وها قد أفضت المعركة إلى قتل قاسم ووضع حد للنفوذ الأحمر في العراق. فهل بات طريق الوحدة ثمهدا؟.

كانت النخب الفكرية والسياسية المصرية العروبية تفتش في التاريخ وفي حيز الخصائص الجحغرافية للبلدين كذلك؛ عن مصادر تمائل وتشابه يمكن أن تساعد في تبرير قيام الوحدة. وسيكتب جمال حمدان الجغرافي المصري الشهير» واحدة من أهم دراساته ( مجلة الفكر المعاصر المصرية» العدد 12 شباط / فبراير1966: حول وحلة الرافدين والنيل) متغنياً باللقاء الموعود بين بغداد العباسية والقاهرة الفاطمية» وممجداً فكرة الوحدة كوعد بالخلاص وبقيام قوة عربية هائلة. كان جمال حمدان يفتش في جغرافية البلدين عن خصائص ومزاياء يمكن أن تضعهما ‏ مصر والعراق ‏ على طريق المشروع الوحدوي.وبوصفه كاتباً عروبياً تقدمياً مختصاء فقد كرس دراسته الرائعة تلك للتأمل في ما أسماه عبقرية المكان في العراق» على غرار ما فعل في كتابه الشهير عبقرية المكان في مصرء لاحظ حمدان في مقدمة دراسته: أن ما من قطر عربي على مدى التاريخ» عرف من التقلبات العنيفة في مقدراته ومصائره؛ في أقداره وقواه» مثلما عرف العراق. ومع ذلك ( فقد تغلبت قوة الجاذبية العربية المركزية الأصلية على كل القوى الطاردة) وتمكن العراق من الخروج بدور استراتيجي في الوطن العربي.

كما أخفقت كل المحاولات الرامية إلى إدخاله في فلك الحند في العشرينات والثلائينات من القرن الماضيء وهي ذروة السياسات الاستعمارية

- 195 -

الفصل الثاتي: الدوئة الكاريزمية

التي سعت( إلى تهنيد - من اطند) العراق بتهجير بضعة ملايين من المنود إليه؛ أو بربطه بقوى غرب آسيا لإبعاده عن محيطه العربي وضمه إلى ميثاق سعد آباد مع إيران وأفغانستان» ثم حلف بغداد مع تركيا وباكستان.

وحين ألقى حمدان نظرة فاحصة على جغرافية العراق» قصد البرهنة على عبقرية المكان العراقي, لاحظ أن هذا البلد وبحكم قاعدته الأرضية الفيضّية هو قوة بر أساساً. وأن حدوده الراهنة والتى تأخذ رقعته السياسية في إطارها شكل حرف [[ الإنكليزي تجعل من هذا البلد كما لو أنه يبدأ عريضاً في الشمال ثم ينتهي مسحوبأ إلى الجنوب» ولكن من دون أن يرتكز إلى جبهة بحرية؛ بل إلى كوة مائية ضئيلة لا تزيد عن 60 كم من مجموع سواحل العرب البالغة مساحتها نحو 14 ألف كيلومتر. وإذا ما علمنا أن مساحة العراق تبلغ زهاء 444 ألف كمء وإن طول حدوده البرية لا يقل عن 3500كم ( أدركنا على الفور إن العراق دولة شبه داخلية شبه حبيسة بكل معاني الكلمة). طبقاً هذه النظرة الجغرافية سيتبدى العراق في نظر جمال حمدان, بالفعل» كقوة بر. أو بحسب تعبيره دولة شبه بولندية تكاد تختئق لولا كوة ضيقة على الخليج العربي» على العكس مما هو الحال مع مصر. حاول جمال حمدان تخطي هذه العقبة في تحليله للخصائص الجغرافية الجامعة. بإعطاء الوحدة بين البلدين إمكانية افتراضية أكبر على سدّ الفراغ الجغراني» فالوحدة سوف تعطي العراق إمكانية أن يكون جزءاً من جسم بحري كبير» كما أن الوحدة المرتقبة جديرة بأن تصحح كثيراً من الاختلالات في القوة السكانية» لأنها:

ستنقل حدود مصر تلقائياً إلى جنب تركيا وإلى ضلوع إيران وستصبح الجمهورية العربية المتحدة أكثر سكاناً من أي منهما بدرجة كبيرة: 37 مليوناً مقابل 25 مليوناً ( إحصائيات العام الذي كتبت فيه الدراسة).

- 196 -

الفصل الثاتي: الدوئة الكاريزمية

من الناحية النظرية وطبقاً لهذا التصور عن العلاقة بين البلدين» وكما تخيل حمدان, فإن الانحدار الجيوبوليتيكي سوف ينقلب بسهولة لصالح العراق. بيد أن مثل هذا الانقلاب ما كان له أن يحدث» وبمثل هذه السهولة على أرض الواقع» أو أن يسير على غرار السهولة التى سار فيها عالم التصورات النظرية. إذ بينما كان جمال حمدان يضع الخطوط العريضة لدراسته هذه في ربيع عام 3. كان الشاه الإيراني يتابع بقلق الأنباء الأولى عن التقارب المصري - العراقي. وقد لاحظ وميض عمر نظمي ( أستاذ الدراسات السياسية في جامعة يعدا والقياذي :الشركة الشرعية بجريدة القتلامن العريني 2 لعترن: 28-97 يناير// كانون الثاني عام 1996 أعيد نشرها في الملف العراقي: لندن العام 7 العدد 61) أن الخطر الإيراني على العراق تعاظم في هذا الوقت؛ واتخذ أشكالاً احتجاجية على نو العلاقات بين البلدين. وإزاء ذلك سارعت بغداد العارفية إلى الطلب من عبد الناصر إرسال قوات عسكرية مصرية ( لتقترب من ضلوع إيران) كما تخيل جمال حمدان. بيد أن عبد الناصر أظهر حذراً محسوباً وكافياً حين امتنع عن الاستجابة بسرعة للطلب العراقي؛ ذلك أن الاقتراب ‏ نظريا ‏ من ضلوع إيران الشاهنشاهية؛ كان يحمل في طياته مخاطر لا حصر لا على مصر. وبعد تردد وافق عبد الناصر بشروط على إرسال قوات مصرية» ولكن من دون أن تقترب من ضلوع إيران. يكتب وميض قائلاً:

وعشية وصول القوات المصرية للعراق»؛ اتخذت هيئة الأركان العراقية قراراً بتمركز هذه القوات في الموصل - المحاذية لكردستان العراق -. وفض عبد الناصر ذلك بشكل مطلق مهدداً بسحب القوات ومُحذراً من مغبة تحويل القضية من خلاف داخل العراق» إلى صراع عربي ‏ كردي؛ يعصف بروح

- 197 -

الفصل الثاتي: الدوئة الكاريزمية

التضامن بين شعوب المنطقة ويكون له أخطر الآثار في تحويل الخلاف إلى صراع قومي لا أساس له إطلاقاً.

كانت نظرات الجغراني المصري التفائلة» إذأ» تصّوب نحو حلم عروبي محفوف بمخاطر لا تحصى. ففي هذا الوقت كان الاقتئال بين أكراد العراق والحكومة المركزية» والذي اندلع مجدداً في أيلول / سبتمير من العام 1961 قد تفاقم بصورة محزنة. ومع صعود عارف الأول اتخذ الاقتتال طابعاً جديداء أصبحت القضية الكردية بموجبه قضية ومشكلة تفوق إمكانيات النظام الجديد على حلها أو السيطرة عليها. لم يلاحظ جمال حمدان وهو يضع أفكار دراسته هذه؛ ابتداء من ربيع العام 1963 أن الوحدة المصرية - العراقية الموعودة» سوف تكون وجهاً لوجه أمام مشكلة داخلية شديدة التعقيد يختلط فيها العامل الخارجي الإيراني بالعامل الثقاني الداخلي ( الكردي ). مع ذلك؛ فإن فكرة اندماج أكبر قوتين في الوطن العربي مضت قدماء أو كان يجب أن تمحضي قدماً في التنظير الجغرافي لأنها تضم:

القطبين اللذين تبادلا مركز الثقل في العروبة بالتناوب عبر التاريخ ( .....) - سوف - تسقط نهائياً وإلى الأبد دعوى ودعاية الاستعمار الفجة السقيمة عن تنافر ‏ القطبين الجغرافيين تاريخياً.

هل كان هذا التنافر الجغرافي بين مصر والعراق من المنظور التاريخي» هو مجرد اختراع استعماري؟ من الواضح أن أجواء الحماسة للوحة؛ والتى يستحيل علي - اليوم كما بالأمس - إلا أن أكون من طلابها ومن دعاتها؛ كانت تلقي بظلال كثيرة من التفاؤل على كتابات الكتاب والمحللين. وفي سياق هذه الحماسة جرى إسقاط سلسلة من التمنعات الداخلية» التى كانت تحول دون

- 198 -

الفصل الثاتي: الدوئة الكاريزمية

قيام الوحدة. هل كان التنافر في الشخصية المصرية والعراقية والمكانين العبقريين مصر والعراق خلاصة ادعاء استعماري؟

أم أنه على العكس من ذلكء كان خلاصة مكونات تاريخية وجغرافية جعلت البلدين» وبالتالي الدولتين العراقية والمصرية على حد سواء, في قلب حقيقة جديرة بأن يُنظر إليها بواقعية أكبر؟ إنها الحقيقة القائلة ببساطة: إن لقاء الدولتين - البلدين الكاريزميين» سيتطلب تنازلاً مستحيلاً ومن نوع ماء يقبل أحدهما ومن دون تمنع سياسي أو ثقاني» بخضوعه غير المشروط لقيادة الآخر. وهذه معضلة أبعد ما تكون عن كونها اختراعاً إمبريالياً. بالطبع لا يعنى هذا أن الوحدة لم تكن من المحرمات بالنسبة للغرب» كما لا ينفي أو يقلل من قيمة التآمر الذي قام به المستعمرون منع أين تقفارب بين البلدين. إن ما تناقشه الفكرة يتصل بأمر آخر: لم تكن الوحدة بين البلدين بالمعنى الجديد الذي طرحته ضرورات مجابهة الاستعمار» أمرأ محققأ في الماضي إلا في سياق مختلف كل الاختلاف عن السياق الراهن. إن استرداد التاريخ للبرهنة على إمكانية قيام الوحدة» يجب أن يلتزم بقواعد للمقاربة بين أوضاع الأمس والحالة الراهنة.

بكلام أخر: إن فكرة الوحدة العراقية ‏ المصرية هي فكرة حديثة؛ ولم تكن مسألة مطروحة أو مشهودة في التاريخ؛ إذ لم يعرف العرب في تاريخهم مثل هذه الوحدة إلا في إطار اعم هو الدولة الإسلامية» وهذه لم تتحقق في صورتها التاريخية إلا مع الإمبراطورية العباسية. أي عندما أصبحت مصر جزء من الإدارة السياسية العباسية» تدار شؤونها بوساطة أحد الولاة لا باسم حزب أو زعيم عراقيء إنما باسم الإسلام العروبي.

- 199 -

الفصل الثاني: الدوئة الكاريزمية

في سياق النظرات المتفائلة للوحدة» قبل وبعد انقلاب شباط / فيراير 3 ثم نسيان الحقيقة التالية: إن التنافر الكاريزمي بين البلدين لم يكن اختراعاً استعمارياًء وإن تخطي سلسلة من العقبات الأخرى على مستوى المكونات التاريخية؛ وطبيعة الشخصيتين العراقية والمصرية» كان يفوق إمكانيات وطاقة وقوة أي حزب أو نظام سياسي. حتى عبد الناصر نفسه أدرك منذ وقت مبكر أن هذا الحلم سيظل عصياً على التحقق. ولذا أبدى في مناسبات مختلفة رغبته في طي صفحات النقاش حول الوحدة. وفي أول زيارة رسمية لهم إلى مصر بعد الانقلاب» كشف عبد الناصر للقادة البعثيين عن حاوف حقيقية تتجاوز حدود هذا التنافر. وحدث أثناء غداء عمل مع الوفد العراقي الزائر» أن أحد أعضاء الوفد قال تخاطباً عبد الناصر بشيء من الحماسة:

( سيادة الرئيس. كانت الوحدة أملاً تاريخياً لو تحقق بيننا فستقوم لأول مرة منذ الخلافة العباسية وحدة تضم عواصم الفاطميين والعباسيين والأمويين - من حوار المفاهيم» ص: 223) فقال مخاطبا صاحب الاقتراح:

نعم. ولكن هل تدرك أن الاستعمار لا يسمح بذلك؟ حتى الاتحاد السوفياتي سيزعجه الأمر. هذا حلم. سيتآمرون علينا بشدة لمجرد إعلانه وسيحاولون إسقاطكم أو إسقاط الوضع في سورية (.. ) الوحدة بذاتها ليست عملاً سهلاً الوحدة حلم؟ إلى ماذا تشير هذه الوقائع؟ لماذا تردد عبد الناصر آنئذ» في التجاوب مع الضغوط العراقية؟ من الصعب ردٌ الأمر برمته إلى أجواء إخفاق وفشل الوحدة المصرية ‏ السورية وحسب؛ والأجدى أن يُردٌ إلى إدراكه المبكر أن التنافر بين كرسي الفرعون وعرش أشورء هو من الناحية الرمزية» تواصل لتنافر آخر بين كاريزميتين؛ رأى الجغرافيون المصريون فيهما تجسيداً لدولتين ومكانين عبقريين أو لعبقريتين جغرافيتين. يعنى هذا أن

- 200 -

الفصل الثاتي: الدوئة الكاريزمية

الصراعات الدامية التى خاضها البعئيون والقوميون ضد الشيوعيين وقاسم ومن أجل الوحدة هي صراعات عبئثية خالية من أي مضمون واقعي أو حقيقي» وأنها دارت حول حلم؟ وإن حرب عبد الناصر ضد قاسم لم تكن في حقيقتها لتنجاوز حدود أضعاف واستبعاد الكاريزمية العراقية من طريق الكاريزمية المصرية الصاعدة. وبالتالي؛ فإن فكرة الوحدة الفورية لم تكن سوى ذريعة استخدمها الفرقاء في صراعاتهم الدامية» وكانت الجماهير فيها أكثر شبهاً بكتلات بشرية بلهاء ومخدوعة؛ فالزعماء أنفسهم يعرفون أن الوحدة مستحيلة؟. بيد أن هذا الاستنتاج يتطلب مع ذلكء الإقرار بحقيقة أن الوحدة العربية ستظل مطلباً حقيقياً وحلماً عظيماً من أحلام العرب.

واليوم يتين كم كان أجدى للمناضلين من أجل الوحدة أن يطووا بوسائل سليمة» كل أشكال التقارب والتضامن تامأ كما حلم عبد الناصر؛ فهذا هو السبيل الوحيد والحقيقني الذي سيمكن الغرب مين يلوغ المدف المنشود. لقد كان استعجال تحقيق اللهدف بوسائل ثورية وعنيفة» يرتطم بمصاعب متولدة لا عن ظروف محلية أو دولية وحسب. وإنماعن مشكلات عميقة في التكوين الثقافي وعن تبدل في طبيعة العصر؛ إذ كان القرن العشرون الذي اجتاز العرب نصفه الأول بشورات الاستقلال» قرن تمزق الكيانات الكبرى ولم يكن عصراً وحدوياً.ولئن تراءى عبد الناصر في أعين العرب المتلهفين لاسترداد مجد القوة والهيبة والدولة الواحدة الإمبراطورية الممتدة من مراكش إلى البحرين؛ في صورة بسمارك عربي, أو تراءى العراق نفسه في ما بعد» في صورة بروسيا العرب؛ فإن العصر لم يكن لا عصر بسمارك جديداً ولا عصر بروسيا جديدة بكل تأكيد.

- 201 -

الفصل الثاني: الدولة الكاريزمية

الاستبداد صناعة جماهيرية حروب الكاريزما

في إطار العلاقة ا لتبسة بين الحزب والجماهير والتى يكون مدخلها في العادة, صعود زعيم كاريزمي قادر على تهييجها وقالنياء تنبني الأخلاقية الأولى للاستبداد ويتم تبريرها وتسويقها وعرضها على المجتمع كخيار تاريخي. إن النموذج الإيراني بالنسبة لناء هو الأكثر قابلية من هذه الزاوية» لإعادة طرح المشكلة؛ فهذا النموذج لا يزال جذاباً ومُغرياً في العراق وإلى حدر ما في الكثير من الأقطار العربية» خصوصاً مع صعود أدوار الأحزاب الدينية العراقية سقوط بغداد في 9 نيسان 2003 (١‏ الدعوة الإسلامية» المجلس الأعلى للثورة العراقية» منظمة العمل الإسلامي) ولذلك سوف نرسم إطار فكرياً وتاريخياً للعلاقة بين الجماهير ورجال الدين كما قدمت نموذجه الثورة الجماهيرية الإيرانية.

م وات اللخمينة مل الأيام الأولى للشورة؛ كظاهرة جماهيرية كبرى من ظواهر نهايات القرن العشرين؛ تجلت وتجسدت فيها ومن خلالههاء كاريزمية إيران بأسطع صورها التاريخية وغير المسبوقة» ربما منذ عصر قورش قاهر بابل العظيمة؛ الذي أمكن له إزاحتها من طريق الإمبراطورية الفارسية نحو 539 ق.م إن انشداد الإيرانيين وتعلقهم بالثورة وبالخمينى ومسارعتهم إلى المشاركة فيها منذ اللحظات الأولى لتجرهاء كان التعبير الفعلي عن طول انتظار الشعب الإيراني للقائد الكاريزمي؛ الذي سيُضفي على الدولة شيئاً من سحره الشخصي. وهذا ما يُفسر حجم المشاركة الشعبية والسقوط شبه الجماعي للنخب السياسية والثقافية في شراك وسحر الزعيم؛ بل وفي غرامه لا في إيران وحدها وإما في عموم العالم العربي أيضاً. وعلى وجه التحديد؛ كان هذا الغرام

- 202 -

الفصل الثاتي: الدوئة الكاريزمية

المرضي بسحر الخميني يتجلى في أوساط المثقفين اليساريين العرب في صورة إعجاب وولاء بلغا حدّ الإيمان به كمخلص أسطوري.

عندما اندلعت الثورة الجماهيرية في إيران» كان العالم العربي المترامي الأطراف عند سواحل الخليج وفي الفناء الخلفي ما وراء الحضبة الإيرانية» يودع عصر عبد الناصر الذي اختفى مبكرا من المسرح السياسي لتعود مصر إلى النهر» وتنكمش عند ضفاف النيل مكتفية بلعب أدوار أقل طموحاً. بينما على الشرق وعند منحدرات هذه الهضبة ‏ غرب إيران ‏ يلوح شبح دولة كاريزمية صاعدة يستيقظ الجيران على صوت جلبتهاء وعلى وقع انقلاب داخلي فيها بقيادة رجل العرق القوي صدام حسين. هذا التزامن المثير بين انتصار الخمينية وصعود الصدامية وغياب الناصرية كلياً عام 9 يحمل أكثر من دلالة؛ فالدولتان الكاريزميتان المتشاجرتان تاريخيا في العراق وإيران» أصبحتا مرة أخرى في وضع شبيه من حيث درجة التنافس والتنافر.

كان العالم العربي السنى يراقب بقلق الرجات الأولى للزلزال الشيعي في إيران؛ ويتابع بشيء من الحيرة الجواب الغامض الصادر من بغداد: إزاحة الرئيس أحمد حسن البكر ومجيء نائبه صدام حسين.» في السادس عشر من تموز / يوليو 1979.أي بعد وقت قليل فقط من انتصار الخمينية. إن الوضع الحقيقي على جاني الحدود بين العراق وإيران في تموز / يوليو من هذا العام لا يشير إلى حدوث مناوشات حربية ولا إلى انتهاكات حدودية؛ بل بدرجة أكبر إلى تجابه من نوع غير مألوف: تصادم الكاريزميات المحتوم: الخمينية في مواجهة الصدامية. كلتاهما كانتا تحملان بذور العقيدة الجماهيرية وكلتاهما حملتا سحر الزعيم.

على نحو ما تبدى التنافر العراقي - الإيراني قبل اندلاع حرب 1980 وكأنه ذو مسحة مذهبية» وذلك مع تصاعد دعوات الخميني للعراقيين الشيعة

- 203 -

الفصل الثاتي: الدوئة الكاريزمية

بالئورة على البعث العراقي السني. كانت الخمينية في أحد أبرز وجوهها الخارجية» مشروعاً إيرانياً تاريخياً للاقتراب من ضلوع العراق؛ وقد جرى التعبير عنه بلغة العقيدة الجماهيرية المتفجرة في صورة دعوة للانقلاب على البعث؛ راح الخميني يكررها في خطبة السياسة ابتداء من تموز / يوليو 1979.

بعد نحو خمسة عشر عاماً تقريبأ من الحلم القومي ‏ البعثي باقتراب مصر من ضلوع إيران» أصبحت إيران نفسها عند ضلوع العراق» بينما غاب عبد الناصر عن المسرح.

إن التعرف بموضوعية أكبر» على الأسباب الحقيقية لاندلاع الحرب العراقية ‏ الإيرانية في خريف 1980» ومن دون تبريرها بأي شكل من الأشكال؛ لأنها حرب مدمرة وتراجيدية وخاطئة جملة وتفصيلاء يقصد منه - في هذا الكتاب ‏ إعطاء منظور جديد لرؤية الموضوعات الصراعية الكامنة وغير المرئية في مشروعي الخمينية والصدامية. لقد كررتا تنازعاً قديماً له سوابق وتمائلات في تاريخ البلدين. إن الحزب من هذا المنظور, ومرة أخرى من دون تبريرها أو الدفاع عنها؛ هي استطراد بوسائل عنيفة لتنازع تقليدي على أدوار كاريزمية للبلدين. أي على أدوار قيادية في شرق أوسط جديد غاب عنه عبد الناصر ثم الشاه محمد رضا بهلوي.

مثل صعود الرئيس صدام حسين في 16 تموز / يوليو 1979» كقائد بلا منازع للحزب والدولة؛ إيذانا بصعود دور جديد للعراق. كان العراق طوال السنوات الأحد عشر السابقة؛ والتى لعب فيها صدام دوراً مركزياً في السياسات الداخلية والخارجية على الرغم من كونه الرجل الثاني؛ قد استرد بقوة الصورة الكاريزمية للدولة العراقية وأعاد إحياء هالتها التاريخية» وبالطبع فقد كان للإجراءات والتدابير الاقتصادية والاجتماعية وخصوصاً تأميم النفط

- 204 -

الفصل الثاني: الدوئة الكاريزمية

- الذي مكن الدولة من الاستحواذ على ثروات المجتمع وتركيزها بين يدي نخبة سياسية جديدة ‏ وكذلك إنشاء بنية تحتية حديثة في قطاعات التعليم والصحة والخدمات العامة؛ أعظم الآثر في تدعيم هذه الصورة والترويج لها.بيد أن هذه الحالة سرعان أصيبت بتكسرات مفاجئة حين راحت تشع داخل وخارج البلاد» وما كان لأحد أن يتكهّن أو يتعرف بدقة إذ ذاك» إلى حدودها أو أهدافها. لقد ترافق التقدم الاقتصادي والاجتماعي وعمليات التحديث الواسعة في بنى الدولة» بما عرف حيتئلٍ بالخطة الانفجارية؛ مع بروز ظاهرة مثيرة للقلق لم تجر معالجات جدية لما. كانت الخطة الانفجارية خطة طموحة أسفرت عن تحديئات مذهلة في الوضع الاقتصادي والاجتماعي. لنتذكر مثلاً أن العراق الذي لم يكن يملك عاماً واحداً بالمقاييس العالمية؛ ولا كادرات وسطية مدربة ومؤهلة تأهيلاً علمياً صحيحاًء أصبح ابتداء من هذا الوقت البلد العربي الوحيد الذي يملك جيشاً من الاختصاصيين والعلماء.

تجلت هذه الظاهرات في بروز توتر سياسي بلغ ذروته في مطلع العام 9:,؛ وقبيل صعود الرئيس صدام حسين ببضعة أشهرء إذ أعطى نائب الرئيس صدام حسين يومئذٍ» أوامره بملاحقة واعتقال الشيوعيين العراقيين. بلغ الضغط على الرئيس البكر ذروته من جانب نائبه صدام حسين؛ عندما طالبه بالمصادقة على قرارات إعدام مجموعة من الجندين الشيوعيين الْمتهمين بانتمائهم إلى الحزب الشيوعي.كما ستترافق هذه الظاهرات وعمليات ملاحقة واعتقال الشيوعيين» مع حملة تطهيرية واسعة قتل فيها أو سجن فيها عدد كبير من الأعضاء القياديين في حزب البعث الحاكم في تموز / يوليو من العام نفسه. إن المغزى الرمزي لهذا التوافق المثيرء بين الحملة في الخارج ضد حزب جماهيري حليف هو الحزب الشيوعيء والحملة في الداخل لتطهير صفوف الحزب

- 205 -

الفصل الثاتي: الدوئة الكاريزمية

الجماهيري الحاكم ( البعث) من الخصوم؛ يمكن أن يتجلى ويتجسد في الفكرة التالية:

إن صعود الزعيم الكاريزمي الحالم ببعث أمجاد الدولة الكاريزمية» يتلازم كالقدر المحتوم مع أهداف وأحلام جديدة» تتجاوز نطاق الحزب كما تتجاوز نطاق الطائفة والبيئة والقبيلة» وربما البلد نفسه صوب الأمة. وحتى هذه ربما لن ترى إلا كجسر يريد القائد اجتيازه نحو بلوغ العالم. إن الزعيم الكاريزمي يضيق ذرعاً في الواقع؛ بحزبه الجماهيري كما بالأحزاب الجماهيرية المنافسة. لأنه يريد أن يستولى بنفسه ويحتكر الجماهير ويضمها إليه وليس للحزب. إنها جماهيره التي تأتي إليه مسحورة وطائعة؛ وهي تنتمي إلى الحزب حباً وهياماً وغراماً به وليس بالحزب. ولذلك اتخدت عملية إعادة تركيب الجهاز السياسي للحزب بُعداً استراتيجياًء يقوم على أساس أن المالك الوحيد والحصري للجماهير وهو معبودها المطلق؛ ليس الحزب العقائدي وإنما الزعيم. أنه قدرها وهو هديتها التى أرسلتها السماء.

في هذه الأثناء كان الأمام الخمينى هو الآخر يُزيح من أمامه سائر الزعماء السياسيين في إيران ويطيح بهم واحداً واحداً كما فعل مع الرئيس بني صدر في مطالع الشورة» وليقوم هو أيضاًء بحمل تطهيرية مُشابهة لطرد ( المنافقين) بمن فيهم حلفاء الثورة قادة مجاهدين خلق؛ بل ومطاردة جماهيرهم في الشوارع واصطيادهم في القرى والمدارس وإنزال عقوبة الإعدام بهم من دون رحمة. في هذا الوقت أنشأ الخميني محاكم ثورية أصدرت أحكاما بالموت الفوري بحق المئات من الشباب الإيراني» لمجرد تعاطفهم مع مجاهدين خلق. كانت الخمينية؛ وفي الوقت عينه الذي كانت فيه الصدامية تنقض على حلفائها الشيوعيين وتقوم بمطاردة كوادرهمء تبادر هي أيضاً إلى تحطيم حلفائها

- 206 -

الفصل الثاتي: الدوئة الكاريزمية

الجماهيريين من جماعة مجاهدين خلق الماركسية. وفي ظروف غامضة سوف يُقتل ويموت ويُبعد» زعماء دينيون بارزون لعبوا أدواراً حاسمة في الشورة الإيرانية مثل طالقاني. وثمة في السياق كثير من الغموض لا يزال يلف حادثئة تفجير مقر الحزب الجمهوري الإسلامي, التى راح ضحيتها العشرات من قادة الثورة الويرانية.

وهكذاء في بغداد كما في طهران» تلازم صعود الكاريزميات الجديدة المشبعة بحسن التاريخ وأحلامه وني عصر غياب عبد الناصر, واستغراق تركيا بأحلامها الأوربية» مع الأنماط ذاتها من العنف ضد القوى ذاتها أيضاً؛ التي يمكن أن تمنع أو تحبط أو تضعف درر الزعيم. هذا الزعيم الذي سوف يسحر الجماهير لوحده ويصبح مُلهمهاء منفردا ومن دون معونة حزبه. لقد تمائللت حتى أشكال العنف وأنماطه في البلدين مع صعودهما.

وفيما كان الرئيس صدام حسين يعطي أوامره بملاحقة ومطاردة الشيوعيين» ويواصل العنف ضد حزبه الحاكم» ليعيد صهره ثم تركبيه وفقاً للدور الجديد المنوط به؛ كان الإمام الخميني يحرض الحرس الثوري على تمزيق فلول المنافقين» أن مجاهدين خلق الماركسيين ‏ الإسلاميين» ويدعو إلى تطهير صفوف الثورة من كل الخصوم. وبحلول العام التالي 1980 بلغت المهاترات بين بغداد وطهران ذروتها.

عندما انطلت الخمينية وني لحظات صعودها الأولى» ارتطمت بتيارات ثقافية فاعلة ومنافسة في المجتمع الشيعي الإيراني. إن أكثر التيارات قوة وقدرة على تحدي الخمينية آنئذر. تمثلت في الحركة المسماة الحجنية وهي حركة دينية أسسها الشيخ محمود الحلي قبل نحو خمسي عاماً من ظهور الخمينية على المسرح السياسي» وكانت تفرض سيطرة شبه ممُطلقة في موطنها التاريخي الذي

- 207 -

الفصل الثاتي: الدوئة الكاريزمية

انطلقت منه خراسان؛ قبل إن تمتد للوسع في بقية الأقاليم والمدن الإيرانية. وقف الحجتيون منذ البداية ضد الخمينية» ولكن من دون أن يرفضوا كلياً أو بشكل مُطلق فكرة إسقاط الشاه. كانوا يسيرون بخطى مزدوجة؛ فهم من جهة يرفضون الخمينية» ومن جهة أخرى يقاتلون الشاه سياسياً وحسب. كان إسقاط الشاه؛ بحسب القعيدة الحجتية, عملاً يقع في حيز ليس هو من اختصاص البشر؛ بل من اختصاص وواجبات الإمام الغائب. وبوصف هذه المهمة في الأصل من مهام الإمام الغائب (١‏ المهدي الْمنتظر) أو من وظائف المخلص الأسطوريء؛ فقد عارض الحجتيون دعوة الخميني الثورية وعدوها تجاوزاً على أصل العقيدة الخلاصية. كانت الحجتية تبنى تصوراتها للنضال السياسي وفقاً للشروط والمتطلبات الثقافية والأخلاقية لمسألة انتظار المهدي. ولذلك عارضت كل محاولة لاستباق هذا الظهورء أو القفز عليه بأخذ زمام المبادرة؛ لأن ذلك ووفقاً لمعنقداتهاء لمحالف لجوهر العقيدة القائل أن زمن الإمام المهدي لم يحن بعد. وإن ظهوره هو الذي سوف يحسم موضوع إسقاط الشاه. ومع أن الخميني لم يعرض نفسه على أنه المهدي المنتظر إلا أنه سيتصرف تالياء ومن خلال نظرية ولاية الفقيه بوصفه نائبه في الأرض ويقوم بدلا عنه بالمهمة المناطة به. إن الفكر الإنتظاري بطابعه السكوني ‏ عند بعض الفرق الشيعية المعاصرة ‏ كما هو الحال مع الحجتية» هو الذي وقف خالف تعثر أي حركة إصلاحية؛ وربما عرقل بشكل مباشر وفي أوقات مختلفة» كل محاولة للتغيير بالقوة. ولذا اصطدم الحجتيون بالخمينية من هذا المنطلق الثقافي» وعارضوا في عقا الأولى لصعودها كل محاولة لرؤيتها على أنها تمثيل قيدة المهدي المنتظر. بيد أن الحجتية مع ذلك» وحين أصبح انتصار الثورة أمراً مفروغاً منه. سارعت إلى مصالحة الخمينية والقبول بمنطلقاتها وتبريراتها.

- 208 -

الفصل الثاتي: الدوئة الكاريزمية

من بين أبرز قادة الحجتية في هذا الوقت؛ ممن وافقوا على القبول بالخمينية والاستسلام أو التصالح معهاء علي أكبر ولايتى الذي سوف يصبح وزيراً للخارجية فيما بعد. وقد بلغت الطريقة التى اتبعها الحجتيون من أجل تبرير موقفهم الجديد؛ حداً مثيراً من حيث نوع وطبيعة الأفكار التي جرى الترويج لها في سياق البررات؛ وذلك عندما أصبح هؤلاء في الشارع الإيراني من أكثر مروجي الأساطير الشعبية عن لقاء جمع الخميني بالإمام الغائب المهدي المنتظر على جبهات القتال مع العراق.

مع انتشار هذه الأساطير في إيران» هبت الجماهير وهي تهلل وتكبر لحدوث المعجزة. لقد آمنت الجماهير» بالفعل؛ إن اللقاء تم حقيقة بين الخميني والإمام المهدي» وكان من شبه المستحيل الوقوف بوجه هذه القناعة. كانت المثيولوجيا تلعب في هذا النطاق ‏ من أحداث الوقائع ‏ وليس التاريخ القديم وحده. دوراً محورياً في أوساط الجماهير التى سارعت,. حينئ إلى التشبث بالأفكار الخلاصية. كان سحر الخمينية يسحق بقدر ما من السهولة؛ تيارات ثقافية وسياسية معارضة قديمة وجديدة. ولكنه كان يُعزز في الآن ذاته وفي أوساط الجماهير المسلحة» التى التحقت بالحرس الثوري واندفعت إلى جبهات الخويه فكرة الاناماع إل تار تور ديك عب آن يتخارق السام الإبرائنةة ويعبر الحدود ويفيض على الجيران بأفكاره الخلاصية.

وقبيل اندلاع الحرب بين العراق وإيران بقليل؛ وبينما كانت الصدامية في العراق تشرع في إعادة ترئيب قوى المجتمع العراقي» وتقوم بأحداث أكبر تعديل في صورة الحياة السياسية مع إقصاء الحزب الشيوعيء ومطاردة كل القوى خارج البعث؛ وتبادر إلى طرح برنامج تبعيئي ‏ من البعث ‏ للمجتمع بأسره» كان الخمينى يفكك بهدوء أخر حلقة في سلسلة التيارات الثقافية

- 209 -

الفصل الثاني: الدوئة الكاريزمية

والسياسية الشيعية المعارضة لصعوده؛ وذلك حين استقبل الشيخ الحلي زعيم الحجتية في منزله في صيف عام 1979 إيذاناً بحقبة استسلام عقائدي أمام سحر الخمينية. جاء الشيخ بنفسه لا ليضع قواته وأنصاره تحث تصرف الخمينية وحسب. وإنما لُعلن عن حلها والاندماج والانصهار الكلي في الخمينية. بذلك؛» أصبح مسرح المجابهة بين الكاريزميتين على جاني شط العرب مُعداً ومُهيئا وبات أمر عبور أحداهما إلى الضفة الأخرى متوقعاً في كل لحظة.

لقد اندلعت الحرب العراقية. الإيرانية.

إن رؤية الحرب من منظور الصدامات العنيفة بين الجماهيريات» بمعنى النظر إليها كتطور محتوم في سياق تصادم بين كاريزميتين جماهيريتين أسفل

-210-

الفصل الثاني: الدوئة الكاريزمية التحديث وملالي العراق (المعرفة: الاستبداد؛ الجماهير)

بخلاف التاريخ الإيراني؛ فإن السيطرة على الجماهير في الشورات والميجانات الاجتماعية» تبدو أضعف في العراق مما هي عليه في إيران. وقد بين لنا مئال قتل العائلة المالكة في العراق ثم أحداث الموصل وكركوك الدامية. وانقلاب 1963 بكل صوره الوحشية؛ أن الأبعاد الفعلية لهذا التفاوت الثقافي في أشكال السيطرة على الجماهيرء تتحظى نطاق قوة الحزب أو السلطة أو درجة تأثيرهماء وأنها تتصل اتصالاً وثيقاً بنمط الثقافة الجتمعية السائدة. إن مثل هذه التباينات دوافع وأسباباً ذات طبيعة بنيوية؛ فالنموذج العراقي للشورة الاجتماعية؛ ولنقل للحراك الشوري الجماهيريء يتسم في التاريخ البعيد ‏ العباسي مثلاً - بكونه أكثر اقتراباً من نموذج ثورات العامة» منه إلى الشورات المنظمة ذات المضامين الاجتماعية الحقيقية والواضحة؛ والمترابطة من حيث أهدافها السياسية. إن ما يُدعى في التاريخ العراقي العباسي بثورات العامة يلخص نظرة المؤرخين المتبصرة والدقيقة» لتلك السلسلة من المطيجانات غير المترابطة من حيث أهدافها ومقاصدها ومن حيث أشكال تصاعدها. ولطالما توقف الدارسون أمام ظاهرة ثورات العامة في التاريخ العراقي؛ فهي أدت في النهاية» وبدلاً من تحقيق أهداف كبيرة ذات طبيعة إصلاحية وتجديدية؛ إلى تفسخ مطرد في كيان الدولة بأكثر ثما أدت إلى إحداث تبدلات, أو تغيرات بنيوية في تركيبة السلطة أو في أدوار النخب. بينما على الضد من ذلك يظهر التاريخ الإيراني الحديث كسلسلة مترابطة في حراك اجتماعيء لايني يولد أهدافاً تحددة وموضوعات حقيقية؛ كما يوّلد ثورات وأعمالاً ذات طابع جماهيري سلمي غني بالمثل.

الفصل الثاتي: الدوئة الكاريزمية

يمكن للإيرانيين المعاصرين» على سبيل المثال» أن يروا ترابطا وثيقاً بين الثورة الخمينية عام 1979 - في بعض أوجهها ‏ وبين الشورة المشروطية ( الدستورية ) في العام 1906. وبالفعل فقد ورأوا إليها كمحاولة أخيرة لإعادة تركيب الأسس الاجتماعية والسياسية» التى قام الشاه رضا خان ‏ والد محمد رضا ‏ بتدميرها في سياق محاولات التحديث.

إن رؤية الترابط بين الأعمال الثورية للجماهير وبين المضامين الحقيقية المطروحة»؛ سوف يكشف عن نوع المشكلات التي واجهت النموذج العراقي مقارنة بالنموذجين التركي والإيراني للتحديث. كما سيكشف عن الحقيقة التالية: إن الأفكار الحديثة بالكاد لعبت دوراً فعلياً في الشورات والتحركات الجماهيرية في العراق. إننا لا نعرف مثلاء ثورة دستورية على غرار النموذج الإيراني والتركي» كما لا نعرف أي نوع من الحراك الاجتماعي المصمم لأهداف واضحة ضحة تتصل بمطالب الإصلاح أو التحديث؛ بينما نملك سلسلة غير مترابطة الحلقات من الأعمال ذات الطابع الجماهيريء التى انزلقت في معظمها ويا للأسفء إلى مستوى الهيجانات الشعبية» وإلى ما يبدو تكراراً لنموذج ثورات العامة الخالية تقريباً من الأهداف الاجتماعية الكبيرة أو الطموحة.

سوف نرسم - هنا ت منظراً خلفياً للأوضاع والظروف التي سبقت اندلاع ثورة 1920 العراة قية؛ بوصف هذه الثورة النموذج الأكثر بروزاً وأهمية في التاريخ الاجتماعي والسياسي في العراق الحديث عن دور الجماهير. إن رؤية الثورة من منظور أعم؛ يجدب أن يأخذ بنظر الاعتبار الظروف التي ولدت فيهاء والتعرّف إلى الأفكار والمشروعات التى طرحتها أو أثارتها أو دارت من خوقاء الك .ها سوق يشافم ف سم صورة ديق زابنة مين امفيتها التاريخية. وفي حالة ثورة 1920 العراقية؛ فإن ذلك يتطلب وقبل أي شي

- 212 -

الفصل الثاتي: الدوئة الكاريزمية

العودة إلى الأفكار الرائجة من حوها في بلدان الجوار» نعنى معاينة وفحص أفكار الاستقلال الوطني والإصلاح والتحديث في إيران وتركياء فالثورة اندلعت في ظروف إقليمية شديدة الحساسية حيث لعبق الأفكار الحديثة» يومئذ دوراً محورياً في البلدين المجاورين» وامتد تأثيرها إلى العراق بسرعة وزخم مكيرين.

يكتب شاهد عيان من هذه الحقبة هو الشهيد صلاح الدين الصباغء الضابط الوطني الشجاع اللبناني الأصل من أم موصلية» والذي وهب حياته ثمنأ للدفاع عن استقلال العراق عام 1941 ما يلي ( مذكرات صلاح الدين الصباغ ‏ المغرب دار تانيت ‏ الرباط 1994, ص: 729) / : أنه سافر في العام 1939 إلى تركيا للمشاركة في تشييع جنازة كمال أتاتورك. وهناك شاهد ما أذهله. فقد:

رأيت من علائم التقدم ما أذهلني» خاصة في عاصمة تركيا الجديدة التي كانت في الماضي أشبه بالقرية» من انقلاب في الحياة الاجتماعية وني العمران والاقتصاد وفي الأمور الثقافية والمعنوية. ورأيت اعتزاز الأثراك بوطنيتهم وغرورهم بقوميتهم واعتدادهم باستقلالهم (...) ثم انتقل بي الفكر إلى إيران» وهي تخطو إلى الأمام بخطى جبارة على غرار تركيا بفضل استقلالها الناجز. فأين استقلال تركيا وإيران الناجز المتين من استقلال العراق الّمقيد المزيف؟

قبل نحو قرن كامل أو أكثر بقليل من هذا النصء بتأملاته الرومانسية والذي يعرض انطباعات صادقة وحزيئة؛ وقبل وقت طويل للغاية من المناسبة التي كتب بهاء يوم وقف الضابط الشجاع متأملاً في مظاهر العمران والتحديث

'! - الصباغ ( صلاح الدين )‏ مذكرات صلاح الدين الصباغ المغرب ‏ دار تانيت» الرباط 1994 -213-

الفصل الثاتي: الدوئة الكاريزمية

الاجتماعي؛ وتحديداً في العام 1826 كان الأتراك يحشون الخطى باتجاه التحديث بالفعل» تاركين خلفهم عراقا عثمانيا ‏ تملوكيا يغطس في الوحل. على الطرف الآخر من هذه الصورة؛ كان الإيرانيون يراقبون عن كثب محاولات السلطان محمود الثاني التجديدية في تركيا العثمانية» ليشاهدوا كيف أنها طاولت بجرأة بدءأ من هذا الوقتء جهاز الدولة والجيش والإدارة العامة عندما بدأت,» هناك أولى عمليات التطهير الجذرية والواسعة بهدف التخلص من الإنكشارية» في استانبول وفي معظم الأقطار التابعة للسلطنة العثمانية ومنها العراق نفسه. الذي عاش أحداثاً مروعة تسبب بها هؤلاء. كان لافتاً بالنسبة للإيرانيين» في هذا الوقت - 1826 أي قبل قرن كامل تقريباً من تاريخ النص الذي كتبه الصباغ» أن عمليات الإصلاح التركية التى باشر بها السلطان محمود الثاني شملت جهاز التعليم؛ حيث بدأت المدارس الحديثة بالاتتشار في عموم تركيا. وفي وقتْ, تال؛ امتد تأثير هذه الإصلاحات بشكل محدود للغاية إلى العراق» الذي شهد في هذه الأثناء عمليات تجديد محدودة في الجهاز التعليمي مع انتشار المدارس الحديثة. كانت إيران القارجارية 1796 - 1926 تعيش وضعاً تاريخياً متفرداً ومُتميزاً عن تركيا العثمانية» فبينما تمنع رجال الدين الشيعة في إيران بقدر كبير من الاستقلالية ذات الطابع المؤسسي عن الدولة» وكان بوسعهم قيادة أعمال ونشاطات متعارضة مع الدولة والتبشير بأفكارهم؛ كان الدين في تركيا العثمانية جزءاً من بنية الدولة.

ولذلك؛ لعب رجال الدين في إيران دوراً مركزياً في النضال من أجل الإصلاحات في الدولة القاجارية» وكانت الثورة الدستورية في العام 1906 دليلاً على الحيوية الفائقة للدور الذي يمكن أن تلعبه الجماهير في معركة التحديث. ولئن بدت الدولة القاجارية مترددة وخائفة من الإصلاح؛ فإن

- 214 -

الفصل الثاني: الدوئة الكاريزمية

العثمانيين الذين لم يكونوا يعرفون الانفصال بين مؤسسة الدين ومؤسسة السلطة» مضوا قدأ وسوية على طريق التحول في الحياة المدنية.وفي الحالتين كما يتضح؛ فإن الدين لم يلعب دوراً معوقاً في مشروع التحويل الاجتماعي. وكما سنلاحظ؛ فإن تركيا العثمانية التى لم يكن للدين فيها أي نوع من الاستقلالية عن الدولة» وإيران القاجارية التى كانت تعرف على العكس من ذلك انفصالاً شي تأجراً بين الدولة والمؤسسة الديلئة فد “ساركا سوة في النباية على طرزيدق التحول في الحياة الاجتماعية مُبكرأء بينما ظل العراق قابعاً في مكانه يُصغي إلى صدى الحداثة في الجوار. والمثير للاهتمام أن المعركة الكبر التى خاضها الإيرانيون عام 1891 ضد نصر شاه ومن أجل الإصلاحات انطلقت شرارتها من سامراء العراقية السئية حيث تعيش جالية فارسية قرب المراقد المقدسة الشيعية. معلوم أن سامراء تضم مرقدين شيعبين هامين ( الإمام الحادي والحسين السكري) وذلك مع صدى فتوى ميززا محمد تقى الشيرازي» الذي دعا إلى مقاومة اتفاقية التبغ الممرمة في طهران ومقاطعة منتجات الشركة الاحتكارية التى منحها الشاه حق احتكار التبغ الإيراني. أثر الفتوى الصادرة من سامراء العراقية قبة اندلعت سلسلة من الأعمال الجماهيرية التي قادها رجال الدين في إيران» وانتهت بإلغاء الامتياز الممنوح للشركة ( انظر مثلاً: زبيدة 8). هذه المعركة كما ثبين الوقائع» هي التى فتحت وبعد بضع سنوات فقطء الطريق أما اندلاع ثورة كبرى في إيران هي الثورة الدستورية.

يعنى هذا أن أعمال الاحتجاج كانت تتطور في إيران» وتتصاعد كثورات اجتماعية مترابطة الحلقات بفعل دور الجالية الفارسية وقوامها طلاب ورجال الدين في العراق ( وسوف يتكرر هذا الأمر مع وجود الخميني في النجف عام 8 حيث بدأ أولى نشاطاته لتنظيم عصيان ثوري ضد الشاه محمد رضا).

-215-

الفصل الثاتي: الدوئة الكاريزمية

بيد أن إيران» مع هذا لم يقيّض ا أن تعرف سلطة مركزية ومؤسسات دولة حديثة؛ إلا مع استيلاء رضا خان على العرش في العام 1924 ( أصبح هو الشاه لاحقاً». ولكن الشاه رضا خان - والد الشاه محمد المخلوع عام 1979 - وضع نهاية حزينة ومؤلة لتوازن السلطات الذي حققه الإيرانيون في الثورة الدستورية» وذلك عندما كسر القواعد الثلاث في النظام السياسي. هذه القواعد هى التى قامت عليها الدولة الحديثئة أصلء وهى التى أدى تحطيمها إلى احتكار الشاه للسلطة من جديد. 0

هذا هوء بصورة أولية شديدة الاقتضاب الإطار التاريخي للفكرة الآنفة» وسوف نواصل استكمال رسم الإطار بتفاصيله الضرورية تالياً.

ترىء لماذا استذكر الضابط العراقي» إيران وهو يمشى في جنازة أتاتورك» زيتامل المدينة الجدينة استاتبوك؟ وكاذا فار على الفور بين تركينا وإيران والعراق؟

لا يتعلق الأمر بمجرد صور رومانسية جالت في ذهن ضابط سحرته الحداثة؛ بل بحقيقة أن الثورات الجماهيرية في تركيا وإيران وخصوصاً الشورة الدستورية» التى سرعان ما شملت البلدين الكاريزميين؛ إنما أفضت في النهاية إلى دان تحول :شاكل وقير مستبوق)» بينم الكفات الانتفاضات: واعمال الاحتجاج الجماهيري والثورات الفلاحية في العراق على نفسها مكتفية بمطالب قابلة للتلاعب.

دعونا نعود إلى الوراء قليلاً إلى ما قبل انطباعات الصباغ:

بحلول العام 1869» وبعد نحو ستين عاماً من إصلاحات السلطان محمود الثاني في تركياء آفاق الإيرانيون على حقيقة أن الدولة القاجارية

- 216 -

الفصل الثاني: الدوئة الكاريزمية

بفسادها ومشروعها الإصلاحي المتردد قد بلغت نهايتها؛ وعلى حقيقة أن تحديث الدولة يتطلب ثورة اجتماعية أكثر جذرية. وهكذا اندلعت سلسلة من الانتفاضات وأعمال الاحتجاج توجتها الثورة المشروطية ( الدستورية) التي لعب فيها رجال الدين دوراً محورياً. ولكن وني وقت, تال ومع إخفاق محاولات التحديث في إيران» تجلت تركيا الكاريزمية مرة أخرى - في مرأة الإيرانيين الناظرين بحسد وبرم إلى النجاح التركي ‏ حو العام 1924 وحيث أضفى كمال أتاتورك عليها شيئاً من سحره بوصفه زعيماً ساحراً؛ كأكبر تحار لإيران التي غلفت. حيعل جلبابهالفاجاري مع التتيلاة رف عناء على السلطة يقد سنتين فقط من صعود كمال أتاتورك). كان صعود أفكار القومية العلمانية في تركيا ومحاولات التحديث ابتداء من العام 1922 مع صعود الكمالية» يتبدى في إيران كصعود لكاريزما دولة تريد التخلص من الماضي العثماني» لا من أجل أن تندمج في عالم الغرب الصاعد وحسب. وإنما من أجل استرداد الدور الذي لعبته تركيا العثمانية؛ وهذه المرة في ساحة جديدة هي ساحة أوربا.

ولئن كانت أفكار التحديث الكمالية تتجسد وتتمحور في الفكرة المركزية القائلة: إن بنية الدولة متطورة ولكن الإسلام هو المسئول عن التخلف الاقتصادي؛ فإن أفكار التحديث التي جاء بها الشاه الأب رضا ربا تحت إغراء الدور التركي الجديد والمنافس» اقتربت على نحو ما من ملامسة جوهر الفكرة ذاتها والاحتكاك بها. كان التحديث بالنسبة للشاه. لا يعين سوى إعادة مركزة السلطة بين يديه وإعادة احتكار مصادر القوة والنفوذ؛ ولذ قام بتحطيم واحدة من الأساسات الثلاثة والمركزية التي قام عليها دستور 1906 في إيران ( الدين» الملكية» التحديث) وذلك حين فصل الدين عن المجال العام؛ وأعاد مركزة

- 217 -

الفصل الثاتي: الدوئة الكاريزمية

السلطة في إطار الملكية» من أجل تقليص أو الحد من تأئير رجال الدين على حقل التعليم.

كانت الثورة المشروطية تعم إيران وتركيا في سنوات 1909-1908. وتم خلالها عزل السلطان عبد الحميد» حيث رفع آنئلر شعار الفرنسية الحرية. العدالة. المساواة في أول محاولة لتنظيم انتخابات نيابية. وتحت تأثير الأفكار الحديئة للشورة المشروطية» شهد العراق أولى علامات الإصلاح الإدراي وانتشرت الصحف في بغداد. وسمعت منذئلره نقدات لاذعة ضد الجهاز الإداري الفاسد. بيد أن أفكار الثورة المشروطية كما تلقاها العراقيون في هذا الوقت, اقترنت بنوع مفاجئ من الالتباس في المفاهيم. وبالكاد يمكن للباحث في هذه الحقبة أن يعثر على مقاربات فكرية ذات قيمة» تولت فيها النخب مسؤولياتها من أجل إزالة الالتباس من أذهان الجماهير. وكما لاحظ على الوردي ( طبيعة ا جتمع العراقي: بغداد 1965, ص: 138) وهو على حق بكل تأكيد؛ فإن العامة أي الجماهير ‏ اعتبرت المشروطية أمرأ متلازماً مع فكرة الحرية المطلقة؛ بينما على العكس من ذلك رأى إليها رجال الدين كتحلر لسلطاتهم؛ بل رأى:

الكثيرون من الفقهاء إلى أن ( المشروطية ) حرام أو كفر ما انزل الله بها من سلطان. والظاهر إنهم كانوا يريدون أن يبقوا على ما اعتادوا عليه من حكومة متفسخة وخراب شامل.

كان صدى أفكار الحداثة يزمجر بقوة في سماء العراق. ويبدو في درجة تأثيره على النقاشات والساجالات الدائرة وفي مستوى ودرجة التفاعل معه؛ أكثر جماهيرية وإغراء من تعليم رجال الدين وتحفظاتهم؛ أي أكثر جاذبية وحيوية من سياسات القادة الذين فرضوا سيطرتهم في الشارع. ولكن؛ وعلى

- 218 -

الفصل الثاني: الدولة الكاريزمية

خلاف موقف رجال الدين في العراق» من الذين عارضوا أهداف الثورة المشروطية لأسباب كثيرة من بينها أن هؤلاء فهموا الدستورية كما لو كانت تعنى فتح أبواب البلاد الغرب الثقافية؛ كان رجال الدين في إيران يشاركون بنشاط وحيوية في الدفع قدماً بالإصلاحات. لا لأن رجال الدين في إيران كانوا إصلاحيين وتحررين أكثر من أقرانهم رجال الدين في العراق» بل لأن التحديث تبدى في أنظارهم كما لو كان قدراً شبه محتوم» وكان يتوجب عليهم ملاقاة نتائجه بقطع النظر عن رأيهم بحدوده وآفاته والموقتف الفقهي منه. ويبدو أن الدور الذي لعبته الجالية الفارسية في العراق وخصوصاً الدور الذي لعبه ا جتهدون ‏ وهم التيار الفارسي في المرجعية الشيعية في النبجف ‏ وطوال سنوات؛ كما رأينا من مثال فتوى التبغ التى أصدرها الشيرازي؛ قد ساهم وإلى حد كبير في خلق نوع من الانقسام داخل المجتمع العراقي حول فكرة التحديث. وهاذ ما لم يلاحظه علي الورديء الذي عزا الموقف من التحديث في أوساط رجال الدين إلى عوامل محلية أو إلى عوامل تتصل بتقليدية الموقف الفقهي؟ بينما نستطيع أن نضيف هناء أحد أهم العوامل وهو وجود تخبة فارسية في المرجعية الشيعية في هذا الوقت؛ رأت إلى مشاركتها في السجال الحيوي حول الثورة الدستورية نقلاً ممنهجاً للمعركة ضد الشاه القاجاري في طهران.

من الناحية الشكلية قد يرى بعض الباحثين أن معركة رجال الدين الفرس في النجف وسامراء وانطلاقاً منهما ضد الشاه. تنطوي على إحساس بالخطر من احتماللات تعرض مصالح هؤلاء وروابطهم المالية والاجتماعية مع البازار الإيراني إلى التدمير؛ وبالتالي سيكون مثل هذا الحدث نتائجه المباشرة على أوضاعهم في العراق. ولكن الآمر المؤكد أن هؤلاء لم يخوضوا معاركهم

- 219 -

الفصل الثاتي: الدوئة الكاريزمية

من أجل المصالح المالية وحسبء بل سعياً وراء تثبيت دورهم المركزي والثقافي في الحياة العامة. وذلك ما يعين ببساطة: أن الأفكار الحديثئة لعبت في إيران دوراً محورياً في المطالب الشعبية؛ بينما لقيت صداً عنيفاً من رجال الدين في العراق. هذه المسألة شديدة الأهمية في التحليل» إذ هي تكشف عن نوع وطبيعة رد الفعل الاجتماعي.

كانت النجف الأشرف في السنوات الأولى لاندلاع الثورة الدستورية في إيران» تشهد نوعاً من الانقسام في الموقف منهاء ففي الوسط الشيعي العربي تبلورت بعض أفكار الرفض أو التحفظ. ونظر على نطاق واسع في الوسط الشعبي للشيعة العرب في النجف وفي كربلاء» وفي عموم العراق. إلى الشورة ونتائجها المباشرة بوصفها موضوعاً إيرانياً خالصاً. ومما يُدلل على ذلك أن الموقف من مسألة الدستور في إيران» ساعد في تبلور اتجاهين في النجف. إذ انقسم رأي علماء الشريعة وطلاب المدارس الدينية وعامة الشيعة ربماء بين جماعتين: جماعة المجنهدين وهم علماء دين شيعة معظمهم من الجالية الفارسية في العراق ومن حولهم طلاب كانوا يقيمون ويدرسون في المدارس الدينية؛ وجماعة أخرى عراقية ستُعرف باسم الشريفيين - نسبة إلى الشريف الحسين حاكم مكة وقائد الثورة العربية - إذ نادى هؤلاء بتنصيب الحسين ملكا على العراق في الوثيقة المسماة بوثيقة كربلاء -. كان التنافر بي التيارين واضحاً وهو تمحور حول جملة من القضايا المتصلة بمسألة دعم الحركة الدستورية التي امتدت تأثيراتها بسرعة إلى العراق. في الواقع. وكما لاحظ اسحق نقاش ( شيعة العراق 1996 دمشق دار المدى» ص: 99 ) فإن الثورة الدستورية الإيرانية ثم حركة تركيا الفتاة» لم تكونا شأناً إيرانياً أو تركياً؛ بل كانت حدثأ محلياً من حيث درجة تأثيره في العراق» الذي كان يجمع في خصائصه الثقافية مكونين

- 220 -

الفصل الثاتي: الدوئة الكاريزمية

تاريخيين: تركي وإيراني. لقد وفرت الشورة الدستورية الإيرانية كما ارتأى نقاش, خلال الفترة 1905 - 1911 ولتيار بعينه من رجال الدين الشيعة في العراق هو تيار ا جتهدين» فرصة أن يبلور رؤية جديدة لموضوعة الحكومة الإسلامية. وكان مَؤلف محمد حسين النائينى ( تنبيه الأمة وتنزيه الملة) الصادر في النجف نحو العام 1909 أشهر عمل نظري ومنهجي في هذا الإطار حسب ما ارتأى نقاش» لأن أهميته من كونه صاغ:

نظرية سياسية تحدد مسؤولية الحكم بنظر الجتهدين وتسطر مقاومتهم للحاكم وتمثيلهم في شؤون الدولة دون تعطيل الشريعة.

في هذه الأثناء لم تكن فكرة الدستور مفهومة على نحو واضح وجيد. في المجادلات الدائرة داخل الوسط الشيعي العراقي. ولسوف يتضح من معاينة أفكار وأحداث تلك الحقبة» أن الدستور لم يكن يعني في أذهان رجال الدين - كما لاحظ نقاش ‏ سوى الشريعة الإسلامية. وبينما راح رجلا الدين ‏ من أصول إبرانية - محمد كاظم الخرساني وعبد اللّه المازندراني» يعملان بنشاط ممن أجل التأكيد على أن ثمة فهماً آخر لفكرة الدستور» وإن هدفها المزدوج من دعم المطالبات الشعبية هو حماية الدين وإسقاط مظفر شاه؛ فإن الحركة الدستورية ذاتها كانت تواجه بنظرات متزايدة من التشكيك في الأوساط الدينية العراقية» باعتبار أن الانشغال بها إنما هو انشغال بأمور لا تخص سوى الجالية الفارسية في العراق. بل إن تياراً واسعاً من الشيعة العرب وعلى خلاف نظرات المجتهدين من ذوي الأصول الفارسية» نأى بنفسه عن الثورة الدستورية وظل يرى إليها كحدث إيراني.

ولكنء وبحلول العام 1908 تعمقت النزعة الدستورية في الوسط الاجتماعي والديني في العراق مع إقدام الحكومة العثمانية على إصدار قوانين

- 221 -

الفصل الثاني: الدولة الكاريزمية

مستوحاة من ثورة تركيا الفتاة. كان لهذه التدابير آثار واضحة في تحويل الحياة المدنية ‏ كما ارتأى نقاش ‏ ( ص: 101) لأن القوانين الجديدة وفرت فرصاً:

للتعليم وحرية النشر والتنظيم السياسي لم تكن معهودة من قبل في البلاد. وكان لثورة تركيا الفتاة تأثير قوي بصفة خاصة على الشيعة العرب الذين اعتبروا الثورة الإيرانية شأناً داخلياً ولم ينساقوا وراءها. وعلى النقيض من ذلك فإن الفترة الممتدة من 1908 مكنت الشيعة العرب من الانخراط في الأمور السياسية.

تطلب التفاعل مع فكر الحركة الدستورية الإيرانية» وأفكار تركيا الفتاة الإصلاحية قدراً من التناقض العلني والتحفظ والتمنع والقبول والرفض» قبل أن تتمكن النخب العراقية من استيعاب وصياغة مواقف أكثر جذرية ومغايرة. وكان لصدور بعض القوانين ‏ الفرمانات - العثمانية في هذه الآونة» وانتشار الأفكار الإصلاحية تأثئير مذهل في النجف والعراق عموماً لقد بدأت حقبة جديدة تشهد فيها شوارع ومكتبات النجف المزيد من المطبوعات والنشرات الجديدة» وراحت الأفكار والموضوعات السياسية تناقش شيئاً فشئياء وُطرح بصورة أكثر حيوية بفضل ظهور التجمعات والجمعيات الثقافية. غير أن هذا التحول الجزئي في صورة الحياة المدنية في العراق ما كان له إلا أن يترافق مع جملة من التطورات العالمية والإقليمية. ففي هذا الوقت» وبينما كانت أفكار الثورتين الإيرانية والتركية تتصاعد وتجذب خلفها جموعا متزايدة من السكان» ويمتد ويتعاظم تأثيرهما في العراق» كانت أوربا وروسيا تندفعان بكل قواهما لتضما المزيد من الأراضي في إيران وتركيا؛ فقد حصل الروس من الشاه القاجاري على أحد عشر مديئنة جرى ضمها إلى روسياء بينما كانت النمسا تضم البوسنة والهرسك العثمانية. وحتى آخر لحظة ظل السلطان عبد الحميد

- 222 -

الفصل الثاتي: الدوئة الكاريزمية

من تشرين الأول / أكتوبر 1908 حتى نيسان / أبريل 1909 يحاول دون كثير جدوى, تحقيق توافق بين إيران وتركيا لمواجهة الأطماع الأوربية وتحديداً أطماع البريطانيين» مكرراً النداء تلو النداء والرجال تلو الرجال أن تصغي إيران القاجارية إلى تحذيراته من الخطر الاستعماري ومن أجل وحدة العام الإسلامي.

وعبثاً سعى بعد الحميد الثاني إلى تحقيق تقارب شيعي سني من خلال لقاء مصالح إيراني ‏ تركي؛ لا لشيء مثل هذا اللقاء كان عسيراً على التحقق بفعل قوة التنافر الثقاني بين البلدين الكاريزميين تركيا وإيران. ولذا الغرض قام السلطان عبد الحميد بآخر محاولة لتدعيم جبهته المنهارة أمام قوة اندفاع الغربء عندما اتخذ سلسلة من التدابير لصالح الشيعة في العراق» بهدف تحويلهم إلى قوة في مواجهة أطماع البريطانيين. وكانت تلك واحدة من أهم المبادرات التصالحية في تاريخ العلاقات بين المذهبين الكبيرين. والمثير أن هذه القوة التى تمناها عبد الحميد بزغت في الوسط العربي بمدينة النجف وكربلاءء» ول تبزغ في الوسط الفارسي. إن عدداً من رجال الدين الشيعة الفرس كانوا يُهاجرون بصداقتهم مع الإنجليز. وبلغ الغلو درجة مثيرة عندما رفع بعضهم عرائض تطالب ببقاء الحكم البريطاني. على العكس من هؤلاء, انفرد الشيرازي بمبادرات احتجاجية ثورية ضد البريطانيين» كان الشيرازي ( محمد تقي الشيرازي) الرجل الثاني في المرجعية الشيعية في النجفء ولكنه في هذه الحقبة كان على خلاف صامت مع المرجع الأعلى آبة الله كاظم اليزدي. الذي نظر إليه البريطانيون كصديق.

وبالفعل؛ فإن تخاذل اليزدي عن دعم المطالبات الشعبية» وتردده في خوض معركة الاستقلال وتهاونه الفرط إزاء أعمال الانتهاك الفظة لقوات

- 223 -

الفصل الثاني: الدوئة الكاريزمية

الاحتلال» كانت من بين جملة عوامل عجلت في صعود دور الشيرازي الذي تراءى في أعين الشيعة العرب كقائد صلب من دون أدنى اهتمام بأصوله الفارسية. في 19 يناير / كانون الثاني 1919 وبعد نحو عامين من سقوط بغداد في يد البريطانيين» وبتأئير مباشر منه بوصفه أحد أبرز المجتهدين من أنصار الحركة الدستورية في العراق» رفع رجال الدين في كربلاء مذكرة تدعو إلى تنصيب ملك عربي في العراق. وفي هذه المذكرة ضمن رجال الدين والعشائر الشيعية العربية مطالبهم: ( بملك تخضع أعماله لإشراف مجلس وطني ونظام سياسي). ويبدو أن البريطانيين رأوا في هذا المطلب هدفا يُمكن امجتهدين من السيطرة على أمور الدولة. ولم يكن هذا صحيحاًءلأن الدور التفليدي للنجف وأساسه المشاركة في القضايا المصيرية للبلاد» ومن دون الخوض في المسائل السياسية اليومية» هو الذي أملى - في النهاية وبخلاف ما أراد المرجع الأعلى كاظم اليزدي المتردد والمذعور من تصاعد الروح الثورية ‏ على المرجعية الدينية والعشائر سواء بسواء اتخاذ مواقف وطنية راديكالية. وهكذاء عاش العراق وطوال الوقت من العام 1896 حتى العام 1920 حين اندلعت الشورة ( ثورة العشرين) منزوياً يغنى أغنيته الحزينة؛ عن دولته الكاريزمية التي ضاعت في مجاهل التاريخ» وبات متعذراً عليه استردادها في ظل تلاشي الوعد الإصلاحي وتعثر فكرة التحديثء وتعاقب الهيمنة الإيرانية فالتركية فالإنجليزية. ‏ '

إن مواقف بعض رجال الدين في العراق من أفكار الثورة الدستورية في إيران وتركياء واعتبارها نوعاً من الحرام أو الكفرء هو الذي يُفسر لنا جزثياً على الأقل» سبب التخاذل عن التمسك بمطلب صياغة الدستور. وفي ظهور بوادر الانقسام إبان استفتاء 1919 بل وفي ظهور تيار شيعي قوي - بقيادة

224

الفصل الثاني: الدولة الكاريزمية

رجال دين من أصول فارسية ‏ كان ينادي علناً بالولاء للإنجليز والإبقاء على الحكم البريطاني ( من بينهم جعفر بحر العلوم). وكان بين هؤلاء ثلاثة من ا جتهدين من أصول هندية كانوا رعايا بريطانيين هم هاشم ال هندي النجفي ومحمود الهندي النجفي ومحمد مهدي الكشميري ( انظر نقاش: صء 115). وبلغ الأمر حداً مثيراً للفضول والتعجب. أن عميد أسرة آل كاشف الغطاء العربية علي بن محمد رضا كاشف الغطاء. وكان واحداً من المجتهدين البارزين الذين يحملون الجنسية الفارسية وله نفوذ قوي في الكاظمية خصوصاًء جاهر علناً ونادى دون تردد بالولاء للإنجلير. لقد تركت مسألة صيغة الدستور عملياً ا يد البريطانيين وأعوانهم.

وكم سيبدو التاريخ قابلاً للتكرار بصورة ساخرة» حين يتخاذل كثير من رجال الدين الشيعة والسنة على حدٍ سواءء؛ ومرة أخرى - في العام 2003 مع الاحتلال الأمريكى للعراق ‏ عن المساندة القوية والجماهيرية الحقيقية والفعالة لمطلب آية الله علي السيستاني بتحريم صياغة الدستور من قبل الأمريكيين وأعوانهم؛ لأن السبيل الشرعي الوحيد لصياغة الدستور هو تأليف جمعية وطنية منتخبة. ( كان السيستاني في مطالبته المتكررة بدستور يقوم العراقيون بصياغته من دون وصاية أو تدخل من قوات الاحتلال الأمريكية؛ يستعيد بجرأة تقاليد رجال الدين الشيعة في إيران الذين لعبوا دوراً محورياً في معركة الدستور عام 1906. بيد أن هذا سرعان ما تلاشى مع تخاذل السيستاني نفسه عن حماية النجف والفلوجة: إن التاريخ لن يغفر للسيستاني أبدأ تخاذله المخزي عن نجدة الفلوجة). وعلى الضد مما تمناه الشيعة أنفسهم كان بعض رجال الدين ممن دعموا الغزو الأمريكي, يستردون تقاليد الولاء للمحتل ولا يكتفون بالتخاذل أو التردد.

- 225 -

الفصل الثاتي: الدوئة الكاريزمية

طوال هذا الوقت أيضأء كان العراقيون ‏ نحو ربع قرن ‏ يسمعون صيحات التحديث والعلمنة الصادرة من المجوار ويراقبون الشورات الإصلاحية» ولكن من دون أن يتمكنوا من مجاراة الحراك الاجتماعي أو حتى أن يبلوروا أهدافاً كبرى جديدة. ويتضح بجلاء طوال هذه الحقبة» عجز النخب السياسية والاجتماعية والفكرية» عن صياقغة المطالب الوطنية أو تقديم مقاربات جديدة لما في ضوء التحول المائل في الجوار). جاء اندلاع شرارة ثورة 0 في البصرة ضد الإدارة البريطانية؛ ليوفظ في الجتمع العراقي التطلعات الوطنية المقموعة كما عبر عنه هتاف رجال العشائر؛ الذين دخلوا في نوع من التنافس وحتى الاختلاف والقطيعة مع رجال الدين؛ منذ سنوات قبل اندلاع الثورة: الطوب أحسن لو مقواري (من الأفضل عصاي الحديدية أم المدفع؟) دليلاً لا على نوع هذه التطلعات؛ بل على الطاقة الكامنة والخلاقة في المجتمع العراقي:وقدوية على اطرع فكرة التورة المتلجة كخياز شعي وكن مكن يفل هذه الطاقة الحائلة الدفع بمطالب الثورة بعيداً عن طابعها الانفعالي القبائلي» لو أن رجال الدين الشيعة وزعماء المرجعية في النجف والنخب السياسية كذلك» لم يترددوا حيال مسألة الثورة ضد الإنجليز. ومع ذلكء فإن أحداً لا يمكنه التقليل من أهمية الدور الذي لعبه رجال الدين الشيعة في ثورة 1920. لقد سارعوا إلى الالتحاق بها بعد فتوى علماء الكاظمية؛ ومضوا مشياً على الأقدام نحو البصرة من أجل إسناد رجال العشائر. على أن النخب الفكرية والسياسية» وعلى الرغم من أجواء الثورة العارمة» ظلت عاجزة عن مجارات رجال الدين في قيادة الشارع» كما عجزت عن بلورة أفكار حدائية. وحين ترك هؤلاء يتحكمون بمصير الثورة ‏ من الناحية الإجرائية - وفي غياب أي محارلة جادة لصياغة مطلب الاستقلال كما نادى به الشيرازي وخليفته شيخ الشريعة فتح الله الأصفهاني» وفي غياب أي محاولة لطرح مسألة الاستقلال الوطني الناجز

- 226 -

الفصل الثاني: الدولة الكاريزمية

والتلويح به بقوة كخيار تاريخي ومن أجل إرغام الإنجليز على 0 مسألة الدستور للعراقيين؛ فإن الثورة انزلقت فعليا إلى مستوى ثورات عامة تفتقر إلى الترابط والتماسك في الأهداف. ثورة تجردت عملياً أو جُردت من الأهداف الإصلاحية الكبرى. وسوف يتضح أكثر وبعد وقت قصير فقطء أن الأفكار الحديثة لم تلعب دوراً حقيقياً في الثورة الجماهيرية الأولى؛ بينما لعبت المطالب السياسية المحدودة دوراً مركزياً.

في أيار / مايو 1920» قبيل نحو شهر واحد تقريباً من الثشورة؛ حقق اتباران الا ا 0 والشريفيون ) أهم إنجاز من قرنتا إل حوب سان ذا مالي د ولك ادها ا وير إل رحد مجالس العزاء الحسينية الشيعية» في بادرة رد قوية على محاولات البريطانيين والفكرية» بالسيطرة على الجماهير. في هذا السياق جاءت برقية الشيرازي الشهيرة» التى حضّ فيها المسلمين العراقيين على التمسك بمطلب الاستقلال وتنصيب ملك عربي؛ ردأ على دعوات بعض المتواطئين مع الاحتلال من أبناء الشيعة لإقامة نظام انتداب دائم. ل مثل هذه الأجواء جاء اندلاع الثورة المسلحة.

كان العراق طوال هذا الوقت» يصارع من أجل البقاء» ولم تكن ثمة قوى اجتماعية أو فكرية قادرة على انتشاله من الا مخطاط. ولذلك من الصعب الافتراض أن ثورة العشرين ن كان يمكن أن تد تتحول إلى ثورة دستورية عراقية

- 227 -

الفصل الثاتي: الدوئة الكاريزمية

تحاكي الثورة الإيرانية؛ أو أن تولد حركة إصلاحية كأن يكون اسمها ‏ مثلاً ‏ العراق الفتاة مجازأء المقابل الرمزي الافتراضي لحزب تركيا الفتاة» إذ بعد خس سنوات فقط من الثورة التي قُمعت بقسوة وفي العام 1925 حصل العراقيون على دستور هزيل؛ هو في حقيقته محاولة بريطانية أخيرة لإعادة صياغة الكيان العراقي» ولكن من دون أي مقاربة جذرية لمشكلات العراق.

في هذا النطاق أيضاً من مقاربة التاريحات الكاريزمية لإيران وتركيا والعراق» يمكن للمرء أن يلاحظ كيف أن السيطرة على الجماهير وأشكال قيادتها؛ كانت تتفاوت وتتباين في البلدان الثلاثئة بفعل جملة من العوامل» ربما لعب التكوين التاريخي لشخصية الفرد والتكوين المجتمعي والثقانفي للجماعات كذلكء دوراً حاسماً فيها لجهة تحديد مسار التطور في الأعمال الجماهيرية الاحتجاجية والمطلبية. لقد كان هناك اتجاهان متعاكسان لمذا التفاوت: إما كثورات سلمية فاعلة كما في الثورة الدستورية الإيرانية والثورة الإصلاحية مع كمال أتاتورك في تركيا؛ أو كثورات مسلحة كما في حالة العراق تنتهي نهاية مأسوية بانحطاطها إلى مستوى ثورات العامة» وبحيث تؤدي عوامل مُتراكبة جديدة إلى تحوها أو انقلابها إلى هيجانات فالتة» أكثر شبهاً وتمائلاً مع ثورات العامة في نهايات الدولة العباسية.

فبينما انتقلت الثورة في إيران إلى طور اجتماعي - سياسي تبلورت في إطاره مُطالبات جذرية؛ وبينما اندفعت قوى الجتمع التركي إلى طور مماثل لتحقيق الإصلاحاتء والوصول بها إلى آفاق تحديثية للدولة والمجتمع؛ انكفات الثورة العراقية على نفسها وتقلبت سقفأ هو الأدنى بين المطالب الاجتماعية العديدة» إذ لم يكن الدستور أو الاستقلال. من بين مطالبها الرئيسة» حتى مت تأكيدات الشيرازي وإلحاحه على المطالبة بالاستقلال. مثئل هذه المسائل

- 228 -

الفصل الثاتي: الدوئة الكاريزمية

تبلورت تالياً وفي الشوط الأخير من الإعصار. إن دعوات الشيرازي ونشاطات حرس الاستقلال ظلتا أبعد ما تكونان عن التحول إلى ثورة شعبية من أجل هدف مركزي. ولذلك يمكن القول أن ثورة عام 1920 ( ثورة العشرين) م تتخط تقاليد ثورات العامة في التاريخ العراقي» من حيث درجة وفاعلية المطالب ونوع وأشكال السيطرة على الجماهير.

صحيح إن الثورة الدستورية في إيران انتهت بأفكارها الديمقراطية إلى ولادة دكتاتورية الشاه رضا خان عام 1926. حين جرى كسر القواعد والمرتكزات الثلاثة للدستور الدين.ء الملكية» التحديث. وإعادة مركزة السلطة بين يدي الشاه ثم ابنه» ( بينما انتهت الشورة الخمينية عام 1978.» عملياً إلى دكتاتورية ملالي من خلال مركزة السلطة بيد رجال الدين) وصحيح أيضاً أن تجربة التحديث الكمالية في تركيا انتهت إلى أزمة هوية؛ لا تزال تتفاعل آثارها حتى اليوم بين تركيا الإسلامية وتركية الأوربية» ولكن الصحيح كذلك أن البلدين استردا منذ وقت مُبكر وبفضل هذه الحراك الاجتماعي؛ مالم يتمكن العراقيون من الحصول عليه أو تحقيقه إلا متأخرين بنحو ثمانين عاماً: الدولة الحديثة.

وكما لاحظ الكاتب الإيراني دار شايغان في النفس المبتورة ( لندن 1 دار الساقي» ص: 205) أ عند دراسته لمسألة الدور الذي لعبه رجال الدين إبان الثورة المشروطية ( الدستورية) فإن الشاه» وعلى غير توقع ربما من رجال الدين الشيعة أنفسهم؛ عمل على تشجيع التيارات التحديثية لتسريع حركة العلمنة في البلاد تاركاً رجال الدين:

1991 شايغان ( داريوش): النفس المبتورة: هاجس الغرب في مجتمعاتنا دار الساقي» لندن‎ !* - 229 -

الفصل الثاتي: الدوئة الكاريزمية

يؤيدون بعض الإصلاحات أو يعارضونها في مناسبات أخرى» فلم يكن ذلك من جراء حبهم للحرية بقدر ما كان ناجماً عن كون تلك الإصلاحات تعزز أو تضعف امتيازاتهم. ول يكن بمستطاع أي حل مستقلء مارج الدين والملكية» أن يعمق جذوره إلا إذا تحرر المجتمع في آن من وصاية المللك ومن وصاية الملالى.

كان الحد من درجة تأثير الزعماء الدينيين في الجماهير. من بين أكثر أهداف التحديث التى شرع فيها الشاه. بيد أن هذا التحديث مع ذلك. يطوي على إحساس عميق بالتاريخ؛ فاللحاق بالعالم الحديث ومجاراة التطور المتسارع» هو الحل الوحيد الذي يؤمن لإيران فرصة استرداد كاريزميتها المتآكلة. ومن منظور رمزي؛ فإن إيران خلال تلك السنوات كانت لا تزال تقف حائرة في قلب موجتين عاتيتين من الأفكار: الأولى تقليدية وذات طبيعة سكونية راسبة) والثانية حدائثية مفاجئة وذات طاقة مذهلة على خلخلة البنى القديمة. بينما على الضد من ذلك وبعد عقود طويلة» جاءت الثورة الجماهيرية الخمينية في العام 1979 لتطرحء ويا للعجب. على المجتمع الإيراني حلولاً في إطار الأفكار التقليدية. إن الثورة الجماهيرية الكبرى التي قادها الخميني» وإن بدت في أعين المثقفين في العالم العربي والعالم الثالث عموماًء في صورة ثورة صاعقة وزلزالية ضد ثقافة الغرب وتحديا ثقافيا له وذلك بطرحها للؤإسلام كبديل ثقافيء إلا أنها لم تعرض حلولاً حقيقية للمشكلات إلا في إطار الأفكار التقليدية. ولذا تبدو الخمينية من هذا المنظورء تعبيراً عن تجابه قديم كان ولا يزال يتواصل في امجتمع الإيراني بين التقليدية والحداثة. ومن غير شك؛ فإن الجماهير بمشاركتها الواسعة انغماسها في الثورة ضد الشاه الابن» لم تكن موحدة النظرة إزاء فكرة التحديث؛ لأننا سنرى بعد سنوات قليلة فقط من نجاح الثورة» كيف أن القسم

- 230 -

الفصل الثاني: الدوئة الكاريزمية

الأعظم من هذه الجماهير كان في الواقع مغرقاً في الرجعية» وقد أعاد أنتاج الاستبداد من خلال اندماجه في مؤسسات السلطة القمعية الجديدة التى يهيمن عليها رجال الدين. وبالفعل؛ فقد تحول الجزء الأعظم من هذه الكتلة الهلامية: أي الجماهير» إلى مصدر جديد من مصادر تهديد فكرة الديمقراطية والتحديث في امجتمع. هذه المرة لم يعد القادة الدينيين والتقليديين وحدهم مصدر التهديد؛ بل أصبحت هناك كتلة كبيرة من الجماهير تعيش في قلب مهمتها التاريخية والوحيدة: تأسيس الاستبداد باسم حماية الشورة. يلاحظ شايغان إن الملالي كانوا يحتفظون بنفوذ مباشر على الجماهير لآنهم كانوا: يعرفون كل محركاتها ودوافعها النفسية وكل اسطوانة الانفعالات وكل شبكة المشاعر التى تبدأ بالتكتة التافهة جداً. مروراً بالجنب المرضي العاطفي وصولاً إلى الجانب المأسوي التراجيدي» فهم قادرون على إضحاكها وإثارتها حتى الدموع, وتحريضها وتفريعها وربطها بفضل سجل الذكر والتذكير على صعيد لا وعيها الجماعي الأسطوري ودفعها إلى مغامرات ثميتة غير معقولة. وهذه السلطة نانئجة عن كون رجال الدين موجودين على موجة الشعب الطويلة بالذات.

إن قدرة الزعماء الدينيين مثلهم مثل الزعماء الجماهيريين العقائديين؛ على تحرك الجماهير والتلاعب بهاء وطاقاتهم المختزنة وملكاتهم العقلية وفرصهم الواقعية في تشكيل وعي الجموع البشرية» ليست كلها وبالضرورة نتاج سحر الأيدولوجياء وليست نتاج سحر الأفكار والشعارات التى يروج ها. لا يكفى أن يكون لدى المرء الأفكار العظيمة والمبهرة ليحرك الجماهير» بل يتعين علية أن يكون قادراً على استتناظ:معارقة المباشرة من الميندان» ويدرجة أكبر على تقديم تحليل ميداني لسلوك الجماهير والتعرّف على احتياجاتها. يرى شايغان إن التفاعل بين الملالي والجماهير في التجربة الإيرانية» كان على الدوام

- 231 -

الفصل الثاتي: الدوئة الكاريزمية

نتاج توافقات وتواضعات لما إطار تاريخي» فلقرون عدة كان الملالي هم القيمون الوحيدين على المعرفة من خلال المدارس الدينية السلفية ‏ مكتب خانة -. وكانواء على امتداد قرون يشكلون انتلجنسياً إيران» وذلك حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ولذا يصبح ‏ الملا كما يقول شايغان هو ( التعبير الشفهى عن الشعبء التعبير الخارجى عن عالمه الداخلى؛ فما يُفكر به أحدهما يعبر عنه الآخر» وما يتمناه أحدهما ينفذه ثانيهم). ‏ -

إذا تأملنا هذا النص الدقيق عن سيطرة الملا على المعرفة؛ وهذه قادته فعلياً وتدريجياً إلى السيطرة على الجماهير مع الوقتء فإن الجماهيري ستكون في هذه الحالة هي مصدر الاستبداد وليسث ضحيته. لقد تماهت مع صناعة واستمدت منهم معرفتها بالواقع؛ بل وتعلمت على أيديهم فن السيطرة والقدرة على إنتاج معرفة جديدة من نفس المادة الاستبدادية. ومن غير شك؛ فإن نموذج الثورة الجماهيرية الإيرانية الذي انتهى إلى نشوء نظام استبدادي تقليدي على أنقاض نظام استبدادي زائل» كان يحمل بذور فنائه الداخلية؛ فكما انتهت التجارب الجماهيرية بعقائدها العلمانية إلى نشوء وقيام أنظمة استبدادية؛ فإن التجارب الجماهيرية بإيديولوجياتها الدينية سوف تبلغ المصير ذاته.

إن الملا الشيعي العراقي المعاصر المؤيد للاحثلال الأمريكي والمدافع عنه» ومن منظور الفكرة الجماهيرية المطروحة هناء وني إطار فحص آليات عمله الثقافي داخل الكتلة الجماهيرية» هو مقلوب ملا شيوعي أو علماني ليبرالي أن وجهه الأخر. فهؤلاء جميعاً يلتقون في أساليب وطرق تعاملهم مع الجماهير؛ لقاء حميماً يبلغ حد التماثل فيما بينهم. إنهم يحولون الأيديولوجيا إلى مادة للتهيبج وإنتاج لعمليات التحشيد ذات الطابع الغوغائيء وفي الخاتقة

- 232 -

الفصل الثاتي: الدوئة الكاريزمية

تحويل السياسة إلى مادة ما دون الثقافة. بل وفصلها عن الثقافة وتقريبها من صورة الدين الجديد الذي يجب أن تدين به حشود يصعب مع الوقت فكاكها من قيوده. أنه دين قائم بذاته له فقهه الخاص به وله أسراره وطقوسه؛ وهو أيضاً فقه الثورة الجماهيرية الخلاصية التى آمنت بكل مهدي وبحتمية ظهوره. ولذلك سنرى أن رجال الدين وقادة الأحزاب الجماهيرية على حدٍ سواى لا يقيمون أدني فوارق مفهومية بين الشعب والجماهيرء ويرون إليهما ككتلة واحدة أو كاصطلاحين سياسيين يعنيان الشيء ذاته. بينما ينضح في إطار الممارسة أن الجماهير شيء آخر غير الشعب.

في دراسته الثمينة لدور الموجهين القادة الجماهيريين ‏ ( لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث - الجزء الخامس القسم الأول» بلا تاريخ نشر ولا اسم الناشر) ' توقف عالم الاجتماع العراقي علي الوردي ملياًء أمام ظاهرة لفتت انتباه امحتلين البريطانيين وأثارت حيرتهم عند دخوهم بغداد عام 1917؛ فقد اشتكت المس بيل في رسالة مؤرخة في 27 تموز / يوليو من العام نفسه من أنها حائرة» حقاً بتوصيف الوضع الحقيقي للنخبة الثقافية العراقية. إن بعضهم كان من أعز أصدقائه؛ ولكنها لا تجد مناصاً من الإشارة إلى ما يثير استغرابها في سلوكهم, فهم كانوا في عهد الأتراك يكتبون أعنف المقالات ضد الإنجليزء وهم يكتبون الآن في عهد الإنجليز مقالات أعنف ضد الأتراك. لاحظ الوردي أن الإنجليز عمدوا فور دخول بغداد في شراء الموجهين؛ والجماعات التي تلعب في المجتمع دوراً تحريضيأء كالأدباء والشعراء ورجال الدين والمفكرين والخطباء والمؤلفين. ويبدو أنهم افلحوا بعد وقت قصير وبوساطة إغداق الأموالء في

”'- الوردي ( د. علي ) لحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث. الجزء الخامسء القسم الأول - 233 -

الفصل الثاني: الدولة الكاريزمية

كسب أعداد كبيرة من هؤلاء بينما تمنع عدد قليل. وفي هذا الإطار جاء تكليف اللغوي والباحث المعروف الأب أنستاس ماري الكرملي إصدار جريدة ( العرب). كانت جريدة العرب هي صحيفة الاحتلال الرسمية؛ ومع ذلك تهافت الشعراء والكتاب على الكتابة فيهاء وبعضهم بأسماء مُستعارة ( لأنهم كانوا يخشون من عودة الآتراك إلى بغداد فينتتقمون منهم. ص: 33). ليس غريباً أن نجد في قائمة مُداحي الاحتلال كلاً من الزهاوي والرصافي» وهما وإن عادا مراراً إلى هجاء الإنجليز؛ فإنهما كانا من بين أكثر النماذج سطوعاً في الانتهازية خلال سنوات الاحتلال الأولى. بيد أن المشكلة التى واجهت الإنجليز في هذه الآونة» كما ارتأى الوردي إنهم لم يتمكنوا من اجتذاب فئتين من الموجهين: الملالي والأفندية.

تعنى كلمة الأفندية ( في الأصل وقبل أن تصبح في التعاملات اليومية حتى وقت قريبء. كاصطلاح يراد به الذين يرتدون الأزياء الأوربية الحديثئة من أبناء المدينة):

الموظفين أو العسكريين في العهد التركي؛ وهؤلاء وعلى الرغم من إنهم فقدوا مناصبهم وباتت أكثريتهم في وضع مزر؟ فإنهم ظلوا على ولائهم القديم رافضين الدخول في خدمة الإنجليز. كانت طبقة الأفندية حسب وصف المسر بيل والوردي» مقدرة فائقة على توجيه وقيادة الرأي العام وعلى إشاعة التذمر. لقد كانوا فضلا عن إطلاعهم على الشؤون السياسية من خلال مطالعة الصحف؛ وهو أمر غير ميسور بالنسبة للغالبية في ا جتمع إذ ذاك؛ يملكون معومات متنوعة جغرافية وتاريخية كانت تثير دهشة الناس البسطاء. وعلى الرغم من سطحيتها بوجه الإجمال كما يرى الوردي؛ إلا أنها كانت تعد علماً

- 234 -

الفصل الثاني: الدوئة الكاريزمية

عظيماً مقارنة بما كان الناس يملكون من معارف في تلك الآونة. اتخذ الأفندية الذين أصبحوا جمهوراً عاطلاً عن العمل مع سقوط الحكم التركي؛ من المقاهي لبغدادية بوجه خاص منابر لممارسة نشاطاتهم في التحريض على الاحتلال.

أما كلمة الملالي فالمقصود بها رجال الدين. وكما لاحظ الوردي؛ فإن الإنجليز افلحوا بعد وقت طويل (ص: 36) في اجتذاب بعض رجال الدين السنة:

وأخفقوا مع الشيعة. ويعزو ويلسون في مذكراته عداء الملالي ‏ الملائية ‏ الشيعة للإنجليز إلى نفورهم من اية حكومة منظمة. فهو يقول في ذلك : ( إن ملائية كربلاء والنجف والكاظمية هم باستثناء البعض منهم يعادون جهرأ أية حكومة دنيوية منظمة مهما كان نوعها. إنهم يدركون بجلاء إن وجود إدارة قديرة ومنظمة تنظيماً جيداً يؤدي إلى تحسين معيشة الجماهير. وأن هذا التحسين مع التربية الحرة سوف يؤدي إلى هدم نفوذهم وإلى تهديد ما يحلمون به من إقامة حكومة دينية. فهم لا يملكون من النظر ما يجعلهم يدركون إن هذا الاتجاه العام يشمل العالم كله ولا مفر منه)

لكن الوردي وهو يستخدم نص ويلسون( 8-<5002ه.آ :ده3و]111) هذا لا يوجه عنايته إلى ما فيه من سطحية في قراءة الأسباب الحقيقية لتمئع رجال الدين عمومأء والشيعة خصوصاً إزاء فكرة مساندة الاحتلال. ومع ذلك؛ فإن الأمثلة التي يسوقها الوردي في سباق تحليله لأدوار الملالي تبرهن على أن هذا التمئع يصدر في الأساس عن تراكب معقد في البواعث الدينية - الفقهية» وعن الحساسية المفرطة للمكانة التي يحتلها هؤلاء وسط جمهورهم. إنهم يعرفون مقدار الاحتقار الذي سوف يواجهون به إذا ما اندفعوا خلف الإنجليز. وهذا ما يبرهن عليه استخدام الاحتلال في هذا الوقت: علماء الحفيز ( مثمن كلمة

- 235 -

الفصل الثاتي: الدوئة الكاريزمية

أوفيس الإنجليزية». لقد كانوا يمقتونهم ويوجهون إليهم الاتهامات لأدنى بادرة يفهم منها أن ثمة صلة من أي نوع كان بقوات الاحتلال ولعل واقعة اتهام أسرة السيد حسن الصدر والد محمد الصدر الذي أصبح رئيساً للوزراء في ما بعد. ذات قيمة خاصة في هذا الإطار» فقد تعرضت الأسرة للتشهير بأنها قبضت الأموال من الإنجليز لمجرد أن المسز بيل قامت بزيارة السيد الصدر الأب في منزله بمنطقة الكاظمية. في وقت تال ومع إخفاق الإنجليز في اجتذاب الدعاة والموجهين إلى صفوفهم, تطورت روابط وثيقة من التعاون بين الملالي والأفندية. وهذا أثمرت تعاظماً في الصلات والروابط بين رجال الدين الشيعة والسنة ( ص: 39) ولذا كان مألوفاً في عهد الاحتلال:

حضور الأفندية إلى مجالس الملائية ‏ الملالي - وتقبيل أيديهم والجلوس بين أيديهم باحترام وخشوع. إن الأفندية أدركوا ما للملائية ‏ الملالي من نفوذ قوي وكلمة مسموعة في أوساط العامة وشعروا أنهم يجب أن يتعاونوا لكي تكون دعايتهم المناوئة للإنجليز أشد تأثيراً وأوسع نطاقاً.

بيد أن هذا التعاون ما لبث أن انهار مع فشل الثورة. رأى الأفندية مع تشكيل الحكومة العراقية ‏ ما يدعى الحكم الوطني ‏ أن الأهداف التي كانوا ينشدونها من هذا التقارب قد تحققت؛ بينما ارتأى رجال الدين أن المعركة مع الاحتلال لم تنته بعد.

إن الجماهير كما لاحظت حنة ارنت بحقء هي المادة المتحللة من الطبقات والفئات الاجتماعية والبت تجمعت في إطار هلامي؛ تفككت فيه العلاقات والروابط بحيث بات ممكناً لقوة أيديولوجية أو سياسة ماء ومهما كان نصيبها من النجاح وقوة التنظيم؛ أن تحصل على نصيب من المؤيدين والأنصار فيهاء وأن تغرف من داخل هذه الكتلة الهلامية ما يلزمها لتنمية القوة والنفوذ.

- 236 -

الفصل الثاني: الدوئة الكاريزمية

بل وتقوم بتنمية وتشكيل مجتمعات صغيرة داخل كتلة قيادية لا تكف عن إنتاج زعماء دكتاتوريين. على هذا النحو تتشكل مجتمعات صغيرة عقائدية ذات طبيعة استبدادية ستعيش على هامش المجتمع» ولكنها تتصرف باستمرار على أنها الشعب وهي ممثله؛ بينما ينزوي المجتمع الحقيقي في مؤخرة المسرح غارقا في همومه ومشكلاته وعذاباته.

إذا ما وضعنا هذا الإطار التاريخي تحث تصرف مقاصد بحثيّة صرف. هدفها معاينة سلوك الجماهير وآليات عمل أحزابها ‏ في التجربة العراقية ‏ فسوف نخلص إلى استنتاج واستنباط سلسلة من التمائلات القابلة للتكرار» ستعيدنا مرة أخرى إلى التأمل في الانطباعات الحزينة للضابط العراقي الشهيد صلاح الدين الصباغ أثناء جنازة أتاتورك. 1

اليوم يبدو التاريخ وكأنه يكرر نفسه ولكن بصورة ساخرة ‏ بتعبير ماركس - إذ بينما تصارع تركيا من أجل الانضمام إلى الإتحاد الأوربي ويتجه امجتمع في تركيا حديئة ومتطورة وبكل قواهماء لملاقاة العصر والتفاعل معه بصورة خلاقة» وبينما تصارع إيران من إفلات برناجها النووي الطموح من التفكيك لتظل قوة مهيمنة وكاريزمية في المنطقة؛ فإن العراق يجد نفسه وهو يصارع أيضاً ولكن من أجل البقاء لا كدولة ‏ فهذه انتهت أمحيت من الوجود - بل كمجتمع موحد. لقد انهار حلم التحديث في العراق مع محو الدولة وتمزق امجتمع في ظل الاحتلال الأمريكي. لكان التاريخ توقف منذ أن كتب الصباغ تأملاته الحزينة تلك عن سوء طالع العراق في ظل الاحتلال البريطاني

-237-

الفصل الثالث: مأزق التحديث مأزق التحديث

يتطلع هذا الفصل إلى رؤية مأزق التحديث في العراق من منظور آخر؛ مختلف ربما كل الاختلاف عن المنظورات المطروحة والسائدة في السرديات التاريخية عن العراق» سواء في المؤلفات التى تنارلت هذه الحقبة الطويلة من التاريخ السياسي والاجتماعي, أم في مذكرات رجال السياسة من العهد الملكي وما بعده؛ إذ ثمة رابطة وثيقة بين فكرة التحديث والإصلاح وبين مفهوم السياسة كما نشأ وتطور في عراق 1932 - 1958. فبنما كان مشروع التحديث يزمجر فوق إيران وتركيا كالإعصار ‏ باستخدام توصيف ج. ج ساوندرزء في البدو وبناء الإمبراطوريات - كان الإعصار نفسه يمر فوق العراق ابتداءً من العام 1906 - 1908 من دون أن يترك كما رأيناء سوى أثر ضئيل على البلاد التي راحث ترقب ثذره بكثير من الصبر. يمكن في الحقيقة» تقديم الكثير من البراهين على أن مأزق التحديث في عراق الملكية ( الدستورية الديمقراطية» أبما أرادها الملك فيصل الأول) بدأ فعلياً مع إخفاق النخب السياسية والفكرية العراقية في التمسك بقوة بمطلب صياغة الدستور بعد استفتاء العام 1919 ثم عام 1922. وهو يبدأ كذلك» بعد عام واحد فقط على ما يُدعى في الأدب السياسي العراقي بمرحلة الاستقلال الحكم الوطني؛ أي منذ ما يقرب من عشر سنوات قبل التاريخ أعلاه وما ينجاوز الثمانين عاماً من الآن.

كما أن هذا الإخفاق المأسوي يبدأ استطراداء مع فشل النخب السياسية العراقية في تحويل المطالبة الشعبية المتصاعدة التى لعب فيها رجال الدين دوراً بارزً» والداعية إلى تمكين العراقيين من كتابة دستورهم بعيداً عن الوصاية البريطانية؛ إلى حركة اجتماعية كبرى تستلهم روح الثورة المشروطية في إيران

- 239 -

الفصل الثالث: مأزق التحديثن ‏ »4ع وتركيا. وكان يمكن, لولا جخدع التاريخ» لثورة اجتماعية من هذا الطراز وبوسائل سلمية على الأرجح؛ ومن دون ما حاجة فعلية إلى وسائل عنيفة واستثنائية - ولنقل بموازاتها وبالتلازم بين كل الوسائل السياسية والعسكرية - أن تكون استكمالاً لثورة 1920 التى هُّزمت عسكرياً. بيد أن شيئاً من هذالم يكن قابلاً للتحقق وتبددت مرة أخرى آمال العراقيين باللحاق بالعصر؛ إذ لم تكن هناك تقريباً» فكرة مركزية في الفكر السياسي آنئذر يمكن أن يتوحد حولها الشعب. حتى فكرة الاستقلال التي طرحها الشيرازي بوضوح وقوة ودعا العراقيين إلى التمسك بها في رسالته الشهيرة» أخفقت في النهاية مع تراخي الروح الوطنية الجامعة.

كما لم تكن هناك تصورات فكرية دقيقة عن الأهمية الحاسمة لإعادة صياغة العقد الاجتماعي القديم. الذي عاش العراقيون تحت ظلاله منذ سقوط الدولة العباسية وبداية عصر الاحتلالات الإيرانية والتركية ثم البريطانية» وهذا المرة على أسس عصرية. لقد تبين وبسرعة خاطفة وفور فشل الثورة» أن شعار جمعية حرس الاستقلال القائل بوحدة المذهبين الكبيرين الشيعي والسني, لم يتخط حدود المباهاة بإمكانية تحدي المشاعر الطائفية التي شجع الإنجليز على تصعيدها في الوسط الشعبي. كما لم تكن هناك كما يبدو في المؤلفات والخطب والكتابات التى تركت لنا طوال هذا الوقتء أدنى فكرة عن ضرورات إبرام عقد اجتماعي جديد على أسس عصرية وحديثة؛ بين كل طبقات وطوائف وتعبيرات المجتمع العراقي؛ يكون هو المدخل الصحيح لحلم التحديث على غرار ما حدث في البلدين الجارين إيران وتركيا. على الضد من ذلك» ساهمت المناورات السياسية داخل وخارج البلاط الملكي؛ في تقويض الأسس التي يمكن أن يقوم عليها الإصلاح السياسي والاجتماعي. إن التأملات الحزينة للضابط العراقي العروبي الشجاع صلاح الدين الصباغ, أثناء مشاركته باسم العراق في

- 240 -

الفصل الثالث: مأزق التحديثن "<8ثبلادلالدٌه'ببج ل جنازة أتاتورك 9 حين صلمته مشاهد الحداثة والتقدم والمدنية في تركياء ثم في إيران التي عرج عليهاء بوسعها أن تنبى عن حقيقة ساطعة أخحرى؛ فقد كان حلم التحديث في العراق يتبدد ويغدو سراب مع إخفاق النخب في إدراك الطبيعة المأسوية للبقاء خارج العصر. ولكن؛ وبمقدار ما تبدو النخب مسئولة عن هذا الإخفاق بسبب النقص الفادح في التحليل؛ والقدرة على قراءة الواقع قراءة صحيحة ودرجة تنظيم الصفوف والطاقة الخلاقة على حشد أنصار الحداثة؛ فإن لمن دواعي العدل والإنصاف التنبيه إلى الطبيعة المخادعة للسياسة البريطانية في هذا الوقت» والتى ضللت وأوهمت لا النخب وحدها وإئما الجتمع بأسرهء حين طرحت بديلاً للتحديث هو التبعية. وفي هذا الإطار فإن سلسلة من المعاهدات الجائرة ‏ بورتسموث مثلاً ‏ والأحلاف ذاث الطبيعة العسكرية العدوانية - حلف بغداد ‏ والتى جرى فيها تكبيل العراق وتقييد يديه بالأصفاد» لم تكن في حقيقتها سوى تعبين لحدود التبعية وآفاقها. حقى التبعية كما سوف يتضح؛ لم تكن سوى وهم آخر تم تسويقه كمصدر للمنافع الاجتماعية والاقتصادية» أي للتقدم والرقي باسم الصداقة مع بريطانيا العظمى, القوة الأعظم في علم ما قبل الحرب العالمية الثانية.

لقد تكشفت التبعية ذاتها التى دافع عنها نوري السعيد بحرارة» كخيار تاريخى وحيد متروك أما عراق ضعيف التطور, وبررها بعض أعضاء العائلة السياسية المهُيمنة على الحياة العامة في الأربعينات من القرن الماضي باسم الواقعية؛ عن وهم فظيع لم يجلب للعراقيين المنافع بمقدار ما أبقاهم نحت شروط إعادة إنتاج الاحتلال. وبالفعل» كان الحكم الوطني أو ما يُدعى الاستقلال جرد إعادة إنتاج للاحتلال لا أكثر ولا أقل. بينما كانت التبعية؛ في المقابل؛ تُعرض نحت اسم حركي مُضلل هو الصداقة مع بريطانيا. ومع ذلك؛ وتحت هذه الشروط التاريخية القاسية والمجحفة تبنى الملك فيصل الأولء نظرياً ودون

- 241 -

الفقصل ائثالث: مأزقالتحددث_/ه1/طهظفللببتب ب ل _ كثير جدوى ومن دون إيمان حقيقي, الدعوة إلى أكبر عملية تحديث في عراق. كان يتطلع بلهفة إلى استرداد كاريزميته. بيد أن هذا التحديث النظري تكشف عن كونه عملية ترقيع تجري تحت سقف الاحتلالء المعاد إنتاجه باسم الحكم الوطني؛ وفي شروط اجتماعية وسياسية داخلية وخارجية لا تقل قسوة وفظاعة عن شروط الاحتلال نفسه.

لم تكن الطبقة السياسية» وعلى رأسها الملك فيصل الأول نفسه مع كل هذاء لتتحلى بما يكفي من الشجاعة؛.من أجل مصارعة الشعب بحقيقة أن برنامجها للإصلاح والتحديث في شروط الاحتلال والتبعية» لا ينضمن مقداراً كافياً من الجدية» وأنه يصطدم في كل لحظة بمعوقات يستحيل تخطيها؛ إذ لم تكن هناك أموال كافية للشروع بعلم حقيقي على صعيد تطوير البنى النحتية؛ أو لإصلاح التعليم وتحديثه أو إنجاز تحولات بنيوية حقيقية في المجتمع؛ كما أن بريطانيا الصديق والحليف لم تكن مستعدة للدفع بسخاء لبلد أصبح عبثاً سياسياً وأخلاقياً. والمدهش أن هذا البرنامج الذي تعثر منذ خطواته الأولى في الأربعينات لم يكن يتضمن طموحات أو آمالاً كبيرة تنجاوز الترقيع في حقول الخدمات الصحية والرعاية الاجتماعية والتعليم. وعلى سبيل المثال؛ فإن منهاج عمل الوزارة السعيدية الثالئة وضع الخطوط العريضة ليزانية عام 9 -1942 على أساس تخصيص مبلغ 11 مليون دينار عراقي فقط»من أجل الأعمال العمرانية. في النهاية» لم تتمكن الوزارة إلا من إنشاء سد واحد هو سد الكوت وتأسس مصرف زراعي وآخر صناعي وثالث برأسمال قدره نصف مليون دينار بمشاركة القطاع الخاص. وباستثناء نجاح الوزارة في تأسيس دائرة الإحصاء من اجل تطوير عمليات جمع وتنسيق المعلومات التجارية والاقتصادية؛ فإن أي نجاح أخر لم يتحقق. في هذه الأجواء كانت نذر الحرب

- 242 -

الفصل الثالث: مأزق التحديث لل للب((((((ببببببب ب يبييبي جح العالمية الثانية ُزمجر في سماء العراق بدلاً من إعصار الحدائة» ولاحت في الأفق يومئلر عواقب وخيمة لم تكن في الحسبان.

م يكن هناك برنامج تعليمي حقيقي من أجل تهذيب وتعليم الشعب كما وعد الملك فيصلء الذي وافته المنية تاركاً العرش في عهدة ابنه غازي. كما لم تكن الطبقة السياسية التى غرقت في مستنقع الفساد المالي والإداري والمناورات والخصومات المستفحلة؛ تملك بدائل واقعية خارج سقف الاحتلال المعاد إنتاجه. وفي خاتمة المطاف لم تتمكن الوزارات الْمتعاقبة من تحقيق الوعود الكثيرة التى أطلقتهاء ربما باستثناء تشديد الرقابة على التجمعات الخيرية والثقافية سوية وجنباً إلى جنب مع تشديد المراقبة على التسول وملاحقة المنسولين؛ كما جاء ‏ ويا للعجب - في نص منهاج الوزارة السعيدية الرابعة؛ الذي ألقي على أسماع الجماهير بواسطة مكبرات صوت نصبتها المعتمدية البريطانية في الشوارع؟. لقد برهن هذا النص من منهاج الوزارة أن تشديد الرقابة على الحريات العامة تماثل ومساو لتشديد الرقابة على التسول والمتسولين. وفي هذا التماثل ما يكفي لكي نعلم الكثير» عن الطريقة التي كانت فيها الطبقة السياسية تحكم البلاد الحالمة بالتتحديث. أدك نوري السعيد ريبما بأكثر ما أدرك خصومه؛ ان محاولات تخطى شروط التخلف والتبعية أضحت قيربا من اخيالة ران كل يا بات يضارة مق اجله كتانن؟ قا هو إزاعنة خصومه بأي ثمن والبقاء في موقعه القوي. ولذا ركزت سائر مناهج عمل وزاراته المتعاقبة على الوعد بإصلاح الحياة السياسية وتأسيس حياة ديمقراطية ودستورية جديدة» وهي وعود ثبت أن لا معنىّ حقيقياً لها.

مع تعثر مشروع التحديث في أرض الواقع؛ ثم غرق البلاد بالنتائج المأسوية للحرب العامية الثانية» دخل العراق طوراً جديداً من أطوار السياسة هو ارتباطها بالجريمة. وسوف نرى منذ الآن» كيف إن السياسية بالعراق

- 243 -

الفصل الثالث: مأزق التحديثن ‏ 6 لهالدلشٌ/جحجح____ ل كمفهوم. أخذت ترتبط أكثر فأكثر في وعي السياسيين والجماعات الجديدة النشطة ‏ ومعظمها من أصول فلاحية ‏ بالعنف والجريمة. ومن غير شك؛ فإن البيئة الفلاحية التى تعشش فيها أفكار الثأر من الخصوم, والتى يتحول فيها الولاء للحزب أو العقيدة إلى ولاء أشبه ما يكون بالولاء العشائري أو القبلي أو المذهيءهي بيئة نموذجية لولاة هذا التوام السيامي العجيب: ْ

السياسة والجريمة. كما سنرى كيف أن الولاء للحزب أو العقيدة أو الزعيم في بيئة من هذا النوع» سيكون مصدراً من مصادر تبلور وترسخ مفهوم السياسة في وعي الجماهير كولاء ديني أو مذهي. فبعد نحو أربعة أشهر فقط من إعلان منهاج الوزارة السعيدية الثالشة بوعودها الإصلاحية الزائفة» وقع الحادث الأكثر غموضاً في تاريخ العراق السياسي والاجتماعي: مصرع الملك غازي. وم يتوقف الأمر عند هذا الحد. إذ بعد أقل من عام واحد فقطء وبينما كان المجتمع العراقي يفيق من ذهول الصدمة؛ بغيات الملك المحبوب غازي؛ وبينما كانت نيران الحرب تشتعل لتبلغ آثارها العراق بارتفاع الأسعار وتفاقم ظروف الحياة العامة صعوبة وسوء. أفاق المجتمع العراقي مرة أخرى. على هول أول جريمة سياسية تتم في وضح النهار؛ حين جرى اغتيال السياسي السوري رستم حيدر. على الفور اتجه الخيال الشعي نحو شخص نوري السعيد وتم علنا إلقاء التهمة بوجهه.

هذان الحادثان المروعان» كانا من بين أكثر الحوادث تأثيراً على سلوك نوري السعيد.

وقع الحادث الأول مساء الثالث من نيسان 1939 أي بعد نحو أربعة أشهر فقط من إعلان تشكيل الوزارة. إن مُلابسات الحادث كما استفاض الباحثون في شرحها ورسم أبعادها وبالطبع لا حاجة بنا لتكرارهاء تشير إلى

- 244 -

الفصل الثالث: مأزق التحديث تورط البريطانيين في عملية الاغتيال للتخلص من الملك الوطني» الذي كان موضع إجماع شعي تقريباً. ويبدو أن البريطانيين كما يتضح لي من تحليل جملة من المطيات» كانوا وراء إشاعة فكرة فظيعة عن صلة مزعومة لنوري السعيد بالحادث. ومع أن عملية الاغتيال ( حيث اصطدمت سيارة الملك الشاب بعامود كهرباء في شارع عام) تفوق طاقة وإمكانية أي سياسي عراقي على تدبيره من الناحية التقنية» وربما يجدر بالباحثين عن الحقيقة التساؤل عن صلة البريطانيين بهاء فإن الوثائق البريطانية السرية التي سوف تُسرب على الباحثين العراقيين خلال السنوات التالية» ستشير من طرف خفي إلى مصلحة لنوري السعيد في التخلص من الملك» ولكن من دون توجيه أي اتهام له. لا ريب أن البريطانيين بما عرف عنهم من دهاء. استغلوا الخلافات بين الملك الشاب ونوري السعيد. وحين تخلصوا هم تمن الملك لأسباب كثيرة» منها تمتعه بروح استقلالية مثيرة لقلق بريطانيا على العراق ومستقبله؛ فقد وجدوا في شخص نوري السعيد كبش محرقة نموذجياً. وكما بينت في كتابي السابق ( علي بابا: ‏ الريس - بيروت وجريدة القدس العربي. لندن» مصدران مذكوران) فإن السبب الحقيقي لرغبة البريطانيين في إحراق نوري السعيد» يكمن في اتصاله المبكرة مع الأمريكيين» والتى جادل فيها حول مسألة مستقبل العراق وحاجته إلى أموال للشروع في عمليات الإصلاح.

كان مشروع الكونفدرالية العراقية ‏ الأردنية» بدخول الكويت الصغيرة والغنية كطرف ثالث. إلى إتحاد يضمها فعليا ونهائيا ولنقل يعيدها إلى العراق؛ هو حلم نوري السعيد الشخصي؛ بل ومن بين أكثر أحلامه قبولاً عند الأمريكيين؛ بينما على العكس لقي صداً قاسياً من جانب البريطانيين. برأيي إن البريطانيين باشروا ابتداء من هذا الحادث؛ بتمهيد السبيل للتخلص من صديقهم العجوز الحالم بالإصلاح والتحديث واسترداد كاريزمية العراق

- 245 -

الفصل الثالث: مأزق التحديث التاريخي؛ عبر تمدده على شواطئ الخليج العربي جنوباًء وإلى ضفاف المتوسط غرباً بواسطة معونة أمريكية مباشرة. كان مصرع غازي إيذاناً بحقبة جديدة في السياسة البريطانية في العراق» أساسها التخلص من الصديقين الغريمين: المللك ومنافسه العنيد نوري. إن طموحاتهماء وإن بدت على طرفي نقيضء كانت ستؤدي إلى وقوع العراق تلقائياً في أحضان الولايات المنحدة الأمريكية؛ التي بدا أنها كانت تدرك حاجة العراق إلى الساحل البحري بضم الكويت» كما تدرك حاجة سباسيبه إلى الأموال من أجل تنفيذ برامج إصلاح حقيقية؛ وهذه لن يكون بالوسع الحصول عليها من دون عودة الكويت إلى الحاضنة العراقية.على الطرف الآخر كان السعيد يتوقع ويتنبا بخروج الولايات المتحدة الأمريكية» من الحرب العالمية بعد وقت قصير من هذا الحادث, كأقوى دولة في العالم» وبالتالي فقد كان عليه التعامل معها بوصفها الحليف المرغوب به في العراق. رد تكله إن نج اناا اعون رعنيب جلتي بهذا الرتفار إيرادها ( وسأترك ذلك لأسباب تتعلق بتقنية الكتاب إلى مناسبة أخرى) كانت تقف خلف قرار التخلص من نوري السعيد وغازي.

صدم نوري السعيد لا من هول الحادث؛ بل ومن ردة الفعل الجماهيرية الغاضبة. أسرعت الجماهير في مكان لتلقي بوجهه مسؤولية مصراع الملك. وعبثاً حاول إقناع خصومه ومنافسيه والجماهير على حدٍ سواء, بأنه بريء من دم غازي؛ بينما كانت الأهازيج والمتافات والشعارات تغمر الفضاء السياسي العراقي برمته. سمع نوري بنفسه ذلك الحتاف المروع الذي أنذره بمصيره المشئوم» فقد تعالت من حوله أغنية حزينة رددتها الجماهير الغاضبة على مصرع مليكها ا حبوب:

آه من الوزارة اشلون غدّارة لو ابنه جبير جان أخذ ثاره.

- 246 -

الفصل الثالث: مأزق التحديث

بلغ الهياج ذروته في الموصل» حين انطلقت تظاهرات شعبية وطلابية راحت بصيحاتها الغاضبة تهز المدينة. ثروي سعاد رشيد محمد ( نوري السعيد ودوره - جامعة بغداد. رسالة ماجستير صدرت تالياً ككتاب) إن حازم المفتي الزعيم الطلابي العراقي البارز في هذه الآونة» أخبرها أن وفداً طلابياً ذهب لمقابلة السعيد بعد الحادث. وأثر محاصرة القنصلية البريطانية في الموصل حيث جرى هناك قتل القنصل البريطانى مارسون 7125508 شر قتلة؛ كيف أن نوري السعيد اتصل بعميد كلية الحقوق طالباً مساعدته في عقد لقاء مع وفد من قادة الطلاب الحائجين. يروي حازم في كتاب سعاد ‏ أن السعيد استقبلهم وهو يردد ( أولادي: إنكم أخذتم عنى فكرة وكأنني أنا الذي حرضت على قتل الملك. إنني أناشد ضمائركم الوطنية: اذهبوا إلى السيارة ‏ التي اصطدمت بعامود الكهرباء: المؤلف - وعاينوا الوضعية بأنفسكم ثم احكموا كيفما تشاؤون). وحين ذهب هؤلاء بالفعل إلى مكان الحادثء؛ وعاينوا الأسلوب الذي جرى في اغتيال الملك. أدركوا أن الأمر ينطوي حقيقة على غموض. ولذا صرف الطلاب الأمر عن مواصلة المياج واكتفوا بحفل تأبيني للملك الشاب.

بعد هذا الحادث قدمت الوزارة السعيدية الثالثة استقالتها وتلاشى حلم الإصلاح مرة أخرى. في أعقاب ذلك وفي السادس من نيسان / أبريل 1939 تم تكليف نوري السعيد تشكيل الوزارة السعيدية الرابعة» بينما بدت الحرب العالمية الثانية وكأنها تقرع أبواب العراق. في 18 كانون الثاني / يناير 1940 وبعد أشهر قليلة على إعلان برنامج الوزارة السعيدية الرابعة؛ الذي تضمن وعوداً جديدة بالإصلاح» وقع حادث الاغتيال الثاني المروع الذي ذهب ضحيته كاتم أسرار الملك فيصلء وأكفا وزرائه السياسي الإصلاحي السوري رستم حيدر. كان رستم حيدر من مواليد بعلبك وقد التحق بالملك فيصل

- 247 -

الفصل الثالث: مأزق التحديث ‏ ©بللهبعظعشظ[//'. جحت ___ سس الأول» عندما أصبح ملكأ على سورية» ولذا عهد إليه إدارة وزارة المالية نظراً ما يتمتع به من شخصية جذابة وثقافية واسعة. ينتمي رستم سياسياء إلى العائلة السعيدية التى تضم الكثير من التلاميذ والأنصار والمؤيدين والمعجبين؛ وكان هو نفسه أحد أكثر تلاميذ نوري السعيد إخلاصاء ولكن من النادر أن يكون عرف في أي وقتء بالتطرف أو المغالات في آرائه خصوصاً لجهة موالاة الإنجليز كما هو حال معلمه. تسبب حادث مصرع رستم حيدر؛ الذي جرى في مبنى وزارة المالية على يد شخص مقرب - ويا لسوء الحظ ‏ من نوري السعيد يُدعى حسين توفيق» في ارتباك نوري السعيد الذي لم يكد آنكل» يستفيق من هول صيحات الجماهير. هذه الجماهير المائجة الذي طاردته سياسيا في الحال. ولاحقته بالاتهامات وبالمسؤولية عن مصرع غازي.

إن المؤرخين وكتاب التاريخ السياسي الاجتماعيء نمن اهتموا بسرد قصة هذه الواقعة» لم يلاحظ الصلة الافتراضية والمتراكبة بين الحادثين. وإذا ما وضع حادث اغتيال رستم في سياق محاولات الإنجليز حرق صديقهم السياسي العجوز والطموح؛ فإن تدبير عملية اغتيال سياسي يهذا الحجم وفي ظروف من هذا النوع» ستبدوا وكأنها جاءت لإثارة فوضى سياسية تنعدم معها كل فرصة ممكنة» للتطبيق الحقيقي والفعال لبرامج الإصلاح الموعود. ويبدو من جملة مُعطيات يمكن تحليلها في هذا السياق, أن الإنجليز استغلوا بالفعل وبشك خفي شخصاً مُقرباً من السعيد للقيام بعمل من هذا النوع» من أجل تسهيل عملية إلقاء التهمة عليه وتسويقهاء وذلك بتهييج الجماهيير من حوله لإحراقه أو تحطيمه. ولسوء طالع نوري السعيد, فإن أحد المقربين إليه كان يحتفظ» بالفعل» بخصومة سامة ومدمرة ضد رستم؛ وكان إلى هذا كله يكن كراهية مرضية للسوريين. ومن المرجح في هذا الطراز وعملوا على تشجيعه من أجل ارتكاب جريمته. ثمة دلائل أخرى أهم من ذلكء. تشير إلى أن للاغتيال صلة وثيقة

- 248 -

الفصل الثالث: مأزق التحديثن ‏ 0©ثللثل.ٌشادشح <ت7_ سس بمخاوف البريطانيين من وجود رستم حيدر ونفوذه في هذه الآونة» إذ كان رستم يؤيد فكرة حياد العراق في الحرب ويتمئّع إزاء تأييد العراق للحرب ضد الألمان» بالسهولة والبساطة التي أرادها البريطانيون من الساسة العراقيين. هذا التمنع أو التردد على الأرجح؛ هو ما رأى فيه الإنجليز خدمة مباشر للألمان» وقد يكون هذا العامل هو الأكثر قبولاً في تفسير حادث الاغتيال. لقد تخلص الإنجليز ثمن شخصية سياسية هامة» كان يمكن لما أن تثير المتاعب في وجه مشروعهم لزج العراق في الحرب ضد ألانية» وفي الآن ذاته تمكنوا من وضع الحليف العجوز نوري السعيد في القفص. بيد أن صلاح الدين الصباغ ( مذكرات: ص: 144). الذي يؤيد هذا التصور؛ ينساق مع ذلك وراء إلقاء المسؤولية المباشرة على نوري السعيد بفعل كراهيته المتاأصلة لسياساته. يروي الشهيد الصباغ في هذا الؤطار؛ رواية ينسبها إلى العقيد سعيد يحيى الخياط عضو المجلس العسكريء الذي حكم بإعدام القاتل» يؤكد فيها أن القاتل كان يصيح من زنزانته في الليل: ( نوري. نوري. أنت الذي أغريتني. أنت الذي وعدتني. أنت تشنقني؟ آه يا نوري). ومع هذا؛ فإن الصباغ نفسه يروي بعد اسطر قليلة من هذه الرواية» رواية أخرى عن لقاء تم بينه وبين السعيد؛ يمكن أن يفهم منها السعيد هو ضحية الحادث وليس صانعه؟ شعر نوري السعيد بعد حادث اغتيال رستم مباشرة؛ أن وزارته الجديدة أضحت ضعيفة بفقدان ركن هام من أركانهاء ولذا سارع إلى الاتصال بكتلة الضباط القوميين ودعاهم إلى منزله ( ومن بينهم العقداء الأربعة صلاح الدين الصباغ وفهمي سعيد وكامل شبيب ومحمود سلمان). في مساء الرابع من شباط / فبراير 1940 جلس نوري السعيد وضيوفه الضباط إلى العشاء في صالة منزلة المطل على نهر دجلة؛ وراح يبئهم شكواه من تدهور الأوضاع السياسية في البلاد. تركز النقاش حول فكرة التخلي عن الوزارة لصالح تكليف رشيد عالي الكيلاني» على أن يكون هو

- 249 -

الفصل الثالث: مأزق التحديث فيها وزيراً للخارجية. وحين انتبه السعيد ‏ وهو يحدث ضيوفه ‏ إلى صمت الصباغ وانعدام أي أثر للحماسة لديه للمشاركة في النقاشء بادر إلى سؤاله: على المائدة دون تردد:

إن الأمر امير هو قصر عمر الوزارات في العراق. فكل وزارة تقوم تأتي بمنهاج. وتزعم أنه يدر على البلاد ذهبا وهاجا. ولكن الوزارة تسقط قبل أن يجف المداد على منهاجهاء فتأتي أخرى بمنهاج غيره» وتزعم أن المنهاج الأول كان ملحا أجاجاً. هل الإنجليز هم السبب في عدم الاستقرار هذا؟

أصغى نوري مندهشاً لتساؤلات الصباغ وراحث أصابعه تعبث بجبات المسبحة. فيما بدت على وجهه علامات الارتباك والحيرة. لم يكن لديه جواب مقبول. انتهى اللقاء نهاية صاخبة حين غادر الضباط البارزين ‏ فهمي سعيد - المنزل غاضباً وهو يردد: ( لقد جعلتم منا ضحية لسياساتكم ووعودكم). بينما جال في خاطر الصباغ في تلك اللحظات أمر واحد لا غير: إن السعيد يتلاعب بالضباط العروبيين وهو يريد منهم اليوم؛ كما أراد منهم بالأمسء. مساعلته على حماية طموحاته الشخصية والترويج لمشاريعه الوهمية بالإصلاح والتحديث وأن يظل:

رئيساً للوزارة فيطبق ما في جعبته من مشاريع وأعمال جبارة تدعم استقلال العراق.

بهذه النبرة التهكمية على وعود الحداثة» أنهى الصبغ حديئه مع نوري السعيد. ولكن: لماذا شعر نوري بضعف وزارته بعد مصرع رستم؟ يتساءل الصباغ ( أنه سر لا يعلمه إلا نوري والإنجليز» وخطة مرسومة سار عليها نوري). في الواقع لم يكن ثمة من سر حقيقي يجمع نوري السعيد والإنجليز,

- 250 -

الفصل الثالث: مأزق التحديث عع لاب بابي بمقدار ما كانت هناك رسالة رمزية أوصلها البريطانيون لصديقهم العجوز ممهورة بدم أحد تلاميذه: لا مكان لأي وزير يريد حياد العراق في الحرب. أدرك نوري السعيد أن حادث اغتيال رستم حيدر يتضمن تهديداً شخصياً له بوجوب تغيير خططه وتصوراته عن دور العراق» الذي يجب أن يتخلى عن حلم الإصلاح اليوم؛ وينخرط محماسة في لعبة الحرب. كما أنه كان يتضمن رسالة قوية لفريق من الضباط من بينهم الصباغ نفسه؛ بأن كل محاولة لفتح الأبواب أمام الألمان ستكون باهظة الثمن. وإلى هذا كله. لا يعدم المرء رؤية الاستغلال الرهيب لسوء الظن المزمن بنوري السعيد في أوساط الضباط العروبيين؛ وكان يمكن لحادث من هذا النوع أن يفاقم من سوء الظن وإن يثير زوبعة جديدة من الشكوك والالتباسات. لقد نجح البريطانيون مرة أخرى في إحراق أطراف من ثوب صديقهم العجوزء لتنبيهه بأنه ليس بعيداً عن دائرة النيران الحارقة. ولذ شعر السعيد أن وزارته هي الآن أضعف بموت رستم.

في الثامن عشر ممن شباط / فبراير وبعد أيام من اللقاء العاصف مع الضباط العروبيين» جمع الفريق حسين فوزي رئيس أركان الجيش العراقي في منزله؛ الضباط العروبيين أنفسهم وأبلغهم نبأ استقالة وزارة السعيد. تسارعت الأحداث بعد ذلك وسط ذهول وحيرة الجتمع السياسي. ولكن لم يمض سوى وقت قصير حتى كلف السعيد تشكيل وزارة جديد. وعند تشكيل السعيد لوزارته الخامسة عاد هذه المرق ليركز لا على منهاج الوزارة وطرح وعود التحديث والإصلاح, كما كان يفعل في المرات السابقة؛ بل على الإجرام السياسي بوصفه علة العلل في العراق. ها قد عاد نوري السعيد بُعيد مصرع تلميذه السوريء ليعالج الموضوع الأثير ذاته: الجريمة والسياسة. منذئل, سوف ترتبط السياسة في العراق بداء الإجرام حسب تعبير نوري السعيد. ومن غير شك؛ فإن الرجل الذي صاغ هذا المفهوم الغريب ( داء الإجرام السياسي) لم

- 251 -

الفصل الثالث: مأزق التحديث د ج ‏ ا ال د _ م يكن قادراً على التنبؤ بأنه سيكون؛ هو نفسه. الضحية التالية بعد الملك غازي والوزير رستم. لقد أخفقت الحداثة وتلاشى حلم التمدين الاجتماعي بينما تحولت السياسة إلى داء إجرامى. كان على نوري السعيد أن يعيش حياته السباسة ملل الآن وى مصرعة ف قل الخوف من هذا الذاء الذي يندا بالتفشي وسط الجماهير. ومن غير شك أيضاً؛ فإن لا أحد بعينه» سواء أكان نوري السعيد؛ أم أي سياسي آخر هو المسئول عن تفشي الداء. كان هناك جملة من العوامل المتشابكة الاجتماعية والسياسية والثقافية التاريخية»؛ هي التي رعت ولادة هذا الداء وسهرت عند مهد انتشاره. من السهل بالطبع إلقاء الذنب على شخص بعينه» جراء ألاعيبه السياسية أو مناوراته. بيد أن وجود شخص متهم لا يكفي لتفسير الأسباب العميقة للمشكلة؛ فقد يكون المتهم نفسه ضحية؛ مثله مثل الضحايا الذين راحوا يتساقطون صرعى في ميدان الجماهير.

إن تحليل هذا المفهوم الملتبس الذي يجمع السياسة بالجريمة» داخل إطار مفهومي واحد. يتطلب إدراك جملة من الحقائق في أساسها: أن معرفة من نوع ما باتت هي المسيطرة. ليست هذه المعرفة سوى الفكرة الجديدة المتتصرة في ظل المأزق واستمراره ‏ مع فشل محاولات تمدين امجتمع -. لقد انتصرت فكرة الربط بين السياسة واستخدام القوة والعنف. كانت الطبقة السياسية تستخدم تعبير نوري السعيد الأثير ‏ الأفكار الهدامة ‏ في توصيف الأحزاب الجماهيرية كالشيوعي والبعث» وهو توصيف احتقاري يختزن مقداراً مُذهلاً من الذعر والهلع» اللذان سيطرا على تفكير وعقل النخبة المتقنفذة في القصر. ولكنها باتت الآن ومع وقوع جريتي الاغتيال ( مصرع غازي ثم رستم) أكثر تفضيلاً للربط بين الجريمة والأفكار الحدامة والسياسة. أي بين الأيدولوجيا الجماهيرية والجريمة والسياسة.

- 252 -

الفصل الثالث: مأزق التحديث من أجل عودة الجماهير

أريد أن انطلق ‏ من أجل تحديد أهداف هذا الفصل - بدقة أفضل؛ ومعاينة مفهوم نوري السعيد للربط بين السياسة والجريمة والأفكار الهدامة من الفكرة التالية:

كما أن الشعوب ( مثلما يُعلمنا التاريخ الحديث ) أرغمت العسكريين والانقلابيين في الكثير من البلدان على العودة إلى ثكناتهم؛ بعد أن خرجوا إلى الشارع وقاموا بحسم التناقضات بالقوة ‏ وهذا ما نجم عنه كما هو معلوم قيام أنظمة عسكرية فاشية في النهاية وني أغلب الحالات - يتعين اليوم دعوة الشعوب إلى إرغام الجماهير التي خرجت إلى الشارع واستولت على حقل السياسة» على العودة إلى بيوتها والتزام الهدوء والكف عن التهريج. إن القاسم المشترك الحقيقي بين العسكريين والجماهير هو صنعة الاستبداد؛ إذ انتهت سائر الانقلابات العسكرية إلى قيام دكتاتوريات بغيضة؛ وفي المقابل؛ انتهت تجارب الثورات الجماهيرية التى قادتها أحزاب وقوى اجتماعية ( مشل رجال الدين في إيران) إلى نشوء أنظمة استبدادية» لعبت فيها بعض القطاعات من الجماهير أدواراً قمعية وبوليسية مخيفة حطمت الجتمع الذي تغنت بأمجاده. إن المثال العراقي هام للغاية في سياق هذه الفكرة» ففي العام 1958 كانت الجماهير العراقية فعلياًء خارج السياسة بسبب الطابع البوليس للحكم وتدابيره القمعية التى ألجات الحركة الوطنية العراقية إلى العمل السري؛ وذلك ابتداء من العام 1934 مع تأسيس الحلقات الماركسية الأولى ثم ظهور الحزب الشيوعي» وصولاً إلى العام 1947 مع تأسيس حزب البعثء وإلى ما قبل ثورة تموز / يوليو 1958 بقليل.

-253-

الفصل الشالث: مأزق التحدييث ‏ 9--ا ا امس أفضى هذا الوضع الشاذ إلى ولادة حياة سياسية» تقتصر فيها المشاركة على قوى اجتماعية بعينها. وحتى وقت قريب من سقوط الملكية في العراق؛ فإن الحياة السياسية كانت تدار من جانب نخب مدينية؛ هي في معظمها من الأفندية كا محامين والأطباء والتجار وبعض كبار الضباط من العروبيين» الذين أمكن م الاحتكاك بالغرب وأفكاره الحديثة. وما ساعد هذه النخب على احتكار السياسة؛ أن عدداً من رجالاتها كانوا من الميسورينء أو تمن يملكون قطاعات زراعية صغيرة أو مصالح اقتصادية ربطتهم. أو شبكتهم بصورة أو بأخرى؛ مع طبقة من الإقطاعيين في الريف الفقير» بحيث تمكنوا فيما بعد. لا من تقديم أنفسهم كنخب مدينية معزولة عن أوساط الحكم. بل كطبقة سياسية يتسع اهتمامها بالسياسة لحموم الريف ومشكلاته. كان الأفندية الجدد وهم طبقة مختلفة عن أفندية العثمانيين - في بغداد. يديرون الحياة السياسية ويشاركون بفعالية في السجالات الدائرة في البلاط الملكي. وكانوا يسيطرون عملياً وطوال الحقبة الممتدة من العام 1932 حتى العام 1958 على المجال العام؛ بينما على العكس كانت الجماهير الفقيرة والمهمشة وعموم طبقات الشعب. معزولة عن أي نوع من المشاركة في السياسة. حدث المتغير الأول في بنية الطبقة السياسية في العراق بين أعوام 1922 -1932 مع صدو الزراعية وإعادة إزعات الأراضي التي جاء ليعدل شكل المشيخة الريفية كما ولدت في العهد العثماني. عندما باشرت حكومة الملك فيصل الأول ابتداء من هذا العام» بعمليات مسح واسعة للأراضي الزراعية وإعادة تسجيلهاء جرت أكبر عملية تحول ني الريف العراقي؛ مع حصول الوقطاعيين على حق احتكار ملكيات واسعة من الأراضي. جراء ذلك وقع أكثر من مليونين من فقراء الريف تحت رحمة طبقة, امتزجت سلطتها الاقتصادية بسلطتها الأخلاقية ما أن مالك الأرض هو في الآن ذانه شيخ

- 254 -

الفصل الثالث: مأزق التحديث ‏ د<+لالال//ه'ه/ج_ سل العشيرة وهو رب العمل. أسهم هذا التشيع. لا في إفقار الريف وسكانه وحسبء. وإنما كذلك - وكما ارتأى علي الوردي. طبيعة الجتمع العراقي: 2- في تفاقم ميول الترف عند شيوخ القبائل والعشائرء الذين كانوا ينفصلون شيئاً فشيئاً عن مجتمعهم الريفي» ليصبحوا جزءا من المجتمع السياسي للمدينة» فصار:

الشيخ الريفي ميالاً إلى ترك قريته وإلى سكنى العاصمة» حيث خحذ يُخالط الأفندية ويقلدهم في حياة الترف.

ليس هذا الترف, مجرد تلذذ بمباهج الحياة المدينية» حيث شاعت منذئكر قصص الإقطاعيين الذين كانوا قد ارتبطوا بعلاقات غرامية حميمة» وبعضها من طراز ساخر وفاسد مع غانيات بغداد ومطرباتها وراقصاتها في النوادي الليلية وانغمسوا في علاقات متشابكة مع التجار في العاصمة؛ بل إن الدخول إلى عالم السياسة كان جزءا عزيزاً من هذا الترف. فهو في الأقل - يُظهرهم. في المدينة التي تنظر إليهم تقليديا نظرة تهكمية» بمظهر الرجال المهابين الذين يهتمون بأمور كبيرة. ولذلك نرى ابتداء من هذا الوقت» مشاركة أوسع في السياسة من جانب الإقطاعيين؛ الذين لم يعودوا محرد رجال من الريف. بل شيوخ عشائر بملكون المال والنفوذ على جماهير فلاحية مُفقرة؛ وفوق ذلك يملكون صلات ووشائج قوية بالمدينة. في المقابل» أدى هذا الوضع الشاذ إلى شعور الأفندية أنهم بحاجة ماسة إلى هذه الطبقة الجديدة. في المقابل؟ فإن ما كان يلزم الأفندية في بغداد هو أن يتمكنواء بفضل روابط جديدة مع أصحاب الأراضي. من تقديم أنفسهم كمعبرين عن هموم ومشاكل الريف العراقي.

وهكذاء وباستئناء الإضرابات والمظاهرات التى كان الشيوعيون والبعثيون يقودونهاء وتضم بضعة آلاف من ال مواطنين؛ فإن المشاركة الجماهيرية

- 255 -

الفصل الثالث: برد الستدية في السياسة لم : تتحقق إلا في نطاق ضيق ومحدود. وبالفعل؛ فإن لمن الإنصاف والعدل» أن يقال بقدر كبير من الوضوح أن مفهوم السياسة حينئذ» كان يقترن بالمعنى الشعبي المتداول للمهابة والعقلانية؛ وكان تبسيطها تمكناً حين تجري مقاربتها مع المفهوم الشعبي للمُسايسة» أي القدرة على وزن الأمور وتناول المشاكل بأكبر قدر من الاحتراس وعدم الاندفاع والتعقل. وبالفعل؛ فإن هذا المفهوم البسيط والشعي اليب والذي حجبته النخب السياسية والفكرية ولم تعمل على تطويره. هو المفهوم الحقيقي الذي فهمه المجتمع من كلمة السياسة؛ بينما قامت الجماهير» بالضد من هذا الفهم الشعبي؛ تحت تأثير أفكار قادتها وأيديولوجياتهم الجماهيرية العنيفة» بتحويل المفهوم إلى تعبير عن المغامرات والطيش والقسوة والبطش. كانت كلمة سياسة في المخيال الشعبي تقترن عفويأء بمعاني التعقل والتصرف الحكيم. ومن هنا تراءى شيوخ العشائر الذين دخلوا حقل السياسة» وكأنهم سيواصلون تقاليد ثقافية راسخة» ميزتهم عن سواهم من الطبقات والفئات والمكونات الاجتماعية» خصوصاً في أشكال فض النزاعات والمشاكل» حيث الزعيم القبائلي والعشائري هو حكيم الجماعة الذي غالباً ما يلجا الناس إلى مشورته. ما حدث. في النهاية» كان مغايراً لكل التوقعات» فقد انغمس الإقطاعيون في المدن بمفاسدهم وقاموا بمواصلة المفاسد والمظالم ذاتها في الريف.

كان قانون تسوية منازعات الأراضي الذي كتبه امحتلون البريطانيون» قد وضع حجر الأساس للدور الذي سيلعبه شيوخ العشائر في السياسة مستقبلاً؛ إذ تضمن القانون سلسلة من الأحكام التى مهدت السبيل» بدورهاء أمام ما يدعى حقوق التصرف العشائرية في العراق؛ وبالتالي إلى قيام نظام دارى العشائر المدنية الجزائية على أن الملاحظ في هذا الصدد. هو أن القانون قلّصء من حيث الجوهرء دور العشائر لصالح الشيوخ أو الرؤساء فيهاء وذلك من

- 256 -

الفصل الثالث: مأزق التحديث ‏ 65 لل ببببب ب ب ب يبيبح خلال إضفاء مسحة شبه مركزية على أدوارهم في هذه المنازعات. وهكذا وطوال عقد كامل من الزمن» ومن خلال قانون تسوية الُْنازعات حول الأراضيء رسخت قوات الاحتلال البريطاني الاتجاه الذي سوف تسير عليه الحكومة العراقية. سوف تجد حكومة الملك فيصل نفسها مرغمة على مركزة كامل حقوق التصرف في الأراضي, ني أيدي حفنة من الشيوخ ومن متمولي المدن. يلاحظ الباحث العراقى عماد أحمد الجواهري في دراسة نادرة وثمينة ( تاريخ مشكلة الأراضي في العراق ودراسته التطورات العامة: 1914 - 2 - بغداد وزارة الثقافة والفنون 72001978 إن القانون انتزع من الفلاحين الفقراء. وقد ترتب على ذلك ( تاريخ مشكلة الأراضي: ص: 0103

أن كسب أعوان الإنجليز من شيوخ العشائر وملاكي المدن النجاح في المشاكل التى بقيت معلقة لفترة طويلة» كما خسر مشايعو الأتراك أو المعادين للإنجليز وحتى المشكوك بولائهم للإنجليز من شيوخ العشائر وملاكي المدن حقوقهم في الأراضي مهما كانت قوة الحجج أو السندات التي تؤيدهم.

كان حرمان صغار الفلاحين من حق استرداد وامتلاك أراضيهم» والدفع بهم إلى أسفل الدرك المعيشي» بالرغم من وجود مستندات قانونية تثبت ملكياتهم في الأرضء يشير إلى التطور الجديد في نظرة البريطانيين للعراق ومشكلاته. منذئلر لن تعود قوات الاحتلال مهتمة بمعالجة مشكلة الإرث الأخلاقي والاقتصادي المؤلم الذي خلفه العثمانيون؛ قدر اهتمامها بصياغة حلول استعمارية تضمن ها بسط النفوذء بواسطة شبكة من العلاقات مع شيوخ العشائر. ومنذئذٍ بدأت أولى علامات دخول الوقطاعيين حقل السياسة

الجواهري ( عماد أحمد): تاريخ مشكلة الأراضي في العراق 1932-1914.» وزارة الثقافة والفنون ‏ بغداد 1987

-257-

الفصل الثالث: مأزق التحديبت-<بلل الال وقد اختلط بمظالم جديدة للفلاحين. لا ريب أن النخب السياسية البغدادية والتي نالت نصيباً وافرأ من التعليم؛ كانت تبشر بفضل تمدنها وتهذبهاء بمفهوم مُتطلب للسياسة يقترب بها من جوهرها كثقافة. ولذا أبدت حذرا كافيا إزاء محاولات الإقطاعيين الاشتراك والاندفاع ‏ بغريزة الفلاح وحماسته ‏ في الحياة السياسية. كان هؤلاء وفي غالبيتهم العظمى تمن لا يجيدون القراءة والكتابة بالعربية.

وعندما نجح نوري السعيد السياسي الداهية؛ في إدخال بعض الإقطاعيين إلى البرلمان كنواب عن حزب الأمة الذي أسسه. واتخذ منه وسيلة أو أداة من أدوات المناورة ( محمد العرييى - مثلاً) أصبح هذا نموذجاً ومادة للتندر في أوساط النخبة السياسية البغدادية» بل وُضرب به المثل في المصادفة على كل القرارات؛ حتى صار كل شخص يوافق أو يُصادق على أمر لا يعرفه» عُرضة لأن يُنعت بأنه مثل محمد العريي. وذاع صيت كلمته الوحيدة التتى كان ينطق بها في جلسات البرلمان: موافج. وهذه الكلمة هي النطق الريفي لكلمة موافق التى كان النائب العريي يصدح بها مع كل قرار. بيد أن الحياة السياسية مع هذاء كانت تتسم بالحيوية والعقلانية والنشاط» فلم تتخل النخب» مثلاً عن واجب الحفاظ على هيبة السياسة في المجتمع. وبالفعل؛ فإن السياسة تبدت تحت أنظار المجتمع؛ كنوع مثيب من العمل العام يجري في إطار شديد الخصوصية:؛ وقد لا يجوز فيه ادعاء الحق في المشاركة دون مؤهلات.

في شباط / فبراير 1936 برزت وللمرة الأولى في الحياة السياسية» ظاهرة قلما توقف عندها الدارسون. ففي هذا الوقت سقطت وزارتان» واحدة تلو الأخرى» تحث ضغط قوى جديدة تقدمت الصفوف كقوة مهيمنة هي العشائر. سقطت وزارة رشيد عالي الكيلاني الأولى؛ وبعدها بقليل انهارت وزارت جودت الأيوبي يوم 23 شباط / فبراير1935 وتم تكليف جميل آغا ١‏

- 258 -

الفصل الثالث: مأزق التحديث ‏ 5+ لل لل ب ب ببب ب يبيبيجسح المعروف بالمدفعي نظراً لكونه ضابط مدفعية). في 4 آذار / مارس؛ تألفت وزارة جديدة احتفظ فيها نوري السعيد بحقيبة الخارجبة. وهكذا ما إن حل عام 6 حتى كانت ظاهرة ضغط العشائر على الجتمع السياسي تصبح أمراً مألوفاًء مع تحوله إلى ما يشبه العصيان المسلح, الذي لعب فيه رجال الدين دوراً قيادياً. بعد نحو أحد عشر يوماً فقط من هذا التكليف»؛ قدم المدفعي استقالة وزارته.

ساورت الشكوك في الأبعاد الحقيقية لظاهرة تحول العشائرء إلى قوة ضغط مسلح. أحد أبرز سياسي هذه الحقبة: ناجي السويدي. كان السويدي أستاذاأ في كلية الحقوق قبل أن يصبح وزيراً للمالية في حكومة الكيلاني» ثم رئيساً للوزراء في ما بعد. وبحسه العروبي وثقافته السياسية الوطنية؛ أدرك السويدي أن هذه العصيانات قد لا تكون بعيدة عن تلاعب نوري السعيد نفسه بالحياة السياسية» وأنها تبدو مناورات مصطنعة لإعاقة تقدم ونجاح الخصوم؛ ومنهم المدفعي نفسه خصم نوري السعيد وزميله؛ بأكثر مماهي تمردات ذات طابع أصيل أو من أجل أهداف كبرى تخص المجتمع. ولذا كتب في مذكراته قائلا: ( إن نوري وإن لم يشترك في تلك الحركة العصيانية» لكنه على ما يظهر كان يؤيدها). ومما يؤيد شكوك السويدي هذه. أن نوري السعيد وبعد ثلاث سنوات فقط من هذه العصيانات وتحديداً في العام 1939» أقام مأدبة كبرى لرؤساء عشائر الفرات الأوسط. حيث نفوذ رجال الدين هناك أقوى منه في أي مكان آخر. بادر نوري السعيد في غداء يوم 9 كانون الثاني / يناير هذاء إلى الطلب من رجال العشائر أن يتناسوا الماضي وخاطبهم برقة قائلاً: ( إن أبواب البلاط الملكي ورئاسة الوزارة مفتوحة أمامهم). إن النقص الفادح في التحليلات المتوفرة عن أحداث هذه الحقبة» حيث بزغت وبشكل مفاجئ قوي ضغط جديدة» ينبع بحقيقة أن الفكر السياسي العراقي السائدء

- 259 -

الفصل الثالث: مأزق التحديث ‏ با ا _|_مبللال ‏ ببس قلما أولى اهتماماً حقيقياً للتحول في بنية الطبقة السياسية. في هذا الإطار يجدر بنا أن نتوفف أمام معضلتين برزتا في الحياة السياسية:

الأولى؛ إن مشاركة الفلاحين تمثلين بقيادتهم الروحيين ورجالاتهم العشائريين» في صياغة مستقبل العراق.» جرت نحت شروط المناورة السياسية» بأكثر ما هي مرتبطة بمطالب ذات طابع وطني؛ ولذلك خلت ضغوط هذه القوى الاجتماعية تقريبا من أي محاولة جدية لفرض إصلاحات جذرية» كما تلاشت الشعارات التي يمكن أن تدفع بالحركة إلى التحول تدريجياًء إلى قوة مجتمعية إصلاحية تجذب إليها قوى جديدة من المجتمع. واقتصر الأمر برمته أو كاد. على مطالبات ذات طابع تظلمي تقليدي يتعلق بالأرض وتوزيع المياه؛ وهى مشكلات تقليدية على خطورتهاء إلا أنها تظل عديمة القيمة بالنسبة لطموحات الإصلاح العامة. ومع استمرار تلاعب بعض الأفندية في بغداد بالحركة الفلاحية في الريف. تم عملياً عزل وتطويق قوة اجتماعية هائلة وتحويلها إلى أداة في مناورات داخلية ضد الخصوم؛ كما فعل نوري السعيد حين اسقط وزارتين متتاليتين من وزارات خصومه. وسوف نرى تالياً كيف أن هذه القوة الحائلة في امجتمع؛ وبعد أن خاب أملها من الأفندية ومناوراتهم» اتجهت بسرعة لتعطي تأيبدها للأحزاب الجماهيرية» وتصبح تالياً وبتعد جيل واحد فقط من قياداتها.

ومن غير شك؛ فإن حداثة عهد الريف الفقير بعالم السياسة» وضعف وتيرة تبلور الأفكار والمطالب الوطنية العامة» وهيمنة الإقطاعيين ورجال الدين على حقل السياسية أدت جميعاً إلى أخفاق جاهير الريف في تحويل العصيان المسلح إلى حركة سياسية من أجل الإصلاح. أو إلى حركة اجتماعية أوسع داخل المدن من أجل التحديث. إن أفضل مثال يمكن استخدامه في هذا النطاق للتدليل على خيبة أمل الفلاحين من أفندية المدن» هو المثال الذي ساقه

- 260 -

الفصل الثالث: مأزق التحديت ©بببهتبلهشحع'ٌ' “ٌخٌحطجج07ج4_ سم البريطانيون أنفسهم في دراستهم لأسباب ثورة 1920. يلاحظ الجواهري ( تاريخ مشكلات الأراضي - مصدر مذكورء ص: 301) نقلاً عن تقارير بريطانية ما يلي:

خارج المدن خيمت مشاعر المرارة والأسى على صدور رؤساء العشائر المشتركين في الثورة» وانقلبت هذه المشاعر إلى سلوك سلي وشعور بالقلق من العلافات القائمة بينهم وبين الإنجليز من ناحية» وبينهم وبين الحكومة أو أفندية المدن من ناحية أخرى. وبينما اعتقد رؤساء العشائر بفضلهم الكبير في تأسيس الحكومة العراقية وفي تنصيب فيصل ملكأ للعراق؛ فقد أيقنوا بأنهم دفعوا الثمن ليجني الأفندية الثمار لوحدهم.

وهذا ليس غريبا أن تكون أول حكومة يشكلها الإنجليز بعد إخفاق الثورة هي وزارة عبد الرحمن النقيبء التى كانت نموذجاً فريداً لخلطة سياسية غريبة» اجتمع فيها أفندية وملاكي المدن مع أقطاب الشيوخ في الريف ( محمد الصيهود رئيس عشائر ربيعة وسالم الخيون رئيس عشائر أسد وعجيل باشا السرمد رئيس عشائر زبيد). لقد رأى البريطانيون في شيوخ العشائر قوة جديدة» يمكنها أن تدخل عالم السياسة من أبواب إسناد وحماية مشروع الاحتلال. بيد أن حدة التناقضات بين الفئتين كما لاحظ عماد الجواهري بحق ( ص: 302) استناداً إلى ملاحظات كوينسي رايت ( حكومة العراق - القاهرة 15316 ) كانت تضاعف من الصعوبات التي واجهت البريطانيين. كان البريطانيون يفكرون جدياً في شخصية قادرة على أحداث توازن بين هانين الفئتتين في المجتمع العراقي بل وقادرة على تمثيلهما معأء وذلك ما سوف يدفع برسي كوكس المندوب السامي البريطاني؛ إلى إقصاء العناصر التي وقفت ضد ترشيح فيصل لحكم البلاد.

- 261 -

الفصل الثالث: مأزق التحديثثت<ل »ظ»ٌظشاعح حي ج40 سم

أما المعضلة الثانية؛ فكانت تكمن في غياب الأفكار الحديثة. إن المكال الآنف عن الطريقة التى فهم فيها الريف للمرة الأولى معنى مشاركته في علام السياسة؛ يمكنها أ» توضح على أكمل وجه الكيفية التى كان يمكن فيها بسهولة نسبيأء تحقيق نمط من السيطرة على الجماهير وتهييجها والدفع بها ( بدلا من النضال الاجتماعي السلمي الذي تكفله مواد الدستور) إلى الانزلاق في أعمال عنيفة من دون أهداف حقيقية حقيقية. وبالفعل» فقد برهنت تجربة العصيانات المسلحة للعشائر في تلك الأعوام؛ على أن تصورات النخب السياسية العراقية للواقع وموضوعاته الكبرى. كانت خالية تقريباً من الأفكار الحديثئة» فلا وجود لمطلب الاستقلال الناجزء ولا وجود لمطالب المساواة والعدالة والتحديث. بل إن رجال العشائر لم يبادروا إلى سؤال نوري السعيد. الذي تصدر مأدبة الغداء الكبرى» عن مصير وعوده بتحديث البلاد واللحاق بركب البلدان المجاورة على الأقل» وليس العالم؟ وهي وعود كان كررها من دار الإذاعة في خطاب مكرس لإعلان منهاج وزارته الثالثئة؛ حتى أن السفارة البريطانية قامت بنصب مكبرات صوت في الساحات العامة لتمكين العراقيين من الاستماع إلى وعود نوري السعيد عن التحديث.

بهذا المعنى؛ فإن أول تجربة كبرى للدخول في عالم السياسة بالنسبة للجماهير الفلاحية في العراق» تكشفت وبسرعة مثيرة لا عن استعدادٍ لفهم السياسة على أنها عمل عنيف وحسب؛ بل وعلى وجود أسس ثقافية متينة وأعراف وتقاليد راسخة كالثار والتنافساث العنيفة والحادة», تحول الانتماء السياسي إلى نوع من الانتماء القبائلي أو العشائريء وتدفع تلقائياً نحو انزلاق الثورات الجماهيرية في الريف» وبصورة شبه محتومة إلى نوع من ثورات عامة, سبق لها وإن حدثت وتكررت في التاريخ العراقي من دون انقطاع. ولكن من ندون أهداف ومضامين أيضاً؛ وخلت بالطبع من أهداف وطنية جامعة. لقد

- 262 -

الفصل الثالث: مأزق التحديثت <لدءاجدهاطه جل سم كان ضعف تثير الأفكار الحديثة؛ والنقص الْمريع في تحليل المعطيات والطاقة المحدود على إدراك أهمية الإسراع بالتحديث, وإنجاز عملية تمدين اجتماعي ( تهذيب وتعليم المجتمع كما أراد فبصل) من بين ابرز العوامل التي ساهمت في إخفاق النخب والجماهير على صعيد قيادة الإصلاح وإدراك حاجته الملحة.

بين عامي 1924 - 1932 أصبح ظهور الأحزاب في العراق دليلاً كبيرأء لا على تنامي الرغبة في العمل السياسي؛ بل وعلى وجود مظهر بارز من مظاهر الديمقراطية السياسية المسيطر عليها. بيد أن هذه المظهر كان يُدلل» في المقابل» على نوع المعضلات التي سوف يجد المجتمع العراقي نفسه غارقاً في خضمها. على سبيل المثال؛ جلب اشتراك شيوخ العشائر في الحياة السياسية مفاهيم ما قبل سياسية. لقد نقلوا مشكلاتهم حول الأراضي إلى مجال جديد هو العمل الحزبي ( انظر عماد الجواهري ‏ مصدر مذكور) فبيئما كان سالم الخيون رئيس عشائر أسد يصبح رئيساً لفرع حزب الأمة في سوق الشيوخ ( الناصرية جنوب العراق) كان عبد الواحد الحاج سكر شيخ عشائر آل فتلة ( ومعه محسن أو طبيخ) يصبحان من أبرز أعضاء الهيئة المؤسسة لحزب الإخاء الوطني المعارض.

فهل مهدت هذه التطورات السبيل أما تدفق الجماهير الفلاحية وجماهير فقراء المان» مع ثورة تموز / يوليو 1958 لتدخل إلى حقل السياسة وتفرض سيطرتها عليه؟

من غير شك؛ فإن العودة إلى جرية الجماهير الأولى صباح يوم الشورة» حين قطعت أوصال العائلة الملكية وجرى سحل الوصي على العرش والعبث بعضوه التناسلي» سوف يكشف عن معنى دعوتنا إلى ( عودة الجماهير إلى بيوتها ) وإخلاء ساحة العمل السياسي أمام الجتمع؛ بل وإعادة السياسية إلي

- 263 -

الفصل الثالث: مأزق التحديث ‏ ال -__-ببب ‏ ب__ ج, __؟ __ اح .__ ا _ م وتركها في عهدته لا في عهدة جماهيرء هي في نهاية المطاف كتلة هلامية لا يربطها رابط ولا يجمعها جامع حقيقي. هذا ما سوف يعيدنا من جديد إلى معاينة مفهوم السياسة كما تخيله الملك فيصل الأول وهو يسطر نظراته عن الحداثة والتمدين والتهذيب.

- 264 -

الفصل الثالث: مأزق التحديث فيصل الأول ومفهوم الدولة الحداثة المتعثرة

يروي عبد الرزاق الحسنى ( تاريخ الوزارات العراقية: 03 ن لملك علي بن الحسين أعطاه نسخة عن مذكرات شقيقه الملك فيصل. وإذا صح أن ما استلمه الحسنى هوء. بحق. مذكرات وليس خواطر سطرها الملك قبيل وفاته بقليل؛ فإن التأملات التالية ستكون ذات أهمية خاصة واستثنائية» عندا يجري وضعها في سياق الأفكار والوقائع» التي جاءت النسخة المزعومة على ذكرها - ولم تصلنا إلا بضع أوراق منها -. رأى فيصل الأول ببصيرة نادرة أن الإصلاح والتحديث في العراق» لا يمكن لما أن ينطلقا من دون إعادة توصيف وظيفة الدولة وفقأ لشروط وضوابط واقعية. أول هذه القواعد كما رآها الملك في مذكراته» هي تقديم مقاربة جديدة و تحليلية لأوضاع العراق الاجتماعية؛ مؤسسة على فهم عميق للروابط المتراكبة والمعقدةءالتى تحكم المعادلة الاجتماعية والثقافية وتجمع أبناء الشعب الواحل. أو تلعب» على العكس من ذلك؛ دوراً في تعميق التشققات والتصدعات السياسية والثقافية.سعى فيصل الأول وبالتشاور مع وزرائه وخاصته إلى فهم أعمق لخصوصيات المجتمع العراقى مُنطلقاً من تصورين أساسيين؛ إذ لاحظ بعد دراسة متأئية وصبورة أن امجتمع العراقي محكوم بعاملين مركزيين هما: عوامل الهدم وعوامل الإنشاء.

هذان المفهومان سوف يتوضحان أكثر فأكثر» عندما يتناول الملك وفي إطار تحليلى نزيه للغاية» المشكلات التى واجهت برنامجه الإصلاحي. كانت عوامل الهدم في تصور الملك هي: الجهل واختلاف العناصر المكونة والأديان والمذاهب والميول» وكذلك ما أسماه العوامل المؤثرة المحيطة بالعراق. بينما تركزت عوامل الإنشاء ‏ ويعني بها عوامل البناء والتحديث والتقدم والتحويل

- 265 -

الفصل الثالث: مأزق التحديثنت ‏ 65 "7د_د_د_ث ثح المدني للمجتمع - في الدور المنوط بالدولة. وعملياً ‏ من وجهة نظر الملك فيصل - يكمن هذا الدور في رفض استخدام قوة الدولة لحسم التناقفضات امجتمعية» والتفافها إلى كل الآراء بما فيها المعادية لها؛ وتحويل الدولة إلى جهاز في خدمة المجتمع وليس إلى جهاز فوقي وقمعي.

سأقوم ‏ هنا - باستعراض وتحليل أفكار الملك كما سطرها في مذكراته» لافتأ الانتباه إلى أن هذا الاستعراض والتحلل الملازم له هو؛ فيما أعلم, أول محاولة لدراسة مفهوم الدولة كما تخيله فيصل. ( ربما باستثناء دراسة عبد الغني الملاح - تاريخ الحركة الديمقراطية في العراق ‏ بغداد. وزارة الإعلام: 1975 التى اكتفت باستعراض أهم أفكار المذكرات من دون أن تقوم بتحليلهاء وهذا ما سأعود إليه تاليا».

عندما جاء فيصل إلى العراق من الحجاز فسورية لاحظ إن ( البلاد العراقية هي من جملة البلدان» التي ينقصها أهم عنصر من عناصر الحياة الاجتماعية: الوحدة الفكرية والدينية). يبدو العراق منظوراً إليه من هذه الزاوية» مجتمعاً مُبعئر القوى مُنقسماً على نفسه كما ارتأى الملك ( ص: 3. وهذا توصيف دقيق وجريء نادراً ما تمكن المفكرون العراقيون والساسة من مُلامسته على هذا النحو من الوضوح. إن أهم ما تحتاجه البلاد في إطار البرنامج التحديثي الموعود إنما هو وجود السياسة الحكيمة؛ كما:

يحتاج ساستها أن يكونوا حكماء مُدبرين.وفي عين الوقت أقوياء مادة ومعنى غير مجلوبين لحسابات أو أغراض شخصية أو طائفية أو متطرفة يداومون على سياسة العدل والموازنة والقوة معأ على جانب كبير من الاحترام لتقاليد الأهالي, لا ينقادون إلى تأثرات رجعية أو إلى أفكار متطرفة تستوجب رد الفعل. 1

- 266 -

الفصل الثالث: مأزق التحدديث ‏ <ب"”سال”اً»ًلًل»سعٌ ًٌ ع

ارتأى فيصل أن دور الدولة لن يكتمل من دون إحداث توازن في الوظائف التاريخية لها بين القوة والعدالة. ( يجب أن تحيلنا إلى هذه الفكرة إلى المفهوم الميغلي عن دولة الحق والقانون». هذا الجانب الذي تلامسه ملاحظة فيصل وبعمق نادرء هو المصدر الحقيقي للإختلالات البنيوية في المجتمع العراقي» فطالما استخدمت الدولة في التاريخ الاجتماعي والسياسي؛ وبشكل مُفرط» قوتها وعنفها لحسم التناقضات مع المجتمع؛ ونادراً ما أظهرت,. في المقابل» استعداداً منظوراً لممارسة العدل. لقد لعبت الدولة في إطار الاحتلال العثماني والإيراني» بالتعاقب» وطوال أربعة قرون سابقة على الاحتلال البريطاني؛ دوراً مركزياً في خلخلة التكوين الاجتماعي والفكري؛ وذلك من خلال انحيازها إلى قسم من السكان على حساب الآخر.ولذا رأى فيصل أن واحدة من العلل في السياسة التى انتهجتها الدولة العراقية» يكمن في التطرف والرجعية على حلر سواء. إن التطرف مُساو للرجعية على صعيد الوظيفة والنتائج. عندما كتب فيصل هذه الملاحظات؛ كان العراق قد حرج للتو من واحدة من أكبر المحن الاجتماعية الكئيبة» إذ اندلعت ثورة الآشوريين ضد الحكم» وتحول بسرعة خاطفة إلى مادة هياج داخلي وخارجي أحرجت الملك في جولاته خارج العراق. واضطرته إلى تمضية الوقت في شرح ملابساتها للأوربيين» الذين استغلوا بشكل رخيص ومغرض هذه الأحداث. قبل ذلك بقليل كانت البلاد تواجه ثورة الشيخ محمود الحفيد في الشمال» بهدف تحقيق أهداف الشعب الكردي بالقوة. في هذا السياق قام فيصل بتحليل المكونات الاجتماعية من أجل بلورة مفهومة للدولة» ولبرنامج التحديث: فلاحظ أن

العراق مؤلف من: 1: الشبان المجددون بما فيهم رجال الحكومة ت وهؤلاء هم دعاة التحديث وقادته.

- 267 -

الفصل الثالث: مأزق التحديث 2: المتعصبون ‏ وهؤلاء المتطرفون في المجتمع من عقائديين ورجال دين. 3 السنة. 4: الشيعة 5: الأكراد 6 الأقليات غير امسلمة» 7: العشائر 9: السواد الأعظم الجاهل ( المستعد لقبول أي فكرة سيئة بدون مناقشة أو محاكمة . حسب نصر تعبيره). وهؤلاء هم العامة أو الجماهير.

كانت الدولة التي استلمها فيصل في استفتاء 1919 أضعف من المجتمع بكثير» فعدد الشبان المجددين ‏ بما فيهم أعضاء الحكومة ‏ لا يُقارن بالسواد الأعظم من الجهلة والمتعصبين( وهؤلاء يصفهم فيصل كمكون لا علاقة له بالمذاهب, وهم يؤلفون قوة مُنفصلة عن الشيعة أو الأكراد أو السنة. ليس هؤلاء سوى ما نسميه اليوم بالجماهير).

هذا يعنى ببساطة؛ أن الدولة لا يمكنها أن تؤدي أي مهمة من مهامها الفعلية» ممن دون مُراعات الحقيقية القائلة أنها أضعف بمقايبس القوة؛ من امجتمع الذي تديره. واجه فيصل منذ المراحل الأولى لتوليه عرش العراق؛ ضغطأ مُتزايداً من السياسيين لحمله على عدم الالتفات نهائياً إلى ما أسموه ( أفكار وآراء المتعصبين وأرباب الأفكار القديمة) بدعوى أن هذا الشطر من السكان؛ اعتاد على أنماط من الثقافة القديمة والرجعية. ويتضح من المذكرات؛ أنه واجه ضغوطاً هائلة لحمله على تجاهل الآراء الصادرة عن بعض القوى

- 268 -

الفصل الثالث: مأزق التحديثنت يببلتتادافنلهكثبح< 0مس الاجتماعية والدينية بدعوى أنها أفكار رجعية؛ وإن واجبه كما يريد ناصحوه هو:

سوق البلاد إلى أمام دون الالتفات إلى أي رأي كان والوصول بالأمة إلى مستواها اللائق» وبالإعراض عن القبل والقال طالما القانون والنظام والقوة بيد الحكومة ترغم الجميع على إتباع ما تمليه عليهم.

رفض فيصل دون تردد مثل هذه الأفكار والتوصيات,. وأنكر بقليل من التحفظء حق الدولة في رفض ومقاومة الأفكار بما هي أفكار رجعية» كما تحفظ على فكرة الدولة هي أداة عنيفة في التحديث. وإن وظيفتها هي إرغام امجتمع على الانتقال من طور إلى آخرء ورأى» على الضد من ذلكء أن عدم المُبالاة بالرأي:

مهما كان حقيرأء خطيئة لا تغتفر. ولو أن بيد الحكومة القوة الظاهرة الي تمكنها من تسيير الشعب رغم إرادته» لكنت وإياهم. وعليه فإننا لحين نحصل على هذه القوة» علينا أن يسير بطريقة ة تجعل الأمة مرتاحة نوعاً ما بعدم مخالفة تقاليدها.

في هذه الفكرة الساطعة؛ المضيئة» يكمن لا احترام الدولة للرأي الآخر التوازن بين العدل والقوة. وأكثر من ذلك احترام تقاليد الأهالي حتى وإن بدت هذه التقاليد رجعية ومتخلفة. إن احترام الثقافات والاستعداد لوشباع حاجات ومتطلبات الجماعاث المؤلفة للمجتمع» هو من أولى مهام ووظائف الدولة التى لا ينبغي لاء مهما كانت المبررات» أن تستخدم أو تمارس عنفها ضد المجتمع بدعوى وجود فكر رجعي أو رأي مغاير. تلك خطيئة لا تغتفر بحسب رأي فيصل. على الدولة من هذا المنظور أن تجسد احترامها للتقاليد بما

- 269 -

الشقصلالثالث: سأزق التحدديث بالللأل/اا/ِته َب +++ أن هذه التقاليد ‏ وقد تبدو رجعية أحياناً - هي جزء عضوي من الثقافة القديمة الراسبة والمستمرة في ا جتمع؛ يصعب أو يستحيل بتره والقضاء عليه بواسطة عنف الدولة. وعلى العكس من ذلكء عليها واجب التعامل مع التنوع الثقاني والاجتماعي بوصفه مصدر غنى وثراء للأمة. ولإيضاح هذه الفكرة بجلاء أكثرء ارتأى فيصل إن ثورة محمود الحفيد أو ما أسماه ( الهياج المسلح ص: 4) كشفت عن واحدة من المفاراقات الحزنة في النموذج العراقي؛ هي التفارت بين قوة الدولة وقوة امجتمع. كانت الدولة ضعيفة للغاية؛ فمقابل 0 مائة ألف) بندقية في يد أفراد من الشعبء لم تكن الدولة تملك سوى 15000( خمسة عشر) ألف بندقية.

بكلام آخر كان الجتمع العراقي في ثلاثينات القرن الماضيء ينتقل جذرياً من مجتمع اعزل إلى مجتمع مُسلح» وهذا ما كان يساهم في مفاقمة درجة التخلخل الاجتماعي. هذا الواقع هو الذي سوف يدفع فيصل إلى التبصر في المآل المأسوي, وفي العواقب الناجمة عن العلاقة بين دولة ضعيفة وعزلاى ومجتمع شديد التنافر؛ بل وهو فوق ذلك مجتمع مُسلح. لم يكن مثل هذا الوضع الفريد عام 1932 عندما كتب فيصل مذكراته» مدعاة للتباهي بأفكار القوة الفارغة أو باعثاً على الانسياق وراع الدعوات غير العقلانية» حسم التناقضات في المجتمع بواسطة العنف. على العكس من ذلك كان مثيراً لقلق دفين لم يجر التعبير عنه أو معالجحته. إلى جانب الرفض المطلق من جانب فيصل» لاستخدام عنف الدولة في مواجهة قوى اجتماعية حرمت التعامل مع الدولة الكافرة( كما هو الحال مع الشيعة الذين كفروا الدولة وأنشأوا تاليا مدارس أهلية خاصة بطائفتهم» وأكثر من هذا حرموا الدخول في وظائف رسمية أو العمل في مؤسسات الدولة. وبلغ الأمر درجة مأسوية بالفعل»حين كان الموظفون الشيعة يعرضون مع كل أول شهر مرتباتهم على رجال الدين الشيعة

- 270 -

الفصل الثالث: مأزق التحديثغ ‏ د ب ل ا وعلى المراجع الدينية من أجل تحليلها بقراءة آيات قرآلية أو أدعية بعد استقطاع الضريبة الدينية أو ما يُدعى الخُمس) أو في مواجهة قوى اجتماعية عبرت عن تناقضها مع الدولة ومع كل مفهوم لماء عدا مفهومها الخاص بها وهي قوى تنتسب في الغالب إلى المذهب الشيعي؛ فقد كان هناك رفض مواز موجه في الصميم؛ لأوهام الجددين الحداثيين دُعاة الإسراع في التقدم؛ الذين نادوا علناً بإمكانية تجاوز الاختلافات مع القوى الاجتماعية ( الرجعية) وبعدم الالتفات إلى أفكارها ومطالبها. أي إلى أفكار هؤلاء الرجعيين المفترضين. وهؤلاء هم رجال الدين الذين لعبوا أدواراً مؤثرة في الأكثرية الجاهلية» فانساقت خلف تصوراتهم ومطالبهم ومطامعهم؛ سواء أكانوا من الشيعة أم من السنة ولذا:

أخذت بنظري في هذه الكتل العظيمة من السكانء بقطع النظر عن الأقليات الأخرى المسيحية, التى يجب أن لا نهملهاء نظراً إلى السياسة الدولية التى لم تزل تشجعها للمطالبة بحقوق (..) تجاه هذه الكتل البشرية المختلفة المطامع والمشارب المملوءة بالدسائس حكومة مشكلة من شبان مندفعون أكثرهم متهم بأنهم سنيون أو غير متدينين أو أنهم عرب؛ فهم مع ذلك يرغبون في التقدم » لا يريدون أن يعترفوا بما يُتهمون به ولا بوجود تلك الفوارق وتلك المطامع بين الكتل التى يقودونها. يعتقدون بأنهم أقوى من هذا المجموع (.. ) غير مُبالين بنظر - بنظرات - السخرية التي يلقيها عليهم جيرانهم الذين على علم بمبلغ قواهم.

عندما جال فيصل بنظره ورأى الكتل البشرية المتصارعة من حوله؛ راعه أن دعاة التقدم والحداثة الشبان كانواء على غرار الدولة أكثر ضعفاً من الكتل التي يقودونها. هذه المفارقة الساخرة الممزوجة بالاعتراف بأن المجتمع لا يزال ينظر بقدر من التهكم؛ واللامّبالاة أيضاًء لمزاعم النخبة عن قوتها وعزيمتها على

- 271 -

الفصل الثالث: مأزق التحديث ‏ + لل ل جج .1 11احلردى ايح إدارة الإصلاح والُضي قدما على طريق التقدم؛ تتضمن مع ذلك. تصويراً بليغاً مأزق التحديث في عراق الثلاثينات من القرن الماضي. لقد كانت النخب التي تصدت لقيادة مجتمع ساخر في الأصلء من أفكارها عن نفسها ومن مزاعمها عن قوتها ودورها القيادي؛ نخباً عاجزة عن فهم حقيقة ما يدور من حوها. إن نقد فيصل الجريء لأوهام النخبة العراقية السياسية والفكرية عن التحديث في عراق مؤلف من كتل بشرية؛ لا تكف عن توجيه الاتهامات لقادة الإصلاح بأنهم ( سنيون ) أو ( غير متدينين) أو لأنهم من ( العرب) هو نقد جذري يصب في الفكرة التالية: إن الرغبة في قيادة التحديث ليست كافية بحد ذاتها لإحراز تقدم فعلي؛ من دون الاعتراف بأن عملية التحويل التاريخي للمجتمع ستكون محكومة بعوامل إعاقة شديدة القسوة. ولا بد من رؤيتها كما هي في الواقع. أما محاولة تخطي قوى الإعاقة من خلال التجاهل واللامُبالاة» والتشبث بفكرة زائفة عن القوة» فإنه لن يؤدي إلى إحراز قدر مقبول من النجاح في عملية التحديث. على العكس من الجماهير وقادتها؛ كان الملك فيصل الأول يطرح بجرأة أفكار الإصلاح والتحديث, على الرغم من الاتهامات الموجهة إليه بحماية الطبقة السياسية الفاسدة. إن وجوده كملك على العراق بفضل بيعة جماهيرية كبرى ومشهودة ( بعدما أخفقت محاولته في البقاء على عرش سورية أثر طرد الفرنسيين له) كان يفرض عليه التأمل بعمق في انتهاج خط تصا حي مع كل قوى المجتمع. حتى نوري السعيد الذي دخل في شجار سياسي مع الملك. وخاصمه وحرض الإنجليز ضده. اضطر في النهاية إلى الاعتراف بهذه الحقيقة في خطاب له بُعيد وفاة فيصل الأول بأيام. كان الملك خيمة جمعث العراقيين كما قال السعيد:

- 272 -

الفصل الثالث: مأزق التحديثت د8<<ادظهغطهح< 7 سد

لقد كان شعوري في أول سنة 1932 أن ننظم أنفسناء وأن نضع مناهج للعمل لنقطع مراحل تأخرنا عن أمم العالم الأخرى. ولكن هذه الأحداث التي توالت علينا وزوال الرجل المجرب - الملك - الذي كان يقودنا أخرنا عن ذلك.

مشاعر نوري السعيد هذه. إزاء الملك فيصل والتى برزت في أعقاب وفاته» حقيقية تامأ وليست مُرائية» إذ برغم الخلافات بين الرجلين؛ فإن السعيد كان يدرك بافضل مما هو حال الكثيرين؛ أن غياب الرجل المجرب عن المسرح المشحون بالانقسامات والذي يعج بالتناقضات والأحداث» سوف يكون له ابلغ الأثر على صعيد دول الدولة وقيادتها لعملية الإصلاح. لقد كان وجوده عاملاً من بين عوامل قوية أخرى. في الحفاظ على التوازنات الهشة التى ضمنها دستور 1925[ القانون الأساسي) المهلهل. وفي غيابه شعرت الطبقة السياسية أن إمكانيات حدوث تخلخل - في هذه التوازنات ‏ أصبح أمرأ محتملاً. لم يكن نوري السعيد ولا أي سياسي آخر قادراً على التعاطي مع كتل اجتماعية متنافرة» ومُحتقرة؛ بنفس القدر من المهابة والاحترام والحنكة السياسية.

يمكن تلخيص منهاج عمل نوري السعيد هذاء كما عبر هو: في التصريح الآنف. وفي تصريح لاحق في 4 كانون الثاني / يناير 1934 أثناء تشكيل الوزارة السعيدية الثالثة على النحو التالى وبججملة واحدة: إحداث تغيير جذري في الحياة السياسية: كان العتوان الذي احماره السعيد البرتتامج وزاركة هو: ( مشاكل العراق الداخلية وكيف يجب أن تعالج). وللمرء أن يقرر» في ضوء أفكار هذا البرنامج»نوع الهموم التى شغلت عقل العراقي العجوز في هذه الوفت . مقارنة بأفكار الملك الأكثر جرأة وحصافة وبُعد نظر. كانت الفكرة المركزية في الخطاب الذي نعود اليوم وبعد أكثر من ستين عاماًء إلى تحليل مضمونه وفحصه بروح نقدية أكثر موضوعية» تدور حول صفات الحكومة الديمقراطية؛ وهذه برأيه تستلزم قيام مجلس نيابي تقوده كتلة من الأحزاب التي

- 273 -

الفصل الثالث: مأزق التحديث ب لل حب جب ل م ( لها مبادئ معينة). ولكن, وكما يُنبه السعيد؛ فإن هذه الأحزاب بدورها يجب أن تكون غير هدامة ويتفق قيامها ( مع أهداف البلاد العليا». وباستثناء إشارة عابرة لم يتوقف الخطاب عندها طويلاًء فإن مسألة دستور 1925 الذي وضعت أفكاره خارج العراق وجرت صياغته بطريقة مخادعة» كانت شبه غائبة؛ أو أن الخطاب تقصد إبقاء الغموض والإبهام والنقص فيها؛ وبالكاد حظيت بأي اهتمام من جانب نوري السعيد نفسه.

في الواقع كانت الأفكار الأولى عن الدستور قد تبلورت في العام 2:, ولكنه لم يصدر إلا في العام 1925 وبعد أن تم تغيير صيغته من ( دستور) إلى ( القانون الأساسي) وهو تغيير تضمن الكثير من التحاليل على مطالب العراقيين. وسوف تلاحظ الباحثة العراقية سعاد رءوف محمد ( رسالة ماجستير مقدم إلى جامعة بغداد بعنوان: نوري السعيد ودوره في الحياة السياسية للعراق 1932 1945 ) أن هذه الحماسة لنقد الحياة السياسية والتطلع إلى حياة سياسية عصرية لم تكن سوى:

سيف ذي حديث عرف نوري - السعيد ‏ كيف يقطع بهماء على حدر سواءء تحقيقاً لأهدافه السياسية وطموحاته الشخصية. فبعد مرور شهر ونيف. وجد ضالته في خلاف وقع داخل الجلس النيابي الذي انتخبه سلفه جميل المدفعي بتاريخ 18 كانون الأول 1937 ليقوم بحله دون أن يبدو في الظاهر أي تناقض بين خطوته هذه وما ورد في خطابة ذاك.

هل كان نوري السعيد صادقاً في خطابه؟ وهل كان يؤمن بحياة سياسية ديمقراطية؟ هل كان لديه» على غرار الملك فيصل الأول» تصور للحدائة؟ إذا كان المدخل إلى الإصلاح والتحديث بالنسبة لنوري السعيد هو إعادة تأسيس الحياة السياسية على أسس دستورية جديدة؛ فمن البديهي أن مثل هذا الاتجاه

- 274 -

الفصل الثالث: مأزق التحديث ‏ ”لل لالد ١‏ شحج سيلقى ترحيباً عظيماً لا في أوساط النخب. بل وفي المجتمع كله. بيد أن تحول السياسة إلى نوع من المناورات في عصره مع تعاقب وزاراته الثمانية التى قام بتشكيلها واحدة تلو الأخرى؛ هو الذي سيثير مثل هذه الأسئلة اليوم كما في الماضي. لقد كانت الطموحات الشخصية أكبر من كل المبادئ المعلنة في البرامج. في هذا الوقت تكرست فكرة فظيعة عن السياسة في اجتمع العراقي متاديا إن ايا الس ران كر و الهاي اماف موي بو عتائر دارع بالإصلاح يستخدم ببراغماتية مة مقيتة» لا من أجل الانتقال الفعلي بالبلاد إلى التحديث واللحاق بركب البلدان امجاورة. التي قطعت شوطاً عظيماً من التقدم كما في إيران وتركيا؛ بل من أجل ضمان تأبيد الأغلبية في امجتمع لطموحات الزعيم السياسي الشخصية. انتبه الضباط القوميون في الجيشء إلى أن قصر أعمار الوزارات العراقية المتعاقبة سوف يؤديء لا محالة» إلى نوع من الفوضى في البرا م مه ل ال ا فارغ لا معنى له. كان الصباغ أحد أركان الربع الذهي في الجيشء نممن

صدمتهم هذه الحقيقة بعدما آمنوا أن اللحاق بتركيا وإيران» ومجاراة التحديث في هذين البلدين» اللذين انطلقا على طريق الإصلاحات فعلياً؛ هو من أولى واجباتهم وإن هذا الحلم قابل للتحقيق لو أنهم تمكنوا من التوصل إلى تسوية مع الطبقة السياسية. يلفت الضابط العروبي الشجاع صلاح الدين الصباغ في مذكراته التى عُثر عليها بعد سنوات من إعدامه مع رفاقه إثر فشل حركة مايس / أيار 1941» ( مذكرات الصبلع ص: 84) الانتباه إلى حقيقة طالما جرى التغاضي عنها في المؤلفات التاريخية ية وفي مذكرات السياسيين العراقيين؛ وهي أن الجيش لعب في هذه الآونة دوراً محورياً في الدفع بالإصلاحات إلى الأمام» وإن الطبقة السياسية كانت من الفساد بحيث أنها أذعنت لإرادة خارجية:؛ هدفها

- 275 -

الفصل ١|‏ لثاالث: م أزق | ٌتتحديث ”7 _(بل__ٌ١/ٌبجججل‏ سم الحقيقي كبح جماح محاولة للتحديث. كانت طموحات الجيش للتحديث والإصلاح محركا فعالا لم تتمكن الطبقة السياسية الفاسدة من مجارات قوته.

ما تقوله ملاحظة الصباغ السديدة هو التالي: إن الإصلاح لم يكن قضية عراقية خالصة:؛ أو مجحرد تطلع سياسي أب لبلد رأى في نفسه مزايا قيادية» بل كان طوال الفترة ؛ الي خضع فيها العراق ذا يُدعى بالحكم الوطني؛ موضوعاً صراعياً مع الإنجليز. وبالتالي فإن مخاذل السياسيين التقليديين لعب؛ وعلى الضد من رغبة الجيش» دزرا في ليم آمال التحديث. اعتمدت السياسة البريطانية في العراق» كما يرى الصباغء تكتيكاً رهيباً لإعاقة أي عملية تحديث أو إصلاح للبلاد» وذلك عبر إثارة لمخاعب أمام رؤساء الوزارات ودفعهم إلى الاستقالة) بما سمح تاليا ولسنوات عدة في بروز ظاهرة الانهيار المتتابع للوزارات العراقية» من أجل أن:

لا ينجز مشروع وطني» ولا تم منفعة قومية؛ فتسود الفرقة في البلاد وتشيع البلبلة في مناهج الوزارات. تسير بريطانيا على هذه السياسة في الدول شبه المستقلة كالعراق ولكنها لا تسير على هذه السياسة في مستعمراتها. ولذلك أعددنا لهذه الناحية عدتهاء وقررنا مكافحة قصر أعمار الوزارات» وجرى الاتفاق بيننا وبين نوري - السعيد ‏ وطه ‏ ال هاشمي - فكان اتفاقنا على نقيض ما تشتهيه النياية الاأغليزية, وسرعان ما تراجع نوري بن سعيد - فقدم استقالة وزارته طائعاً.

ساعد هذا التحول في مفهوم السياسة؛ كما جسده خطاب وسلوك نوري السعيد - الذي كان يتكرر طوال تلك السنوات ومن دون أن يتحقق على الأرض أي نوع من التقدم الفعلي - في تفاقم الميول داخل البيئات الشعبية والفقيرة» وفي أوساط النخب المدينية كذلك وإلى حدر ماء على تقبل

- 276 -

الفصل الثالث: مأزق التحديث > ل لل ا/اش/دشٌ ل أفكار الأحزاب الجماهيرية ( الهدامة). لقد رأى نوري السعيد نفسه تصاعد جماهيرية هذه الأحزاب. وفي الآن ذاته تراجع شعبية السياسيين في الطبقة الحاكمة. وإلى هذا كله أضحت لغة الأحزاب الثورية الُنددة بفساد الطبقة السياسية؛ أو الداعية إلى تحطيمهاء جذابة وأكثر نضارة من لغة السياسيين المنافقين» الذين كانوا يحتكرون الحياة العامة. إن الملاحظة التى تبديها سعاد رءوف محمد في رسالتها والقائلة. إن وعود السعيد الإصلاحية في هذه الآونة» قد تكون مرتبطة ‏ حسب بعض الأقوال - بتأثير الضباط القوميين» وعلى وجه الخصوص كتلة صلاح الدين الصباغ؛ أو ربما تحت ضغط عامل التوتر العالمي واقتراب نذر الحرب العالمية الثانية ‏ حسب أقوال أخرى - تعطي فكرة دقيقة عن المآل النهائي لفكرة التحديث الموعود في العراق. لقد ظلت مطالبة الإصلاح 0 إلى وقت طويل آخر؛ وبات على العراق أن يعيش ومن دون ما أمل حقيقي؛ حلم استرداد كاريزميته واللحاق بالبلدين المجاورين. على العكس من تصورات نوري السعيد للإصلاح؛ والتىي قصرها على الحياة السياسية ومشكلاتها؛ رأى المللك فيصل الأول بحصافة نادرة أن المدخل الحقيقي للتحديث في العراق ليس إصلاح الحياة السياسية» بل هو الذي يبدأ من النقطة الأكثر حساسية وخطورة: إعادة كتابة العقد الاجتماعي الذي جمع العراقيين من قبل» طوائف وقبائل وجماعات وأديان وثقافات واثنيات.

إن خطبه الجريئة التى استقبلها المجتمع بأسره بشيء من الإعجاب بينما تراخت عزيمة التُخب أمام معانيها الساطعة فلم تجرب إمكانية التأمل فيها حتى اليوم» يمكن أن توضح. وإلى أبعد حدء الطريقة التى كان فيها الملك فيصل الأول يتصرف ويفكر ويفهم واجبه كملك. كان عراق الثلاثينات من القرن الماضي يتراءى في عيني فيصلء في صورة كتل بشرية لم تتمكن بعد» من تجسيد وتعيين ماهيتها الاجتماعية كجماعة واحدة؛ كسبيكة متينة ومتماسكة العناصر»

- 277 -

الفصل الثالث: مأزق التحديث ‏ 67+ للد ًٌ١٠“عحج‏ ل ولذا صارح شعبه بالحقيقة وقلبه يقطر أسى ( انظر عبد الرزاق الحسني» تاريخ الوزارات العراقية: ج: ط: ص: 313) حين أشار إلى الاختلافات:

الكبرى بين الطوائف التى يثيرها المسدون. هناك حسيات مُشتركة بين أفراد الطوائف الإسلامية ينقمون بمجموعهم على منْ لا يحترمها. وهناك غير هذا دسائس أثورية وكلدانية ويزيدية والتعصب للتفرقة بين هؤلاء الجهلاء توهن قوى الحكومة تجاه البسطاء. كما أن العقول البدوية والنفوذ العشائري الذي للشيوخ وخوفهم من زواله لتوسع نفوذ الحكومة. كل هذه الاختلافات وكل هذه المطامع والإحتراصات - الاحتراسات ‏ تشتبك في هذا الصعيد وتصطدم وتعكر صفو البلاد. فإذا لم تعالج هذه العوامل بأجمعها بقوة مادية وحكيمة معا ردحا من الزمن حتى تستقر البلاد وتزول هذه الفوارق الوطنية الصادقة وتحل محل التعصب المذهى؛ من جانب الحكومة بنزاهة كاملة فال موقتف خطير. ولذا كتب فيصل في مذكراته الفكرة التالية دون تردد ويجرأة نادرة قائلاً: إنه يخشى مع ذلك من أن يُتهم؛ بيد أن ( واجبي أن لا أدع شيئاً يُخامرني خاصة لعلمي بأنه لا يقرأ إلا نفر قليل يمن يعلمون ‏ وجائبهم ‏ واجباتهم ومسؤولياتهم. ص: 315):

في اعتقادي لا يوجد شعب عراقي, بل توجد كتلات بشرية خيالية خالية من أي فكرة وطنية. فنحن نريد أن نشكل من هذه الكتل شعباً نهذبه وندربه ونعمله. ومن يعلم صعوبة تشكيل شعب في مثل هذه الظروف يجب أن يعلم أيضاً عظم الجهود.

هذا المدخل الجريء والحقيقي للتحديث. كان يخطو بالسياسة على خارج حدودها المبتذلة» ويُعيد وضعها ‏ نظرياً ‏ بين يدي الشعب الذي سوف يُهذب ويُعلّم لا بين أيدي الجماهير ما هي كتلة هلامية من المتعصبين أو

- 278 -

الفصل الثالث: مأزق التحديث ‏ د ب ب ا الجهلة؛ لأن السياسة ليست محض مناوارات خسيسة؛ وليست تلاعباً عبثياً بمصائر الأفراد والجماعات» بل هي وعي المجتمع لنفسه وأهدافه. وهي إلى هذا كله مكاشفة صريحة بأدق وأنقى العبارات. كانت منطلقات الملك تصب في المدف الوحيد للدستور الذي شذت النخب والجماهير, أو ابتعدت عنه وأخطاته؛ نعنى هدف إعادة تركيب الوحدة الوطنية أولاً وقبل كل شيء على أسس حديثة وعصرية» كمدخل حقيقي لعملية الإصلاح فالتحديث. من دون تهذيب وتعلمي هذه الكثل البشرية الخيالية والتى لم تعرف نفسهاء بعدى بوصفها هي الشعب بمجموع طبقاته وطوائفه وثقافاته المتنوعة» ما كان ولن يكون ممكناً لأي جهد أو عمل أن يعطي أي نوع من الثمار الناضجة.

- 279 -

الفصل الثالث: مأزق التحديث مدرسة الأهالي والأفكار الجديدة مفهوم ( الشعبية) بديلاً للجماهيرية

أريد,ء في هذا السياقء أن أتوقف مرة أخرى من أجل مزيد من التوضيحات, أمام الدور الذي لعبته أفكار التحديث خارج الطبقة السياسية المتنفذة. ففي هذا الوقت ظهرت على المسرح جماعة الأهالي, التي يعود لها الفضل لا في إثارة نقاشات خصبة وفي وقت مبكر حول الموضوعات الحيوية وحسب؛ وإنما وهذا هو الأهم, تقديم مفهوم جديد للسياسة. ظهرت جماعة الأهالي مباشرة بعد ثورة 1920.» وكانت تعبيراً وتجسيداً لتطلعات نخبة فكرية وسياسية جديدة في العراق» تعلمت وتهذبت واستعدت لدخول المعترك. كانت أفكار جماعة الأهالي تبدو أكثر تطوراً وانسجاماً مع التحولات التى تجري في العراق والعام. نشأت الجماعة في الأصلء عن التقاء ثلائة من أبرز التيارات الفكرية الحديثة في المجتمع العراقي سنوات 1920 1924 . التيار الأول وهو الأقدم من حيث النشأة» كان يتمثل في جماعة صغيرة مؤلفة في معظمها من طلاب الجامعة الأمريكية في بيروت منهم عبد الفتاح إبراهيم ومحمد حديد وجميل توما ودرويش الحيدري نوري روفائيل» قبل أن يلتئحق بها بعد رقت قصيرء وقريباً من نهاية العام 1925 علي حيدر سليمان وعبد الله بكر. لم تكن هذه المجموعة الصغيرة من الطلاب على وفاق تام» من حيث توجهاتها الفكرية أو نوع وطبيعة حماساتها الوطنية» ولكنها مع ذلك تمكنت من إنشاء روابط فكرية عامة وحميمية في ما بينهاء قبل أن تعود لتفترق من جديد بسبب سفر بعض الطلاب لإكمال دراستهم في لندن. ومع ذلك تواصلت المراسلات بين هؤلاء الطلاب.

- 280 -

١‏ لفصل | لثالث: مأزق | لٌتحديثن 2 11_52 ٌئ"١٠'ٌجججج‏ سم من المؤسف أننا لا نملك اليوم أي شيء من هذه المراسلات - فيما أعلم -والتي يمكن عند دراستها أن تكشف عن نوع وطبيعة الأفكار الأولى للجماعة. أما التيار الثاني المؤسس لجماعة الأهالى فكان تيار كامل الجادرجى. الذي برز نشاطه السياسي الملحوظ عام 1926 عندما تم تعيينه في منصب معاون وزير المالية للشؤون البرلمانية أصبح الجادرجي في العام التالي 1927 عضواً في حزب الشعب المعارض الذي أسسه ياسين الماشمي؛ ثم في حزب الإخاء الذي أسسه الحاشمي تاليا خلفاً لحزب الشعب الُنحل. أظهر الجادرجي بعد ثلاث سنوات من دخول عالم السياسة؛ أنه معارض صلب لسياسة المعاهدات الاستعمارية التي كان نوري السعيد يسعى إلى تمريرها والترويج لها. وبسبب معارضته القوية هذه تعرض للسجن عام 1930. بعد سنتين من هذه الواقعة وجد الجادرجي نفسه وقد أصبح في قلب خلاف حقيقي مع الهاشمي؛ وليفترقا ودياً بسبب فتور معارضة الاشمي لمعاهدة 1930 الاستعمارية. وبينما كان الجادرجي يقطع روابطه مع الهاشمي ورشيد عالي الكيلاني» على خلفية تراجعهما عن معارضة المعاهدة» ويتجه جديا للبحث عن خيار سياسي آخر غير تقليدي؛ كان تيار آخر من الشباب الوطنيين يتبلور داخل الشارع؛ كتيار ثالث له الدوافع والأهداف ذاتها تقريباًء وامتاز فوق ذلك بالقدر نفسه من الحماسة الوطنية والنشاط والإيمان بالفكر الإصلاحي. تألف هذا التيار من مجموعة من الطلاب المعارضين لزيارة الصهيوني الإنجليزي الفريد موند للعراق» بقيادة حسين جيمل وعبد القادر إسماعيل قبل أن ينضم إليهما خليل كنه وجميل عبد الوهاب ( وني ما بعد فائق السامرائي ويونس السبعاوي). برز اسم حسين جميل بقوة» للمرة الأولى كقائد طلابي وطني أثناء اندلاع التظاهرات الصاخبة في كانون الثاني / يناير 1927 احتجاجاً على طرد

- 281 -

الفصل الثالث: مأزق التحديثت د -د<+8للالشطشٌش/د/ٌ“دب+جعم سم مدرس سوري حظي بشهرة واسعة في العالم العربي آنذاك» بعد إصداره كتاباً مثيراً للجدل ( الدولة الأموية في الشام) هو أنيس النصولي.

كان النصولي يرتبط بعلاقة حميمة مع طلابه وبشكل أخص مع حسين جميل. عندما نشر كتابه في بغداد اندلعت شرارة فتنة طائفية لا مبرر لهاء بعد أن قرر وزير المعارف عبد المهدي المنتفكي المعروف بتعصبه للمذهب الشيعي وبتعاونه مع البريطانيين ( هو والد عادل عبد المهدي الذي سوف يسير على خطى والده ويتعاون مع الأمريكيين عام 2003 ويصبح عضوا في مجلس الحكم المؤقت عن الشيعة ثم وزيراً للمالية». فصل المدرس السوري إثر صدور الكتاب واندلاع التظاهرات العارمة في بغداد. احتجاجاً على ما زعم أنه مساس بالشيعة» لقد لعبت طائفية المتتفكي دوراً حاسماً في إثارة الفتنة بعد فصل المدرس السوري. بيد أن لتظاهرات الطلابية العنيفة والصاخبة اندلعت أثر صدور قرار الطرد» وشارك فيها حسين جميل وفائق الجامراني وعبد اللطيف محي الدين وأنور نجيب وعبد القادر إسماعيل. وبدلاً من أن تنجح في إعادة المدرس إلى وظيفته؛ انتهث بطرد الطلاب المحتجين أنفسهم: حسين وفائق وعبد اللطيف ونجيب طردا مؤبدا من المدرسة ‏ كما جاء في نص قرار المهدي المنتفكي - وبينما كان الشاب حسي جميل يعبر بقوة عن إيمانه بالحركة الفكرية من خلال هاذ الاحتجاج ويدفع ثمناً فادحأًء كان الجواهري يكتب إحدى أكثر قصائله رجعية؛ والني دافع فيها عن قرار الفصل. يروي خيري العمري ( حكايات سياسية من تاريخ العراق الحديث - دار الهلال المصرية. القاهرة 9 ص: 159) قصة أول معركة فكرية هزت الرأي العام في العراق» وأصبحت حديث النتديات والمجالس العامة» وأثير فيها للمرة الأولى موضوع الحريات الفكرية وكيف أن الجواهري انتصر للتيار الرجعي الطائفي في الحكومة والذي نادى ورحب بقرار الفصل:

- 282 -

الفصل الثالث: مأزق التحدمت ل سبي واختلف الناس في أمرها ‏ القصيدة ‏ فبعضهم شجبها واعبر إقدام

اننيد عبد المهذي ‏ المنتفكتي د علئن:فصسل التسولي مائزة وبطولة: ولغثل

الجواهري كان يعبر عن هذا الشعور في قصيدته التي وجهها إليه وجاء فيها: الله يُجزيك والإباء مأثرة في الله صنت بها أباءك النجبا

لفنت التظاهرات التي دارت على خلفية الصراع حول الحريات الفكرية؛ أنظار المجتمع العراقي بأسره إلى طبيعة الموضوعات والتحديات الجديدة. كان موضوع الحريات الفكرية غائباً تامأ عن السجالات السياسية والفكرية. بيد أن حادثة النصولي أيقظت المجتمع والنخب على حقيقة حقيقة من حقائق العيش تحت ظل الاحتلال؛ فالبريطانيون الذي 000 0 الحريات وجدوا أنفسهم ينحازون إلى جانب القوى المحافظة.وعندما سارت تظاهرات الطلاب في شوارع بغداد وهي تهنف للحريات الفكرية وللوطن والاستقلال ( حكايات سياسية. ص: 155) فإن:

هذا النداء الذي يتردد الآن باسم حرية الفكر هو نداء لم يُصافح أسماعهم من قبل» وهو وإن بدا غامضاً على المارة الذين تجمعوا لرؤية هذه المظاهرة إلا أنه سحرهم فارتفعت أكفهم بالتصفيق.

لقد سحرت أفكار الحرية التى نادى بها الطلاب» الجماهير والمجتمع على حدٍ سواء. عنى ذلك أن علاقة جديدة قد تركبت أو يمكن تركيبها بين الشعب والجماهير»ء وعلى أسس مغايرة ومختلفة تماماً للأسس التي أرادها الإيديولوجيون في ما بعد» تقوم في ما تقوم على قاعدة الدعوة إلى المشاركة في الدفاع عن الحرية الفكرية بوصفها مهمة مقدسة للطرفين» ولا تخص هلامية بعينها انفصلت عن المجتمع وراحت تزعم حق تمثيله. م سرعان ما تحولت قضية الطلاب المفصولين إلى معركة ذات طابع شعبيى» حين طارت البرقيات

- 283 -

الفصل الثالث: مأزق التحديث ‏ 65 لس-ب-ب-ب-ب-ب-ببااامت الاحتجاجية واندلعت التظاهرات المؤيدة للتراجع عن القرار» وم ينته الأمر إلا باستقالة عبد المهدي المنتفكي من الوزارة. يلاحظ العمري وهو على حق (ص: 169) إن الطلاب الذين تصدوا للسؤال الذي طرحته قضية النصولي بجواب مثير وحماسي؟ عرضوا من الناحية الإجرائية وعبر هذه التظاهرات» موضوعا جديدا على المجتمع هو مسألة الحريات الفكرية. اللافت للانتباه في هذه القضية كان صمت وتجاهل النخب الفكرية والثقافية وتخاذهما عن تأييد مطالب الطلاب. كان الصمت الذي قابل به المفكرون البارزون والمثقفون والشعراء والأدباء والساسة كذلك. وخصوصاً أولئك الذين عرفوا بدفاعهم عن حرية الفكرء مريباً ولا يبدو مبرراً أو مفهوماً. صمت الزهاوي والرصافي وفهمي المدرس؛ بينما ترك الطلاب الشبان لوحدهم في ميدان المعركة من أجل الحريات. وتبين كم أن وعود الإصلاح والموشحات السياسية عن التحديث كانت فارغة وجوفاء.

في العام 32ؤظ1 عاد عبد الفتاح إبراهيم من الخارج. لم يكن عبد الفتاح إبراهيم على صلة من أي نوع مع الجادرجي؛ وكما تبين الوقائع فإنهما لم يتمكنا من اللقاء والتعرف على بعضهماء إلا في وقت متأخر لقاء تياريين الفتاح من لندن. على الفور باشر عبد الفتاح اتصالاته بحسين جميل ومحمد حديد وعبد القادر اسماعيل وخليل كنه؛ وليصدروا العدد الأول من جريدة الأهالي , تعبيراً عن لقاء تيارين من بين التيارات الثلاثة. وكما لاحظ عبد الغنى الملاح ( تاريخ الحركة الديمقراطية في العراق ‏ مصدر مذكور) فإن لمن اللافت للانتباه» حقأء أن العدد الأول من الأهالى حمل عبارة: جريدة يحررها فريق منم الشباب. وهي إشارة لا تخلو من الحذاقة والنباهة من حيث طابعها الخطابى. الذي يتوجه بنداء من نوع ما للشباب العراقى بأسره.؛ لكى يحذو حذو هؤلاء في تنظيم نفسه بعيداً عن الأحزاب التقليدية. بعد عام واحد فقط

- 284 -

الفصل الثالث: مأزق التحدين <دظ بيوسواهت لشٌشح جل من صدور الأهالي؛ وبينما كانت الجماعة الجديدة تتبلور فكرياً وسياسياً كجماعة سياسية ( باسم جماعة النشأة) قدم كامل الجادرجي استقالته من حزب الإخاء. وبذلك يكون الجادرجي قد قطع كل روابطه بالماضي السياسي التقليدي» واتجه بقوة نحو فكر إصلاحي وديمقراطي جديد. في هذا الوقت راح الجادرجي يراقب عن كثب أفكار جماعة النشأة أو الأهالي ويتابع الصحيفة ويتنشوق للقاء قادئها. في مطلع العام 1933 كانت العلاقات الشخصية قد توثقت بين الجادرجي وعبد الفتاح إبراهيم ومحمد حديد وعلي حيدر سليمان» بعد أن ساعدت الظروف والاتصالات الشخصية المتواصلة في تمتين عرى الصداقة الحميمة؛ ثم تتوالي الاجتماعات واللقاءات بينهم.

شعر الشبان الذين يمثلون التيارات الثلاثة» أن الحاجة بانت ملحة لطرح برنامج فكريء يمكن انطلاقاً منه إعادة تأسيس الأهالي كجماعة سياسية مغايرة» قادرة على طرح مفهوم للسياسة ينأى بها عن الألاعيب والمناورات. قبل هذا الوقت بقليل كانت سمعة الجادرجي قد سطعت بفضل موقفه الأخلاقي الذي عبر عنه باستقالته من حزب الإخاء احتجاجاً على تخاذل الماشمي والكيلانى في معارضتهما للمعاهاة البريطانية ‏ العراقية المفروضة على فيصل بضغط امن نوري الستعيد - معاغةة 1930 :هنذا المسياق كنان من الواضح أن هدف التحول إلى هيئة سياسية تكون أكثر تعبيراً عن الفكر الإصلاحي والديمقراطي» يتطلب قراءة أخرى عميقة وشمولية في الواقع العراقي. ويتضح من تاريخ جماعة الأهالي أن عبد الفتاح إبراهيم؛ كان من حيث القدرة على التنظير وبلورة الأفكار» الأوفر حظاً بين الشبان. ولذا تم تكليفه بعرض تصور لدور الجماعة. وفرت هذه الفرصة لعبد الفتاح إمكانية أن يقدم نفسه لزملائه كصاحب نظرية؛ وهكذا أصبح هو مهندس نظرية (

- 285 -

الفصل الثالث: مأزق التحديث ‏ 5.ببل--- -الالعه# ا اه الشعبية) التي سوف يكون لمنطلقاتها والتصورات التى تضمنتتهاء أبلغ الأثر في

ولكن؛ وحين ناقش المجتمعون الخطوط العريضة للنظرية» نشب خلاف فكري حقيقي بينهم. على أن هذا الخلاف مع ذلك؛ لم يكن مقدراً له أن يطفو على السطح في هذه الآونة» نظراً لحداثة عهد الجماعة وحرص المجتمعين على التوصل إلى قواسم مشتركة. وسوف نرى تاليا أن هذا الخلاف سيجد طريقه إلى العلن مع نشوء ثلاثة أحزاب عن الأهالي عام 1946 مع صدور قانون الأحزاب.

أحدثت الأهالي تحولاً هاماً في أفكار وتصورات الرأي العام العراقي للسياسة؛ وذلك بفضل قدرتها على طرح آراء جريئة وغير مألوفة. ويبدو أن نوري السعيد كان على نحو ما غافلا عن رؤية هذه التحولات المثيرة» وربما كان مُستخفاً بقدرة الأهالي على مخاطبة الرأي العام والتأثير فيه. في خريف العام نفسه 1932 توفي الملك فيصل. جاء موت الملك المفاجئ بمناسبة غير مُتتظرة ولا مرغوباً بها: خلاف عاصف بين أعضاء الجماعة الوليدة. وذلك حين تقدم علي حيدر سليمان أحد أعضاء هيئة التحرير بمقال يرثي فيه المللك ويمجد فيه أعماله وأفكاره. اعترض الجادرجي بشدة على أفكار المقال. في ما بعد سوف يتطور الخلاف إلى قطيعة تنتهي بخروج سليمان نهائياً من الأهالي. يلاحظ عبد الغنيى الملاح في ( تاريخ الحركة الديمقراطية في العراق» ص: 129) إن من يلقي نظرة على الظروف السابقة على نشأة جماعة الأهالي, وبالتالي على المسرح السياسي الذي ظهرت فيه بعد ثورة العشرين الكبرى؛ سيكتشف ( حقيقة النوعية السياسية التى مارست الحكم بتوجيه من دار الاعتماد البريطاني أو الملك المدين بعرشه لوزارة المستعمرات البريطانية) كما سيكتشف:

- 286 -

الفصل الثالث: مأزق التحديث ‏ د ا + دده

إن تلك النوعية كانت تعمل في دائرة من الثقافة الضحلة التي كانت هي الطابع المميز لثقافة العهد العثماني وتخلفاته فانغرست في نفوسهم مع كل أبعاد المصلحة الخاصة ( ..) فاندحرت تلك النوعية مع التيار الاستعماري عن قصد أو غبر قصد.

إذا كانت الثقافة السياسية الضحلة؛ هذه. هي التي ميزت المسرح السياسي في العراق» وأبطاله واللاعبين الأساسيين فيه طوال سنوات 1920 3 فللمرء أن يقرر حقيقة أخرى؛ وهي أن ظهور جماعة الأهالي م يكن يعنى دخول جماعة سياسية أخرى وحسب. بل يعني أن انقلاباً في مفهوم السياسة قد لاح في الأفق. فمقابل مظاهر الفساد وتبذير الأموال عند الطبقة الحاكمة وعلى رأسها الملك نفسه؛ ومقابل اندفاع السياسيين الفاسدين نحو الأهداف الأنانية والضيقة دون تردد أو حياء؛ كانت جماعة الأهالي تعرض موقفاً أخلافياً صارماً؛ وتضرب ال مثل في الوطنية ونكران الذات والجرأة في بلورة مواقف جريئة صريحة. ويبدو أن التأثير المذهل الذي تركته الأهالي في امجتمع وفي وفت مبكرء تجلى في بروز اهتمام شعبي متزايد بالسياسة. لقد بدأ اجتمع نفسه يهتم بأفكارها ومقالاتها ودعواتها الإصلاحية ونهجها الديمقراطي وليس جماهير الجماعة. وأكثر من ذلك راح المجتمع يعلق الآمال عليها من أجل ولادة حركة سياسية ( تختلف ثقافة وسلوكاً وتفكيراً عن رجال الحكم التقليديين - ص: 132) ولذلك:

كانت جماعة الأهالي هي المولود الذي انتبه له المفكرون بمن أبناء الشعب العراقي والذي بدا يؤثر تأثيراً واضحاً ‏ منذ العدد الأول.

في أطار الأفكار الجديدة هذه لعبت جماعة الأهالي دوراً بالغ الأهمية؛ إذ راحت تبشر بمفهوم جديد للسياسة. إنها الحقل الذي يستطيع فيه المجتمع

- 287 -

الفصل الثالث: مأزق التحديبت <تتتتعطعء>”> ش حج<جح7ب ل بأسره؛ أن يعبر لا عن نفسه وإنما عن تطلعاته وأحلامه» وعن نقده كذلك لمظاهر الفساد والثراء غير المشروع. كان النموذج الأبرز الذي استخدمته الأهالي في الترويج لأفكارها الإصلاحية» هو نموذج النهضة الأوربية ( الشورة الصناعية) والتبشير بأفكار الثورة الفرنسية عن العدالة والحرية. في هذه الأثناء كان السياسي العراقي الوطني جعفر أبو التمن يقود حربا سياسياً تمتنع بسمعة أخلاقية ممتازة نظراً لنزاهة قادته ونظافة أيديهم, هو الحزب الوطن العراقي المتحالف مع حزب الإخاء. من الواضح أن اشتراك حزب الإخاء في وزارة الكيلاني وتخاذله إزاء الاستمرار في معارضة معاهدة 1930 كانا من بين ابرز الأسباب, التى دفعت بالتحالف إلى نهايته. جاءت نهاية التحالف وخروج ثم اعتزال جعفر أبو التمن العمل السياسي» لتضع جماعة الأهالي أمام فرصة تاريخية ثمينة؛ ففي الوقت كان من الواضح أن الجماعة باتت بأمس الحاجة لأن تبلور نفسها في إطار مغاير» وإن يكون بين صفوفها شخص بحجم ووزن جعفر أبو التمن. ولذا باشرت جماعة الأهالي في وضع تصوراتها عن نفسها وعن دورهاء مع أولى العلامات عن اشتداد مأزق الجماعات السياسية التقليدية» وتفاقم خلافاتها واستشراء مظاهر الفساد وتعاظم أشكال النقد ضدها؛ والتى بلغت ذروتها مع القصائد اللاذعة للرصافي والشبيي. في هذا النطاق من التبدل المنسارع في تصورات الجماعة» أعلن عن تشكيل إطار سياسي جديد دعي ( جمعية السعي لمكافحة الأمية).

إن اسم هذه الجمعية» والذي يبدو غريباً بالنسبة لنا نحن المعاصرين؛ يُدلل على مقدار المرونة والديناميكية التي تمتع بها قادة الأهالي» فهم لم يفهموا السياسة إلا بوصفها فعالية اجتماعية رفيعة الشأن» يقوم بها أفراد متعلمون وضعوا أنفسهم في خدمة المصالح العلي للشعب» فتجمعوا في إطار سياسي وفكري من أجل تحويل هذه الخدمة المصالح العليا للشعب» فتجمعوا في إطار

- 288 -

الفصل الثالث: مأزق التحديث بياس سياسي وفكري من أجل تحويل هذه الخدمة إلى حقيقة ملموسة لا مجرد شعارات,. فور الإعلان عن تشكيل جمعية السعي من أ<ل مكافحة الأمية» بادر كامل الجادرجي وبتكليف من الأعضاء المؤسسين. إلى الاتصال بجعفر أبو التمن المعتكف في منزله. أسفرت مفاوضات الجادرجي مع أبو التمن؛ وبعد مُمانعة واضحة:؛ عن توافق عميق وجدي في الآراء. كان أبو التمن يدرك الطابع اللا حزبي للجمعية؛ ولكنه في المقابل وبكل تأكيد أدرك المضمون السياسي لعملها ونشاطها. رأى الشبان الإصلاحيين إلى هذا التطورء كمؤشر هام للغاية على عودة السياسة إلى جوهرها ومضمونها الحقيقي الذي نادوا به؛ وبالطبع بفضل نمط جديد من التفكير الواقعي مكنهم من زحزحة السياسة من جاها القديم الحزبى والضيق» والمشحون بالمناورات والتكتيكات الانتهازية» نحو ميدان شعبى أكثر رحابة: ميدان العمل الاجتماعي. ولتتجسد السياسة أطلع أبو التمن على كراسة الأهالي ( نظرية الشعبية) وافق على مبدأ تشكيل الجمعية على أساس أفكارها ومنطلقاتها النظرية» ولكن على قاعدة تغيير اسم الجمعية إلى ( جمعية الإصلاح الشعبي). ولسوف يتم شرح أفكار هذه النظرية» في ما بعد وبصورة أفضل وأكثر دقة في برنامج جديد مؤلف من سبع مواد

لم يمض الكثير من الوقت حتى تطورت الجمعية وأصبحت هيئة سياسية بالفعل» ولتلعب الدور ذاته في تنمية وتطوير وعي وطني حقيقي بالقضايا العراق السياسي الحديث) عن جوهر التقدم الحاصل في مفهوم السياسة بالنسبة

- 289 -

الفصل الثالث: مأزق التحديث للنخبة وللمجتمع على حدر سواءء؛ فهي ليست محض مناورات ودسائس وألاعيب من أجل المغانم والمكاسب؛ بل هي وعي النخب بالدرجة الأولى لأدوارها التاريخية. وكما كان الحال قبل ظهور جمعية الإصلاح» فقد واصلت جريدة الأهالي فضح مناورات الطبقة الحاكمة وراحت تكشف للمجتمع عن قصص مثيرة؛ وهو أمر أكسب الصحيفة صدقية وتأييداً في أوساط شعبية واسعة. أن أكثر ما يثير الحيرة في الملابسات التى رافقت عمليات تعطيل الصحيفة؛ المتكررة من جائب الحكومات المتعاقبة» والحملات القاسية الى تعرض لا قادة الإصلاح؛ يمكن أن يتجلى بأنصع صوره في افتقاد هؤلاء القادة إلى رؤية ثاقبة وموحدة إزاء تدخل العشائر في السياسة.

في هذا الوقت وابتداء من مطلع العام 1933 أصبحت العشائر لاعباً أساسياً في حقل السياسة؛ وذلك بفضل تحول الزعماء والشيوخ إلى قوة مهيمنة ومحركة خلف الكواليس. كان الساسة العراقيون التقليديون. مع استثناءات قليلة» يستغلون دون رحمة كل الوسائل والأدوات من أجل الإطاحة ببعضهم البعض. وبكل تأكيد كانت العشائر واحدة من هذه الوسائل بالنسبة لنوري السعيد وحكمت سليمان» فعن طريق إثارة اضطرابات مسلحة وتمردات فلاحية مفتعلة في الغالب ولا أهداف وطنية كبرى لمهاء ولكن واسعة النطاق في الريف؛ استطاع بعض الساسة إسقاط حكومات مُخاصمة متتالية» من غير أن يعبأوا بالآثار الاقتصادية والاجتماعية المدمرة. كان ظهور لاعب جديد هو العشائر ‏ امتلك فضلاً عن قوته التقليدية» قانوناً صبت مواده مباشرة في خدمة مصالح الشيوخ ( قانون تسوية مُنازعات الأراضي) تطوراً مُقلقاً بالنسبة للتحب الإصلاحية+ ته يعبر بدارجة ماعن تشابك جديد فى مالع السياسيين الفاسدين في المدينة مع الوقطاعيين في الريف. ويبدو أن الخوف على فكرة الديمقراطية من أن تتحول إلى مادة في هذه المنادرات» هو الذي أقلق, في

- 290 -

الفصل الثالث: مأزق التحديث <د38<تءاءاءطظطهث<<7سم سم هذه الآونة» كلاً من الجادرجي وعبد الفتاح إبراهيم ومحمد حديد؛ بينما ظل أبو التمن حائراً بين تأيبد تمرد العشائر أو الوقوف ضده؛ خصوصاً وإن أحد أبرز قادة التمرد كان عبد الواحد الحاج سكرء صديق أبو التمن ورفيق كفاحه في ثورة العشرين.

مثل دخول العشائر على خط المناورات السياسية» وتأييد بعض الساسة لا ( حكمت سليمان مثلاً الذي كان ويا للعجب متعاطفاً مع جماعة الأهالي وخصوصاً تأييده التمرد المسلح الذي تفجر بقيادة عبد الواحد الحاج سكر قصد إسقاط حكومة جميل المدفعى) تطوراً مثيراً في الحياة السياسية والفكرية في العراق. كان عبد الواحد الحاج سكر الرئيس الأكبر لعشيرة آل فتلة الأقوياء في الديوانية وأحد أبرز قادة ثورة 1920؛ وله فوق ذلك كلمة نافذة في عشيرته وفي المدينة هو الوجه البارز في هذه العصيانات. وفضلاً عن شجاعته وورعه فقد عرف رئيس آل فتلة بأنه داهية من الدُهاة. اصطدم عبد الواحد في وقت مُبكر مع الإنجليز. وظل يكن هم بُغضاً لا حدود له. ومن غير شك؛ فإن واقعة قيام مستشار الديوانية الإنجليزي جيفرسون بانتزاع جزء من أراضي عبد الواحد» بل وحرمانه حتى من حق تسجيل بقية الأأرض امتنازع عليها مع أفراد عشيرته؛ كانت سببا بين أسباب عدة في تأجيج روح العداء بينه وبين الإنجليز. وذلك ما يدفع بعض المؤرخي إلى الربط التعسفي بين اشتراكه في الثورة الكبرى حيث لعب دوراً بارزأ وبين هذه الواقعة» أي تجريد الإنجليز له من حقوقه في الأرض حتى قبل صدور قانون تسوية المنازعات في الأراضي. لكن عبد الواحد الذي أفاض في شرح دوافعه للقتال ضد الإنجليز أثناء استجوابه في المحاكمة الشهيرة يوم 4 تشرين الثاني / نوفمير 1920؛ من قبل محكمة عسكرية على أثر اعتقاله؛ أشار إلى مطالب ودوافع وبواعث أخرى وطنية في الصميم كانت وراء مشاركته» حتى أنه ولشدة صلابته وجرأته؛ خاطب

- 291 -

الفصل الثالث: مأزق التحديث ‏ --ا9ا امس الضباط الإنجليز بالقول: إنه وحده المسئول عن الثورة وإن أحداً غيره لا يحتمل مسئوليتها وأنه اشترى الأسلحة بنفسه من الجزيرة العربية. ( لمحات اجتماعية من تاريخ العراق ‏ مصدر مذكور ص: 154).

في هذا الإطار يمكن رؤية الصداقة التى جمعت الرجلين؛ فقد كان عبد الواحد إلى جانب جعفر أبو التمن» كتفاً لكتف في اجتماع النجف السري الذي ناقش مسألة إعلان الثورة في 4 أيار/ مايو داخل بستان. ولذا يبدو أمراً مثيراً بالفعل أن تكون العشائر وأدوارهاء سببأ من بين أسباب عدة في تحطم الجماعات الإصلاحية. لقد أدى الخلاف حول الموقف من العشائر إلى تفسخ الروابط الحميمة التي جمعت الإصلاحيين؛ وذلك ما يدعونا إلى التأمل في الأثر السلبي الذي تركه الزج بشيوخ العشائر في العمل السياسي. إن مثال جماعة الأهالي هذاء يُبين بوضوح نمط التعارضات التى ظلت كامنة ودون حلول؛ الفكر السياسي العراقي؛ إذ أن مفاهيم الإصلاح والديمقراطية و ( الشعبية) كانت تشق طريقها بصعوبة بالغة وسط مجتمع» تتحرق فيه كل القوى الاجتماعية إلى فض منازعاتها بالقوة. وهذا حقيقي تماما. لقد كانت فكرة الزج بالعشائر في النزاعات السياسية وإثارة التمردات المسلحة: فكرة مُغرية بالنسبة لطبقة من السياسيين الطامحين للسلطة, بالرغم من تشدقهم بالدبمقراطية؛ بينما على الضد من ذلك. غلبت جماعة الأهالى المخارف على الديمقراطية والقلق من تحول السياسة؛ إلى حقل نموذجي للمناورات الأنانية المدمرة للحياة المانية؛ عل ما عداها من مخاوف أخرى. وقد يصح القول في هذا المقام» أن دخحول العشائر في حقل السياسة طوال السنوات الممتدة م عام 1920 حتى العام 8 وطوال ثلاثين عاماً هو الذي مهد السبيل أمام الانقلاب في مفهوم السياسة, التي لم تعد بعد ذلك - لتعنى شيئا سوى إقصاء النخب بدعوى مشاركة الجماهير.

- 292 -

الفصل الثالث: مأزق التحديث لل "للب ببب ب ب بيسح

يعزو عبد الرزاق الحسني في ( تاريخ العراق السياسي الحديث -الجزء الثالث 1957 بيروت - لبنان» ص: 215) 1 7 أسباب فشل الحياة الحزبية في العراق إلى جملة من العوامل من أهمها ( ضعف ثقة الشعب في التنظيمات الحزبية وفي تقلب بعض المشتغلين بالسياسة على مبادثهم واندفاعهم وراء أطماعهم الشخصية). ولكن هذا التعليل لا يبدو على وجاهته ‏ كافياً لتفسير انحطاط الحياة السياسي. إن تحليلاً معمقاً سوف يفضي إلى الكشف عن علة أخرى لم يتناولها الكتاب والمفكرون بعد. برأينا إن لهذه التقلبات؛ والروح الانتهازية التى طبعت بطابعها سلوك الساسة. والميول الغرائبية والشاذة للاستيلاء على السلطة بأي ثمنء والرغبة الجامحة في كسب المال؛ حتى وإن كان ذلك بواسطة تملق قوات الاحتلال البريطاني أو الخضوع لقوى داخلية متخلفة؛ أرضية أخرى غير أرضية ثقة الشعب من عدمه. إنها العلة التى تكمن في مفهوم السياسة كما صاغه الفكر السياسي العراقي منذ مطالع القرن الماضي.

حدث الانقلاب المائل في مفهوم السياسة في العراق» صبيحة الرابع عشر من تموز/ يوليو 1958 (١‏ انظر الفصل الأول) وانقلب رأساً على عقب. بحيث جرى احتكار مقلوب تم بموجبه فتح الأبواب على مصراعيها أمام الجماهير, بينما تم إغلاقها بالمزلاج العقائدي أمام النخب. كان هذا العام بحق عام الجماهير؛ التى لم تكنف بدخول معترك الحياة العامة» بل قامت بالاستيلاء على حقل السياسة وطرد أو إزاحة النخب القديمة.

وابتداء من صباح الرابع عشر من تموز / يوليوء كانت الجماهير قد دخلت حقل السياسة بقوة وتحولت خلال أقل من عام, إلى حقيقة كبرى من

عم مال تاريخ العراق السياسي الحديث ج 3‏ مطبعة العرفان ‏ بيروت؛ صيدا 0317

- 293 -

الفصل الثالث: مأزق التحديث

حقائق الحياة الاجتماعية. نجم عن اندفاع الجماهير نحو العمل السياسي واقع جديد ومفاجىئ. فقد جرى إقصاء النخب المدينية ( الأفندية) القديمة. وقادرة التحديث ودُعاة التقدم» وحلت قوى جديدة هي خليط غريب من مختلف الطبقات. لم يعد العراقيون يصغون إلى كامل الجادرجي؛ بأكثر من إصغائهم إلى صوت داعية شيوعي في شارع الكفاح» يذكرهم بجرائم الإقطاع وفساد الملكية؛ أو داعية بعثي في حلة الفضل ببغداد يدعوهم إلى الانخراط في عمل تاريخي لبعث أمجاد الأمة. ويبدو أن إغراء الثورة» وحالة الهياج والشعور بالجماعي بالنصر مع تحقق الاستقلال الأول» وتعاظم مشاعر الإحباط والنقمة الشعبية على فساد الطبقة الحاكمة» فاقم من درجة الإحساس بأهمية السياسة عند قطاعات واسعة من أشباه المتعلمين والجماعات المهمشة. في المدينة والريف والطبقات الفقيرة في الأحياء الشعبية»؛ وحتى في أوساط المجموعات التى انزلقت إلى عال الجريمة من شقاة بغداد ( شقاوات الكرخ) بكلام آخرء كان جمهور الثورة شديد التنوع» ويصم خليطاً من الطبقات والجماعات التي قد لا يجمعها جامع إلى بعضها سوى فكرة الثورة والإطاحة بالسلطة. وليس دون معنى أن أحد أشهر أبطال الحزب الشيوعي العراقي» وهو خليل أبو الموب؛ أصبح في نهاية الخمسينات حتى مطلع الستينات» بطلاً شعبياً في أنظار المجتمع العقائدي. كان أبو الموب في الأصلء من شقاه بغداد( شقاوات بغداد) الذين سحرتهم الثورة وطابعها شبه الجماهيري. فانتقلوا أو أنجروا انتقاههم بمساعدة أنصار الحزب الشيوعي. وبدافع الحماسة وحدها ومن دون أفكار واضحة؛ من عالم الجريمة إلى عالم السياسة. وحتى اليوم يتبادل الشيوعيون نوادر من تصرافاته وممارساته بكثير من الفخر والاعتزاز. كانوا يجدون في هذه الشخصية» شخصية روائية تذكرهم بأبطال روايات مكسيم غوركي الكاتب الروسيء بأكثر ما كانوا ينظرون إليها كشخصية عراقية واقعية. لم يكن بوسع هذا البطل الشعبي كما

- 294 -

الفصل الثالث: مأزق التحديث ‏ تت تتللٌ لشلشب“+جمم سس صوره الشيوعيون وضخموا صورته كالعادة» أو يعرض نفسه على الجماهير الحزيبة والمجتمع كسياسي محترف قبل عام واحد من الثورة» لا لشيء إلا لأن السياسة كانت تعنى شيئاً آخر غير الهياجانات والتظاهرات.

لقد أتاحت له الثورة وسيطرة الأحزاب العقائدية على الشارع كذلك؛» أن يكون عضرا في العائلة السياسية الجديدة داخل المجتمع. إن الفكرة التى بدأ الشيوعيون, آنئذرء بإشاعتها في الأورساط الشعبية المجذبة إلى الاشتراكية» والقائلة بضرورة التسلح بالعقيدة» سوف تتوازى في خيال البطل الشعي القادم من أسفل السلم الاجتماعي والذي تسلق قاع الجريمة كما لو كان بطلاً من أبطال الروايات الروسية الشيقة - وخرج إلى العالم باعجوبة مُشبعاً بالأفكار الثورية - بل وتتناظر مع الدلالة الوحيدة في ذهنه عن التسلح: أن يحمل سلاحاً لحماية الثورة والجمهورية والحزب. وبذلك أصبح البطل الجديد ‏ الشقي القديم» قادراً على مواصلة العنف نفسه الذي كان يمارسه؛ ولكن هذه المرة من أجل أهداف جليدة.

على هذا النحوء وفي وقت مُبكر من الثورة» تجلت العقائد الجماهيرية في الشارع كنوع من ممارسة للعنف بواسطة الأفكار» وتلاشي المفهوم الشعبي للسياسة؛ الكلاسيكي والبسيط ولكن العميق والحقيقي: المسايسة والتعقل وموازنة الأمور باحتراس وحكمة.

وهكذاء فبين أعوام 1932 - 1958» وطوال أكثر من ربع قرن» كانت هناك موجتان من الأفكار في العراق تتصارعان تحت السطح: الموجة الأولى:

هي موجة الأفكار التقليدية وا محافظة» القائلة إن أشكال تحقيق الانتقال التاريخي من الاحتلال غير المباشر» إلى مرحلة تجذير الحكم الوطني, يمكن أن

- 295 -

الفصل الثالث: مأزق التحديث ٠‏ بل-بباااامت تتم بواسطة التفاوض مع الإنجليز والتفاهم معهم على تحديد وتعيين دور ومن بين أبرز ممثلي هذه الأفكار نوري السعيد» وصالح جبر وجميل الثورة ( الذي كان نفوذه في القصر الملكى مادة من مواد التشهير. حتى وصف بأنه راسبوتين العراق وذلك بسبب قبوله التعامل مع الإنجليز أثر فشل الثورة). على الطرف الآخر ترعرعت في أوساط الضباط القوميين مشاريع وأفكار خلاصية سوف تنفجر بأشكال مختلفة» ففي العام 1941 حدئت الحرب العراقية ‏ البريطانية» في أعقاب ثورة مايس/ أيار وتشكيل حكومة رشيد عالي الكيلاني. لقد رأى الإنجليز إلى هذا الصدام مع الضباط القوميين والعروبيين في الجيش العراقي؛ صداماً بالنيابة قام به الآلمان» وكان لك ذروة الخداع. لآن الاحتجاجات العظيمة التى عبر عنها قادة ثورة 1914 دفعوا بسببها أرواحهم؛ لا علاقة لها بالتنازع الإنجليزي - الآلماني» بمقدار ما عبرث عن تطلع العراقيين إلى إحداث إصلاحات هيكيلة في السياسة وإلى تجذير الحكم الوطني وانتزاع الاستقلال. أما الموجة الثانية:

فهى موجة الأفكار الجديدة التى عمت العراق» وأحدثت تغييراً بنيوياً في مفهوم السياسة؛ تعنى الأفكار الثورية التى بدأت رياحها تهب على العراق من الخارج. أفكار الأحزاب الجماهيرية الشيوعية القادمة من الاتحاد السوفياتي» والعروبية ‏ القومية ثم البعثية القادمة من سورية تاليا.

إن سنوات 1934 - 1947 قمثل بحق. بداية دور غير مألوف بعد. للأفكار والتصورات والرؤى الفكرية التي نادت بدخول الجماهير إلى عالم

- 296 -

الفصل الثالث: مأزق التحديث 7 65ب لاب و السياسة. ولكن سُيلاحظ في هذا الإطارء التأثير المحدود للأفكار الحديئة الليبرالية على المجتمع العراقي» فهي لم تعد تلعب دوراً بارزاً وحقيقياً مع إخفاق مشروع التحديث. الذي نادى به فيصل أو جماعة الأهالي؛ بل إن الليبرالية كان كلمة مقيتة في أدبيات الشيوعيين وإلى حد ما البعثيين والقوميين. لم تلامس الوعود الإيديولوجية الشيوعية والبعثية والقومية» المشكلات الملحة والعاجلة في مجتمع بطيء التطور مثل مجتمع نهاية الأربعينات» بقدر ما ذهبت شوطأ بعيداً باتجاه رسم تصورات ورؤى عن المستقبل البعيد غير المنظور: أحلام الاشتراكية عند الشيوعيين» والأمة الواحدة عند البعثيين والقوميين. والمساواة والمواطنة كما حدث في إيران وتركيا.

بكلام آخر: جاءت الموجة الجديدة من الأفكار الجماهيرية» لتحول السياسة إلى أحلام خيالية عن المستقبل» وابتعدت بها عن موضوعات الواقع الملحة؛ وتولت الأحزاب بنفسها القيام بواجب الدعوة إلى أهداف بعيدة» تقفز على أهداف الإصلاح والعدالة والمساواة والدستورء الممكنة والعاجلة والُطلب بها بقوة. إن أَيَأْ من هذه الأحزاب لم يفكرء وربما لم يرق له التفكير» بإمكانية تحويل الصراع مع الطبقة السياسية الحاكمة» إلى صراع مطلبي من أجل تسوية تاريخية عادلة وممكنة» تتيح للمجتمع إمكانية تحقيق وإنجاز عقد اجتماعي جديد يضمنه الدستور. وعلى العكس من ذلك كان الصراع يدور برمته حول تصور المستقبل البعيد. وليس الواقع الراهن. ومما فاقم من حدة الصراع بين الطبقة السياسية الحاكمة المرتبطة بالقصر والإنجليز» وبين القوى الجديدة الجماهيرية أن هذه القوى كانت تنادي بأفكار مثيرة للذعر تطاير منها حتى أكثر السياسيين اعتدالاً؟ فالشيوعية لم تكن في أنظارهم سوى تبشير أو دعوة للبلاد بالالتحاق بمحور شرقي يقوده الاتحاد السوفياتي» بينما بدت أفكار القومية العربية تبشيراً

- 297 -

الفصل الثالث: مأزق التحديثن ‏ دظدجسجب_ 77 سم بتذويب العراق الكاريزمي في ( دولة ‏ كيان ) أكبر هو مصر. في المقابل؛ لم يكن لدى الطبقة السياسية الحاكمة رؤى وتصورات بديلة. كل ما كانت تملكه

هو الرهان على الصاد قة مع بريطانيا والغرب» ولكن من دون أن تقترن هذه الدعوات بنوع من العمل السياسي أو الفكري أو الاجتماعي من أجل انتشال العراق من التخلف. إن درجة الفساد المريعة في الطبقة السياسية» ولا في مباهج 0 وما بدرجة أكبر» في انخطاط فكرها السياسي. لقد

شت أو تراجعت إلى الخلف أفكار الليبرالية الغريية وغاب تمثلوها عن 0 ولم يعد بالإمكان رؤية قوى حقيقية حقيقية تنادي بالعدالة أو الدستور أو الاستقلال أو تقود حركة اجتماعية غير حزبية» ولا أهداف ومطالب اجتماعية عامة واضحة؛ على غرار ما أفرزه النموذجان الويراني والتركي سنوات 1906 - 1908 وراحت الأحزاب الجماهيرية» منذئ. تنمي في اجتمع وشيئاً فشيئأ نوعاً من الميول لتقبل أفكار إبمانية وإطلاقية عن الهيمنة: هيمنة طبقة على طبقات كما عند الشيوعيين» أو هيمنة أمة على أمم أصغر كما عند البعثيين والقوميين. وكان ذلك ذروة التبشير بعقد اجتماعي غريب من نوعه. والمثير أن الحزب الشيوعي العراقي شهد انشقاقاً خطيراً في صفوفه في أوائل الخمسينات» على خلفية إقدام أحد قادته على توجيه مذكرة للبلاط الملكي تدعو للإصلاح السياسي والاجتماعي؛ بل وأطلق معارضو هذا الاتجاه داخل الحزب على خصومهم لقبا تحقيرياً: البلاطيون - نسبة إلى البلاد الملكي - مجرد أن هؤلاء قدموا عريضة للبلاط تناشده فيها العمل على الإصلاح - كانت الروح الثورية متأججة وغير قادرة على تصور نفسهاء وقد نظر إليها على أنها تستجدي الإصلاح من الرجعيين والبرجوازيين ومن البلاط والسياسيين الفاسدين. ولم يكن بالوسع رؤية اتجاه أو تيار في السياسات التي اتبعتها الأحزاب الجماهيرية» في هذه الآونة» له القدرة أو الشجاعة على تخطي منظومة الأفكار والرؤى

- 298 -

الفصل الثالث: مأزق التحديثن ‏ ب د ددج4يلا> 7 سس السائدة» أو التبشير بفكر تحديثي حقيقي قائم على أسس وتحليلات متماسكة. كان الفكر السياسي السائد قد حسم الأمر على أساس الثورة وتدمير الدولة البرجوازية» كما عند الشيوعيين» أو تحطيم القطرية» كما عند البعثيين والقوميين.

ولذا بدا منطقياً تصور تاريخ العراق طوال تلك السنوات» على أنه تاريخ صراع بين موجتين من الأفكار: تقليدية ومحافظة ( حتى لا نقول رجعية) وأخرىء أفكار جديدة عقائدية جامدة. ( حتى لا نقول حديثة لأن الأفكار الحديثة كانت تعنى» في هذا الوقت. أفكار الليبراليين الغربيين أعداء الاتحاد السوفياتي والعروبة على حد سواء). أخيراً جاءت الثورة لتضع حداً لهذا الصراع. ولكن» وعلى غير توقع؛ لتقوم بنقله إلى طور آخر؛ فبعد أيام فقط من نجاح الثورة وتصفية العائلة السياسية المحافظة والتقليدية؛ تفجر الصراع بين الجماهيريين أنفسهم؛ وأصبح الصدع في الجتمع السياسي مكشوفاً ومرئياً من جانب المجتمع الكبير والحقيقي بأسره؛ فالأمية - الطبقية أصبحت في مواجهة العروبة ‏ الوحدوية. في هذه الأثناء» لم يتسن للضباط الأحرار الذين قادهم عبد الكريم قاسم قطء وفي ظل تفاقم المنازعات الداخلية المبكرة على الحكم؛ مع أبرز شركائه عبد السلام عارف وبالطبع على الموقف من عبد الناصر والوحدة؛ الالتفات إلى أنزياح النخب المدينية من عالم السياسة. وبالكاد أفلح قاسم في ظل هذا الصراع ولوقت قصيرء في جمع شخصيات مدينية مرموقة من حوله. مثل إبراهيم كبه ومحمد حديد وآخرين.

كان تلك محاولة يائسة لإعادة النخب إلى الحفل الذي طردت منه أو انزاحت عنه؛ بفعل استيلاء الجماهير وانفرادها بالعالم الجديد من العمل في الشآن العام. هذا العالم الذي اكتشفته صبيحة ذلك اليوم بفضل سيطرتها شهب المطلقة على الشارع. وبينما انزوى رجالات السياسة القدامى

- 299 -

الفصل الثالث: مأزق التحدديث ‏ ال“ستال"اا)جعًً عع والمتمدنون خلف المسرح, امتلأت حينئذر الشوارع والمنتديات بالجماهير المؤلفة في الغالب من أشباه الأميين وأنصاف المتعلمين» وأضحت بسرعة ومن دون تدريب فكري أو مهارات سياسية حقيقية أو دراسة للأفكار» هي القوة الوحيدة الهيمنة في عالم السياسة. ولئن أدت الثورة إلى إنزياح النخب. فإنها أدث فعلياً إلى تفلت الجماهير من كل إمكانية للسيطرة الحقيقية على ردود أفعانها أو ممارساتها العنيفة. هذه المرة أيضاً لم تلعب الأفكار الحديثة دوراً حقيقياء لا في قيادة الجماهير ولا في صياغة مطالبها وأهدافها. وباستثناء المطلب الوحيد الذي رفعه الشيوعيون والداعي إلى صيانة الجمهورية؛ فإن أية مطالب أخرى لم تكن لنُسع بنفس القوة. إذ لم يكن هناك مطلب يخص الدستور الدائم أو التحديث. لقد كسب العراق دستورا مؤقتا مع الثورة سوف يظل ملازما للحياة السياسية والاجتماعية حتى عقود تالية» من دون مطالبات جادة بتحويله إلى دستور دائم. على العكس من ذلك تبين أن القادة كانوا يحولون السياسة إلى حقل لتنمية الروح الرعاعية والسوقية عند الأقسام الأكثر بؤسأ في الجماهير» حين صاغوا لا أناشيدها البذيئة عن عفلق وعبد الناصر وعن الوزيرة الشيوعية ( التى كانت تستحق الاحترام بكل تأكيد كأول امرأة تدخل الوزارة العراقية بعد الاستقلال). منذ تلك اللحظات توجب إطلاق دعوة صريحة بعودة الجماهير إلى منازله. لقد فرغت من التعبير عن مواقفها وتطلعاتها؛ وكان يتعين عليها ‏ الآن وني الحال ‏ أن تترك الشوارع والميادين العامة من أجل ضمان استقرار الحياة اليومية؛ تمهيداً لإعادة صياغة مفهوم الشراكة المجتمعية في السياسة. وبكلام آخر إعادة السياسة إلى الجتمع وكسر احتكار الجماهير لا.

إن دعوة الجماهير للعودة إلى منازلماء دعوة من أجل الاستقرار والإصلاح والعقلنة. ومن دون عودة الجماهير وإخلاء حقل السياسة من

-300-

الفصل الثالث: مأزق التحديث ال--اس- اا ا ا.؟! ا ا باب ب ا ابيبح حالات الياج والعنف» سيكون مستحيلاً إنجاز الشروط الأساسية لأي تحديث في المستقبل. بيد أن دعوة الجماهير للعودة إلى منازهها لا تعنى حرمانها من لعمل السياسي؛ بل إعادة السياسة إلى جذورها: كممارسة ثقافية تخص المجتمع بأسره لا كتلة هلامية انفصلت عنه وعبرت عن نفسها في صورة مجتمع سياسي صغير وشبه مغلق وعنيف.

-301 -

الفصل الثالث: مأزق التحديث

نهاية الدولة الكاريزمية حشود وإيقاعات

طوال السنوات الممندة من 1921 - 2003 كانت فكرة التحديث تترنح عند عتبة الأقدار التي عصفت بالعراق» وتلاشي الحلم أو كاد مرات كثيرة ومع كل تعثر لا. كانت الحياة السياسية تتقلص وتضيق لتصبح حكراً لجماعات بعينهاء بينما تغدو الأفكار أقل تعبيراً عن الرغبة الجاحة في اللحاق بالعصر. إذا كان سقوط بغداد في 9 نيسان/ أبريل 2003 في قبضة القوات الأمريكية ‏ البريطانية» هو الحادث الذي وضع الخاتمة الدرامية للدولة الكاريزمية في العراق» بعد أكثر من ثمانين عاماً من تأسيسها؛ فإن هذا الحدث وحده ولبس أي تطور دراماتيكي آخرء هو الذي سوف يُبين بجلاء أكبر, ثما هو عليه الحال اليوم» كيف أن محو وتلاشي الدولة الوطنية من المسرح» قد أفضي وعلى سلسة من التداعيات المتعاقبة والمباعة» في مجتمع قام أساساً من الناحية التاريخية» بوصفه مجتمع تناقضات وتباينات عرقية ومذهبية وثقافية بامتياز؛ افتضن وو الذولة الوطية فيه على التشين عن تفيدها في كل لحظة برضفها القوة المطلقة النفوذ» والقادرة بفضل قوتها الرقابية على منع هذه التناقفضات والتباينات من التفجر والتصادم. هذه التداعيات الناجمة عن تلاشي الدولة ومحوها بوساطة قوة خارجية عنيفة ووحشية وشرسة ولا أخلاقية» أدت بدورها إلى سلسلة جديدة ومتواصلة من التفاعلات» سرعان ما انعكست سريعاً داخل المجتمع نفسه؛ في صورة توترات تجاذبات سياسية ومذهبية ودينية وحزبية واثنية غير مسبوقة شملت البلاد كلها. ولأجل فهم متطلب؛ فسوف توقف عند الحدث الملعي الجديد: احتلال بغداد ومحو الدولة وتفكيكهاء وذلك من أجل معاينة تمط الأوهام التى أشاعها السياسيون والمثقفون الفاسدون عن وعود الحداثة في ( العراق الجديد). - 302 -

الفصل الثالث: مأزق التحديثن ‏ <+7ا1اسلللءاع ا

أدى سقوط بغداد هذه المرة» وكما لم يحدث من قبل في تاريخ العراق القديم والحديث. إلى انهيار مزدوج: فقد سرّع انهيار الدولة وتلاشيها تمامأ عن المسرح وعلى الفورء من درجة وشدة تفكك وانهيار العقد الاجتماعي. وهذا ما نجم عنه وعلى نحو متتابع وسريع نوع من ارتداد المكونات والعناصر في المجتمع» إلى حالتها الأولى البدئية ما قبل المجتمعية. حثى أن كثيرين عادوا بذاكرتهم؛ في تلك اللحظات. إلى اليوم الذي اعتلى فيه الملك فيصل الأول عرش العراق في عشرينات القرن الماضيء عندما خاطبهم الملك قائلاً أن مهمته هي أن يصنع من هذه العناصر المتنافرة شعباً موحداً؟

في صباح التاسع من نيسان/ إبريل لم يعد العراقيون شعباً واحداً. هذه هي الحقيقة.

لقد هتك الاحتلال النسيج الاجتماعي وقام بتمزيقه طولياً؛ شرمه إلى نصفين قابلين. للانقسام إلى أجزاء إلى أجزاء أصغر. وني قلب هذا العمل المريع كانت دعاوى الحداثة في ظل الاحتلال حاضرة أيضاً. تماماً كما عليه الحال في مطلع القرن الماضي مع الاحتلال البريطاني. وبذلك عاد المجتمع العراقي مع سقوط بغداد» بالفعل» إلى حالته ما قبل المجتمعية إلى كتلات كبرى خيالية متنافرة وربما مُتصارعة ومُتنافسة» واكتشف الجميع سواء اعترفوا بذلك علناً أم صمتوا عن الحقيقية» أن الكيان العراقي له خصوصية وفرادة يصعب القياس عليها؛ فالدولة الوطنية المحتكرة للعنف والثروة كانت تلعب» وبوساطة العنف واستخدام طاقته بالتوازي مع كل أشكال ونُظم الرقابة الصارمة والمقيتة؛ دور الكفيل الذي ظل يضمن نوعاً من الوحدة الوطنية الداخلية. أي حراسة العقد الاجتماعي القديم بكل عيوبه؛ لمنع انهيار أو تصدع الروابط والأسس التى قام عليها امجتمع. بكلام آخر: كان العنف في تاريخ الدولة العراقية القديم والحديث؛ هو المادة الصمغية الوحيدة القادرة على ضمان التماسكات

-303-

الفصل الثالث: مأزق التحديث الداخلية» وإنشاء نوع من التوازن بين المكونات الثقافية ‏ بصرف النظر عن رأينا في هذا الأمرء وبقطع النظر عن موقفنا من عنف الدولة سواء كنا بالضضد منه أو كنا من أنصراه ‏ كما أن عنف الدولة بوصفه المادة الصمغية؛ كان المصدر الأول الدولة» السيطرة والهيمنة والنفوذ» بينما يسمح للطرف الثاني - ا جتمع» بتحوله إلى مجال مفتوح لممارسة الهيمنة والرقابة على الأفراد والقوى.

ولذلك يبدو انهيار الدولة وتلاشيها من هذا المنظورء انهياراً لما أسماه الملك فيصل الأول ب ( عنصر البناء). وهو العنصر الأكثر قوة في مواجهة( عنصر الحدم ) في هذا الكيان. ولئن كان الكيان العراقي محكوماً بهذين العاملين المركزيبن في الصراع؛ فإن تلاشي الدولة ومحوها وتفكيك مؤسساتها وتعريضها للنهب؛ لم يكن ليعنى أي شيء آخر سوى تلاشي عنصر البناء نفسه. وبالفعل؛ فإن زوال الدولة عن المسرح عنى؛ وبصورة مباشرة زوالاً لعنصر البناء من المعادلة. بيد أن سقوط بغداد منظوراً إليه من زاوية إخفاق وفشل الحداثة, في مجتمع ظل يحلم بها طوال أكثر من مائة عام متواصلة دون جدوى. ولكن أملاً في استرداد صورته الكاريزمية من خلاها؛ سيبين للباحث واحدة من أسطع الحقائق عن نوع وطبيعة المأزق الذي بلغه فشل النخب السياسية والفكرية والاجتماعية؛ على صعيد فهم واستيعاب المشكلات المطروحة؛ وبالتالي فشل المقاربات الإيديولوجية»؛ على صعيد فهم واستيعاب المشكلات المطروحة؛ وبالتالي فشل المقاربات الإيديولوجية التى ميزت الخطاب السياسي والفكري العراقي طوال أكثر من نصف قرن.

بانهيار العقد الاجتماعي القديم؛ القائم على أساس التعايش التقليدي الخالي والُفرغ من التحديدات والتعيينات الدقيقة» للواجبات والحقوق الثقافية والاجتماعية للمجموعات العرقية والمذهبية الكبيرة والصغيرة» عادتث الطوائف والإثنيات إلى صورتها الأولى ما قبل المجتمعية»؛ كجماعات متصارعة

- 304 -

الفصل الثالث: مأزق التحديثن 690 بللللٌ"اتاطج جم ومُطالبة بالحقوق والامتيازات؛ كما كان الحال في الماضي وتمامأء حين أسس الملك فيصل الأول الدولة الوطنية الحديثة.

ولذا توزعت الكتلات البشرية التاريخية المتنافرة؛ التى فضت شراكتها القديمة للتو بفعل الاحتلال» وراحت تنظم اصطفافات جديدة غير عابئة بمصير الكيان ا جتمعي الواحد؛ لتنتظم في مجموعتين عرقيتين كبيرتين: العرب والأكراد. ثم على مجموعتين مذهبيتين كبيرتين: شيعية وسنية؛ بينما انمجذبت مجموعات عرقية ومذهبية وثقافية أصغر إلى هذه المجموعة أو تلك. على سبيل المثال؛ فإن التركمان الشيعة وجدوا أنفسهم, من الناحية السياسية أنهم أقرب إلى تيار شيعي يقوده الصدر الابن؛ الذي يقف علناً ضد الفيدرالية الكردية ويعارضها بقوة وحزم. بينما انجذب الفرع السني من التركمان وخصوصاً في المناطق المتداخلة مع مناطق الحكم الذاتي الكرديء وتلقائياًء إلى السنة العرب وليس إلى الأكراد» الذي يهددونهم بفرض اليمنة على كركوك؛ وبذلك تجاوز السنة التركمان الجانب الإثنيى في مسألة الصراع مع الأكراد لصالح ميوطهم المذهبية ومخاوفهم السياسية؛ ووائقين أكثر في نفس الوقتء من درجة تمنع أهل السنة العرب إزاء الفيدرالية؛ وذلك في ظل شروط ودوافع ومحاوف متراكبة» ناجمة في الأساس عن ذعر حقيقي من أن يجد الفرع السنى من التركمان نفسه وقد أصبح تحت هيمنة كردية. أما الآشوريون والكلدان؛ وممئلو الديانات الصغيرة والمجهرية؛ والمجموعات الثقافية الأخرى الأضعف والأقل نفوذاًء فقد توزعوا بدرحات متفاوتة من الولاء بين الأكراد والعرب. بحثاً عن مكافآة مجزية في ظل تفسخ وانهيار العقد الاجتماعي.

أدى انهيار العقد الاجتماعي وبالصورة المأسوية التي وقع فيها. إلى انفجار هائل لسائر الحساسيات الثفافية في المجتمع العراقي. لم يعد هناك كابح يمنع أو يُعيق السياسات والأفكار غير الْمتبصرة واللامبالية» من أن تنطلق وتشق

- 305 -

الفصل الثالث: مأزق التحديثنت ‏ -+لللطعظسيٌطع <7ت_ سس طريقها كمطالبات من طبيعة ( بازارية) تجارية ومألوفة» بالحصص الامتيازات حتى وإن كان ذلك على حساب مجموعات أخرى. ولم يعد هناك ما يعيق أو يمنع التوظيف الانتهازي هذا التفجير؛ أو يحرم تحويله إلى نضالات سياسية يومية من أجل الغام. على العكس من ذلك شهد العراق طوال ثمانية أشهر متواصلة بعد الاحتلال» حراكاً اجتماعياً هائلاً تدافعت فيه الطوائف والإثنيات بالمناكب» فتزاحمت على طريق الانفراد في صياغة بنود عقد جديد. رأت فيه كل جماعة؛ أملاً بضمان حصص أفضل وامتيازاً أكبر. في هذا الإطار اندفعت الجماهير من جديد إلى السياسة.

ولنقل أن الاحتلال أعاد الجماهير إلى نمط من السياسة؛ لا يعنى سوى القبول بالنخب الجديدة الفاسدة والمرابطة بالاحتلال. إنها الكتلة الهلامية» والخليط الذي لا حدود ولا ضفاف لتداخلاته وتشابكاته المصلحية» وقد أيقظه دوي الانهيار تحت الاحتلال على حقيقته عن نفسه وعن شركائه. وليدفع به إلى الشوارع كقوة إعصار سياسي لا سابق له. ولكن أيّة سياسة وبأي مفهوم؟. ابتداء من العاشر من نيسان / أبريل 2003 وحتى 20 كانون الثاني/ يناير 4 ذظلت التظاهرات والاجتماعات الحاشدة؛ التى لعب فيها رجال الدين الشيعة والسنة دوراً مركزياً على صعيد القيادة والتنظيمء هي السمة الطاغية على نوع النشاط السياسي. ومع تصاعد الدعوات الجنونية لسياسات اجتفاث البعث وارتفاع وتيرة القتل العشوائي ضد كوادره. وتصاعد وتيرة القتل عادت السياسة لترتبط بالمفهوم ذاته الذي عبر عنه نوري السعيد: داء الإجرام السياسي. كان النزوع إلى تنظيم التظاهرات الصاخبة وجذب قوى لمجتمع إلى الشارع؛ من القوة بحيث أن أي فكرة أخرىء» مثل تنظيم ندوات مفتوحة أو إجراء نقاشاث فكرية حرة وصريحة حول الموضوعات المثارة؛ كانت ستبدو عديمة المعنى وربما خرقاء. لقد تأهبت كل الجماعات والطوائف للعمل من

-306 -

الفصل الثالث: مأزق التحديث الا بلا ا 1 -‏ ]|1-1ىلىلى أجل إعادة تعريف نفسها وأدوارها. الأكراده مثلاًء أعادوا توصيف دورهم السياسي كشريك علنى للاحتلال» ولذا طالبوا الإدارة المدنية الأمريكية ‏ إدارة بول بربمر ‏ بتسديد ثمن الخدمة» وهذا ما تجلى في مطالبتهم المبكرة بحسم مسألة الفيدرالية قبل الانسحاب الأمريكيى الحتمل من العراق؟ على الطرف الآخر رأى الشيعة أن هذا الحدث الحلعي يمثل فرصة تاريخية سانحة أمامهم, لإعادة فرض مفهوم الأغلبية في اجتمع؛ وهو مفهوم مُلتبس روج له الإنجليز منذ العام 1914 بهدف تحطيم الإمبراطورية العثمانية السنية. وبالتالي فقد أعاد الشيعة مع سقوط بغداد تعريف دورهم ‏ هم أيضأً ‏ ولكن على أساس أنهم الأغلبية التى يحق لها بموجب هذا الامتياز الأسطوري احتكار الحكم ( لا تمنع هذه الحقيقة من القول بوجود تيار داخل الشيعة عقلاني ووطنى شديد التحفظ على فكرة الأغلبية).

وخلال الأشهر الثمانية الأولى من الاحتلالء وبينما كانت كل الجماعات والطوائف تواصل تعريف أدوارها وهوياتها» حدث ما يمكن اعتباره ببطئ من شدة هذا النشاط ودرجة غليانه؛ فالأكراد الذين اخذوا المواثيق في سنوات المعارضة في الخارج, من الأحزاب السياسية للشيعة بالتصويت لصالح الفيدرالية الكردية ودعمهاء فوجئوا أن هذه الأحزاب مع سقوط بغداد وغرق البلاد في الفوضىء ليست هي القوة الحقيقية المسيطرة على الشارع الشيعي؛ وأنها بالتالي لا تملك إمكانية فرض هذا الحل» وهي ليسء ولن تكون. في ظل توازنات جديدة داخل الطائفة فرضتها تطورات الأوضاع. بقادرة على تصديق هذه المواثيق أو الدفاع عن حقوق الأكراد في الفيدرالية؟ وهذا ما جسده على أكمل وجه الموقف الرتبك الذي عبر عنه حزبا الحكيم والدعوة» داخل مجلس الحكم الانتقالي من مسألة الفيدرالية الإدارية أو الجغرافية أو العرقية. لقد

-307-

الفصل الثالث: مأزق التحديث وجدوا نفسيهما عاجزين عن مقاومة ضغط جماعات جديدة شيعية» مثل تيار الصدر المعادي بشكل مكشوف للفكرة.

على العكس من ذلك رأى الأكراد بأم أعينهم كيف أن أكبر قوة شيعية في الشارع ( تيار مقتندى الصدر) وليس أهل السنة» هي التى رفعت في وجههم وعلى غير توقع شعار لا للفيدرالية؟ إن التمنع إزاء إقرار مبدأ الفيدرالية الكردية لم يصدر عن أهل السنة» الذين ينظرون - تقليدياً - إلى المسألة بحساسية مفرطة؛ بل صدر عن حلفاء الأكراد من الشيعة . هذا التبدل المثير والمتسارع في التوازنات» هو الذي قلب الحسابات رأساً على عقب. ثمة في هذا السياق عامل آخر مفاجى. لعب دوراً خفيا في كبح جماح المطالبات» فقد واجهت دعاوى الشيعة بالأغلبية» دعاوي سنية مضادة تقول: إن أهل السنة من العرب والأكراد والتركمان ‏ هم الأغلبية؟ تستند هذه الفرضية إلى معطيات إحصائية رسمية وشبه رسمية تقول إن عدد الأكراد والتركمان السنة قد يصل إلى أربعة ملايين» وإن هؤلاء إذا ما أضيفوا إلى ما يزيد عن عشرة ملايين عربي سني في العراق. فسوف يؤلفون أكبر كتلة بشرية في العراق وليس الشيعة؟. بهذا المعنى وجدت الجماعات نفسها في حمى التسابق للفوز بالمكاسب والامتيازات والحصص. أنها مضطرة للاستعانة بأطراف تقف على الضفة الأخرى؟ وهكذا استعان السنة الأكراد في بادئ الأمر بالشيعة من أجل الحصول على الفيدرالية؛ بينما لجأ أهل السنة العرب إلى الأكراد السنة من أجل مواجهة مطالب الشيعة. وإعاقة دعاواهم السنة بتثبيت الحق المزعوم في الأغلبية. هذان العاملان لعبا وبشكل مباشر دوراً أساسياً في تهدئة درجة الغليان والتأهب داخل الكتلات الاجتماعية الكبرى» وربما ساهما - من غير إرادة الأطراف اللاعبة ‏ في توجيه الأنظار من جديد إلى موضوعة الوحدة الوطنية في إطار البحث عن شراكة داخل الكيان العراقي المتحلل والمتُسخ.

-308 -

الفصل الثالث: مأزق التحديث المثير للاهتمام في هذا السياق. هو غياب وانمحسار دون النخب الفكرية والسياسية والاجتماعية عن السجال الدائر وقيادته وتوجيهه؛ وفي بعض الحالات بروز أدوار ذات صبغة طائفية وعرقية في المساهمات الفكرية الضئيلة والمحدودة. هذا المثال ييل الدارس إلى مثال تاريخي نموذجي شهده عراق النصف الأول وبدايات النصف الثاني من القرن الماضي.

سوف نتوقف - هنا - ومن جديد أمام لحظة ممائلة وربما متطابقة إلى حد بعيل.

في العام 1917 ومع دخول القوات البريطانية إلى بغداد انهار العقد الاجتماعي وتفجرت الحساسيات الثقافية تفجراً هائلاً؛ ولكن من دون أن يؤدي ذلك إلى انهيار الدولة. بمعنى آخر: لم يكن هناك انهيار مزدوج كالذي شهده عراق الاحتلال الأمريكي. لقد ترك البريطانيون الماكينة الإدارية التي تضم جيشاً جراراً من الموظفين السنة» تعمل بكل طاقتها ومن دون أن يمسوا سوى أجزاء عتيقة وهشة في بعض مفاصلهاء كما حافظوا على جزء هام من قوتها حتى مع تشرد ( الأفندية ) أو طردهم من الوظائف الحساسة. وعلى امتداد السنوات الثلاث التالية 1917 1920 سعى البريطانيون إلى إعادة تركيب عقد اجتماعي جديد» يتضمن تعديلات نظرية وذات طابع عمومي مثلء إغراء الشيعة بتلبية مطالبهم الداعية إلى رفع الحيف التاريخي عنهم. وتمكينهم من إدارة البلاد بدلاً من أهل السنة ( الموالين للأتراك). في هذا الوقت وطوال أعوام 1917 -1921. روج الإنجليز لفكرة الأغلبية الشيعية من دون أسانيد مقبولة» فلا إحصائيات دقيقة ولا مسح جغراني دقيق ولا دراسات علمية للسكان وانتماثاتهم المذهبية. كل ما فعله الإنجليز هو إطلاق بالون اختبار» سرعان ما اتجهت إليه أبصار جماعات طامحة للسلطة. وإلى هذا

- 309 -

الفصل الثالث: مأزق التحديث ‏ ثبلل ل جب سم كله أشاعوا ثقافة حكم الأغلبية في ا جتمع» من خلال التلويح بفكرة حق الشيعة في التخلص من الحيف والغبن الذي أصابهم جراء الاستبداد التركي.

ثقافة ( حكم الأغلبية) هذه. المنادى بها من قبل الجماعات الطائفية متعاونة مع الاحتلال» سوف يطورها رجال دين شيعة متعصبون وطائفيون؛ بينما سيرد عليها رجال دين من أهل السنة ‏ طائفيون ومُتعصبون أيضاً - بتطوير ثقافة ذعر مُضادة من استيلاء الشيعة على الحكم. ومع ذلك بالكاد أفلح الإنجليز في سياستهم هذه. فالطائفيون المتعصبون على ضفي الطائفتين» كانوا أضعف من أن يؤثروا جديا في الميل الجماعي لدى السكان إلى الحفاظ على الوحدة الداخلية. كان الأفندية ‏ وهو التعبير الذي استخدمه الأتراك للتعريف بموظفي الدولة - يؤلفون كتلة كبيرة في ا جتمع السنى خصوصاً وفي امجتمع عموماً. ومع سقوط بغداد تدهورت أوضاع هؤلاء وأصبحوا على هامش المجتمع الجديد الذي تبدلت فيه التوازنات. ولكن ‏ على الطرف الآخر - كانت هناك قوة شيعية مؤثرة» تجد نفسها هي الأخرى في الوضع ذاته مهمشة ومحرومة» وفوق ذلك خسرت الرهان بعد أن أعياها إطلاق النداءات بالدفاع عن حرمة الإسلام» ومقاومة الكفار حتى وإِن كان ذلك تحت رايات ظالميهم الأتراك.

كانت رجال الدين الشيعية ‏ الملائية ‏ الذين أيدوا أو شاركوا في قتال البريطانيين كتفأ إلى كتف. مع الأراك السنة في معارك عام 1914. دفاعاً عن الدين الحنيف في مواجهة الكفار الإنجليز. يواصلون تحريم التعامل مع امحتلين. ويبد أن البريطانيين أدركوا مُبكراً أن الإستراتيجة المذهبية لا تكاد تسمح بهامش أكبر في المناورات السياسية؛ فقد تمنع الملائية عن دعم مشروع البريطانيين. وعلى العكس من ذلك حدث نوع من التقارب المثير للدهشة بين الأفندية والملالي ( رمزياً بين السنة والشيعة) بلغ ذروته إبان ثورة العام 1920

-310-

الفصل الثالث: مأزق التحديث ‏ 65 لل بلبببببب ببب ب يبييبيجسح ( للحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث ‏ ج5 القسم الأول ص: 172) أن التقاربات بين الشيعة والسنة حدئت بصورة لافتة للنظر في العام نفسه داخل بغداد» بفصل نشاط حزب حرس الاستقلال الذي كان يضم رجال دين من الطائفتين. ويستند الوردي في فهمه لأبعاد هذا التقارب إلى رسالة للمس بيل من كتابها الشهير ( فصول من تاريخ العراق ‏ ترجمة جعفر الخياط؛ طبعة بيروت) رأت فيها أن العراقيين نجحوا في تغليب مساعيهم إلى تكوين جبهة موحدة من الطائفتين الإسلاميتين» على:

التعصب الشديد الذي يُفرق بين الطائفتين. وظهرت أول أعراض هذا التقارب في صيف العام 1919 عندما حضر السنة اجتماعين عقداً لتأبين امجنهد السيد كاظم اليزدي. لكن الأهمية السياسية لهذا التقارب لم تظهر بصورة جلية إلا في رمضان (أيار/ مايس)1920.

وللتدليل على جذرية هذا التقارب» يروي الوردي استنادا إلى شهادتين صادرتين عن الشيخ مهدي البصير والشيخ كاظم الدجيلي؛ كيف أن الطائفتين انتقلتا وبسرعة إلى إنشاء أشكال جديدة من التفاهم المذهي, ربما كانت تفوق في أهميتها الجانب السياسي المباشر. وعلى العكس مما رأب المس بيل؛ فإن أهنية التقارب تكمن في أنه وضع حلولاً مقبولة وعاجلة لسوء تفاهم تاريخي بين الطائفتين حول صلاة الجمعة» التى لا يقيمها الشيعة جماعياً في المسجدء بينما يولى أهل السنة لها اهتماماً خاصاً. برأي الدجيلى؛ فإن صاحب فكرة التقارب الممنهج والفعال هو السيد صالح الحلي؛ الذي دعا من الصحن الكاظمي في الأول من أيار 1920 إلى تعطيل الأعمال يوم الجمعة ومشاركة الشيعة والسنة في صلاة جماعية. وبالفعل فقد هرع الشيعة والسنة لتلبية الدعوة حتى أكتظ بهم مسجد سلطان علي ببغداد. وامتلأت الشوارع وانقطعت حركة المرور لشدة الزحام. ويبدو أن هذه الفكرة سرعان ما تنامت وانتشرت على

-311-

الفصل الثالث: مأزق التحديث د ب للم نحو غير مسبوق. وهكذا صار الشيعة وأهل السنة وبعد وقىت قصير من الاحتلال» يقيمون في مكان واحدء الموالد النبوية ومجالس العزاء الحسينية تعبيراً عن التقارب بين المذهبين» حتى أن واحدة من بطاقات الدعوة التى وزعها جامع الميدان ببغداد ذكرت التالي: ١‏

( إن أهالي محلة الميدان يتقدمون إلى حضرتكم بالدعوة للحضور في الحفلة البي يقيمونها ليلة الجمعة القادمة في جامع الميدان للتبرك بتلاوة منقبة المولد النبوي الكريم مشفوعة بذكرى مقتل سيدنا الحسين عليه السلام الي الوردي نقلا عن مهدي البصير ص: 175).

تفيد هذه الوقائع وسواها بالفكرة التالية: إن الثورة والذعر من انهيار العقد الاجتماعيء لعبا الدور نفسه على صعيد تنمية المشاعر والميول داخل الكتل الكبيرة في امجتمع؛ للحفاظ على الكيان العراقي من الانهيار الكلي. لقد لعب الحشد الجماهيري في إطار هذه الفكرة» 0 نموذجياً على مستوى تهدئة الغليانات الاجتماعية العرضية» وحاسماً على صعيد امتصاص شحنة العنف وترويضه والسيطرة عليه؛ بل إعادة تفريغه خارج اجتمع نفسه. كان رجال الدين على ضفتي الطائفتين يتصرفون بوحي من هذه المخاوف. ولم يتصرفوا بوحي من أيديولوجيات أو عقائد وأفكار سياسية؛ ولذلك توفرت لهم فرصة التقدم بخطاب شعي بسبط في تصوراته» عميق في مضاينه الدينية والاجتماعية. ومن غير شك؛ فإن الرمزية الطقوسية في مجالس العزاء الحسينية الشيعية والموسيقى الدينية في المولد النبوي السنى ‏ بكل إيقاعاتها الصوفية - أدتا وعلى نحو متكامل ومتناسق» دورهما كأدوات مثالية في الاتصال ابي الأفراد المتباين في رؤاهم المذهبية» وفي تحويل التوترات العنيفة المكبوتة» والمعبّر عنها سياسياً؛ إلى مصدر جديد من مصادر التقارب. المثير للاهتمام في هذه الآونة» الدور المحدود للأحزاب التقليدية والنخب.

لقد تركت رجال الدين دون منافس في الميدان.

-312-

الفصل الثالث: مأزق التحديث من العنف إلى الطقوسية

إن ما يجمع بين الحشود الجماهيرية التي تشكلت بالأمس غير البعيد؛ كما تتشكل اليوم أثناء الحفلات الموسيقية والتى يتجمع فيها الأفراد في إطار موضوع وحيد هو الإيقاعات الموسيقية والأغاني والتنافسات البريئة حول المطرب المفضل كما في مثال حفلات السوبر ستار الى بدأت بالانتشار في العام العربي ‏ انظر التمهيد في هذا الكتاب ‏ وبين الحشود الجماهيرية التقليدية التى تتشكل أثناء احتفالات المولد النبوي السنية وفي احتفالات عاشوراء الشيعية الحزينة؛ حيث يتجمع الأفراد أيضاً داخل إطار وحيد يعتمد فيه المسيطرون على الحشدء وقادته كذلك.الإيقاعات والأغاني الدينية والأناشيد الُّمجدة والمستذكرة لمناقب الرسول الأعظم محمد بن عبد الله ( صلى الله عليه وسلم) أو لواقعة استشهاد الحسين؛ ليس سوى الطاقة الأذهلة للإيقاعات التي يمكنها أن تصبح بحد ذاتها وبسهولة موضوعاً ثقافياً مُستقلاً. نحن هنا نتناول النموذج العراقى وحسبء بما أن غرضنا هو تبيان دلالات التحشيد وعلاقته بالإيقاعات ووظيفته وأشكال السيطرة عليه وقيادته؛ وبالتالي التعرف على الموضوعات الثقافية المحركة.

وهذه؛ وإن كانت تتفاوت في أهميتها وقيمتها ومستوى وشكل تلقيهاء والإحساس بها كذلك. إلا أنها تظل على درجة علية من التأثير في الحشد البشري. الموسيقي؛ سواء أكانت إيقاعات دينية أم حديثة وعصرية؛ وتماماً كما هو الحال مع الإيقاعات العسكرية الحماسية ( الوطنية) في المانية وروسيا إبان الحقبة النازية والحقبة الشيوعية» تلعب الدور ذاته تقريباً في التحشيد؛ فهي تؤدي إلى نشوء أشكال من التقارب والاتصال بين الجماعات والأفراد الذين يؤلفون الحشد. ويكفي تذكير القراء بالدور المهل الذي لعبته موسيقى فاغنر في ألمانية النازية» عندما استخدم هتلر الطاقة المدهشة لسيمفونيات فاغنر لتحقيق

-313-

الفصل الثالث: مأزق التحديث بن ١٠‏ جم م نوع من الاتصال بين أعضاء الحشد النازي» من أجل رفع درجة تراص الصفوف وتهبيجها. يمكن للمرء؛ وفي إطار هذه الفكرة» أن يلاحظ الصلة بين النموذجين المتناقضين: النموذج الجديد للحشد الجماهيري كما جساته مهرجانات السوبر ستار في دمشق وبيروت وعمان, والنموذج التقليدي كما جسدته الحشود الشيعية في النجف وكربلاء في العراق. وهما تظاهراتان جرتا في وقت واحلد د تقريباً. هل ثمة صلة من نوع ما بين الحشيدين؟

من الناحية الشكلية ا حض. قد تبدو الجماهير وكأنها تقف على طرفي معادلة معقدة في تناقضهاء بيد أن الحشدين وعند تحليل ظروفهاء وفحص العوامل والمؤثرات النشطة في وسطهماء سيقدمان الصورة ذاتها والدلالات ذاتها أيضاًء المتعلقة بسلوك الجماهير وأشكال السيطرة عليها وأنماط إخضاعها. فبينما يبدو الحشد البشري في النموذج الأول سعيداًء متوتراً وهو يشايم تالخ الاستفتاء» فإن الحشد البشري في النموذج الثاني» سيبدو غارقاً في الحزن ومتوتراً أيضاً وهو يتابع السرد التاريخي لقصة مصرع البطل - يتولاه عادة ملا شيعي -. وفيما يبدو الحشد الأول مشدوداً للمستقبل؛ بتفاعله مع فكرة الاحتشاد والاستفتاء على المطرب المفضلء يبدو الحشد المقابل غارقاً في الماضي وهو يتابع قصة قديمة مكررة ملايين المرات على إسماعه. إن السعادة والحزن. الماضي والحاضرء القديم والجديد. هي ذاتها موضوعات ثقافية تخص الحشود في الصميم. إنها تعيش في زمن أرضي واحد ولكنها تعيش ثقافياً في زمنين وهذا هو جوهر فكرة السيطرة على الحشد.

في هذا السياق تلعب الإيقاعات الموسيقية سيقية دوراً مُذهلاً في زيادة وعي الحشد لنفسه ككتلة واحدة؛ بينما يعيش هو في الواقع درجة عالية من الانقسام في الرأي. إن الحشد الجماهيري الديني الذي يستخدم الويقاعات الكربلائية - وهذه دخلت بقوة حتى في الأغاني العراقية الحديث ‏ ليس كتلة

غ314

الفصل الثالث: مأزق التحديث ‏ 65 س-ب-ب-ب-ببالملااامت واحدة متراصة الصفوف في إطار تمارسته الطقوسية كما يُخيل للناظر. وفي الحالات التي تظهر فيها الحشود وكأنها كتلة متراصة؛ فإنها تعبر بشكل ضمنى ومُضمر عن تفاوتاتها وتناقضاتها. إن لهذا الحشد قابلية فريدة على إظهار تناقضاته الداخلية أيضاء فهو يعيش نوعاً من الانقسام في الرأي حول جملة من ا موضوعات الدينية والسياسية والثقافية» تمامأ كما هو الحال مع الحفلات الموسيقية» حيت تتفاوت آراء ا حتشدين حول المطرب المفضل. في النهاية سوف تفرده. وبينما يمكن للحشد الجماهيري الجديد العصريء أن يواصل الاستماع إلى أغانيه المفضلة دون كلل أو مللء وهى تعاد على أسماعه مئات المرات؛ فإن الحشد الجماهيري التقليدي والقديمء يملك الطاقة ذاتها على الإصغاء إلى الموضوع المفضل ذاته. والتفاعل معه بنفس القدر من الحماسة والانفعال العاطفي. ومع ذلك» سوف يتبين للمرء وبسهولة؛ أن ثمة فروقات هائلة وساطعة في تفاوتهاء يمكن أن تجعل من الحشدين الجماهيريين على طرفي معادلة أخرى متناقضة. من بين أبرز هذه الفروقات, أن الحشدين يعبران من منظور ثقافي - عن فكرتين وواقعين: الحداثة مقابل التعثر في التحديث. والاستقرار السياسي والاجتماعي بما يجلبه من مدينة» مقابل الاضطراب والفوضى وانحدار اجتمع إلى أسفل الدرك. الماضي والحاضر.

إن الواجب يقتضي - أثناء تحلبل هذا النوع من الظاهرات ‏ احترام التقاليد الثقافية وإبلاء عناية خاصة. بالمجموعات التى ترغب في إشباع تطلعاتها إلى الهوية الثقافية؛ وهذا أمر لا خلاف حوله بكل تأكيد. بيد أنّ استغلال رجال الدين الشيعة في العراق وقادة الأحزاب السياسية الدينية الشيعية» للموضوع الثقافي بصورة انتهازية ورخيصة. والإلحاح على تحويل كل مناسبة مهما كانت صغيرة وعديمة الأهمية ‏ وخصوصاً تلك التى لا طابع دينياً لما إلى مناسبة

-315 -

الفصل الثالث: مأزق التحديث للممارسة الطقوسية والنواح على الحسين» وتسيير مظاهرات اللطم وضرب الأجساد بالسلاسل الحديدية» يكشف عن مدى النفاق والرياء السياسي في أرساظ البكب الدبية والسياضية القيعية. لفن عملت هذه الكت بعد بقوط بغداد مباشرة» على شد المجتمع العراقي كله إلى الماضي وإغراقه في الطقوسية؛ وجرى في هذا الإطار تلاعب مفضوح بمشاعر الجماهير والسيطرة عليهاء وتحويلها إلى قوة استبدادية رهيبة ( وهذا ما نراه في أعمال القتل العشوائي والتصفيات الجسدية بحق أهل السنة في البصرة ‏ مثلاً ‏ حين قام مهووسون بقتل أعداد كبيرة بحجة أنهم من الوهابين).

إن منظر مئات الآلاف من الشبان العراقيين وهم ينزلون - وني كل مناسبة تقريبا بعد سقوط بغداد ‏ إلى الشوارع في النجف وكربلاء والكاظمية لممارسة الشعائر الكربلائية الحزينة» حيث يواصلون لساعات طويلة البكاء واللطم والندب وضرب الأجساد وتجريحها بالسلاسل الحديدية؛ بينما قوات الاحتلال الأمريكي تقف عند مداخل الأضرحة المقدسة. تخطى من حيث درجة تواصله واستمراريته حدود الممارسة الطقوسية ال حصورة في نطاق المناسبة الدينية. لقد أصبح منذ سقوط بغداد, ممارسة سياسية رمزية يحركها رجال الدين» الذين أصبحوا يسيطرون فعلياً على العواطف والأفكار في الشارع بصورة غير مسبوقة. وهؤلاء اسقطوا من حساباتهم أي شعار أو دعوة لمقارمة الاحتلال؛ بينما رفعوا من شأن الدعوة القديمة عن الأغلبية وقاموا بتصعيدها.

هذه الموجة الجماهيرية الثالثة؛ الإسلامية التي تغمر العراق اليوم طولاً وعرضاًء تطرح من جديد الأسئلة ذاتها: ما العلاقة بين فكرة الحداثة والسيطرة على الجماهير؟ ما العلاقة بين انهيار العقد الاجتماعى وتفجر الحساسيات الثقافية؟ إلى أي حد ستذهب الكتلات الكبرى في الجتمع بمطالباتها؟. لقد أظهرت سلسلة عمليات التحشيد الجماهيري في مساجد الكوفة والكاظمية

-316-

الفصل الثالث: مأزق التحديث وعند ضريح الإمام علي في النجف. وحسينيات مدينة الشورة ‏ الصدر - وفي كربلاء؛ أن الملالي الجدد في العراق وعبر استغلال خلافاتهم الفقهية مع بعضهم البعضء وتنافساتهم السياسية وصراعاتهم. حتى الشخصية منها ضد ساسة أو رجال دين آخرين حول النفوذ قد تمكنوا من أحداث تحويل جذري في فكرة الحشد الجماهيري نفسها؛ فهي انقلبت ممارسة طقوسية إلى ممارسة سياسية رمزية؛ بل إلى مناسبة لاستعراض القوة. وفي هذا النطاق من التحويل سوف يدخل مفهوم غريب للسياسة في العراق:

لم تعد السياسة عملا عنيفاً وحسبء كما كان الحال مع المد الأحمر الشيوعي في الخمسينات. أو مع حقبة التبعيث المد القومي في مطلع السبعينات؛ وإنما هى كذلك ممارسة طقوسية مثلها مثل المناسبة الدينية. هذا يعنى أن عهداً جديداً عي جديداً كذلك. للسياسة قد بدأ منذ الآن. 1

هذه الحشود تتوزع اليوم فعلياً بين ثلاث قوى شيعية بارزة هي:

تيار مقتدى الصدرء وتيار الممجلس الأعلى للثورة الإسلامية بقيادة الحكيم الأصغر ‏ عبد العزيز ‏ وتيار حزب الدعوة الإسلامية. بينما تتوزع قوى من الطائفة بين جماعات أقل أهمية مثل جماعة مدرسي الإيراني الأصل. وعلى سبيل المثال» فقد استغل المجلس الإسلامي الأعلى عاق الحكيم) حادثة النجف, التى سقط فيها آية الله باقر الحكيم وحراسة عدد كبير من المواطنين قتلى» في انفجار سيارة مُفخخة عند ضريح الإمام علي؛ من أجل حشد ما يزيد عن نصف مليون من الشبان والنساء والمراهقين والمسنين» ونحويل تشييع الجنازة إلى مناسبة لتسيير مظاهرات دينية كبرى» راحت تجوب شوارع النجف وكربلاء والكاظمية. اللافت في تشبيع الجنازة هو تحولهما ‏ للمرة الأولى في تاريخ العراق القديم والحديث - إلى مناسبة لممارسةٍ طقوسية شديدة الرمزية.

-317-

الفصل الثالث: مأزق التحديث ‏ الا نثش»ش“١“حبجج‏ م سم لقد شاهد العالم بأسره مئات الآلاف من الشبان وهم يلطمون ويبكون ويضربون أجسادهم بالسلاسل؛ تمامأ كما يفعلون في العاشر من محرم من كل عام حين تحل ذكرى استشهاد الإمام الحسين.

هذه المناحة السياسية هي من اختلاق رجال الدين الانتهازيين» الذين استغلوا مصرع أحد قادتهم لتصعيد صورة الضحية في المخيال الشعبيء في مُماهاة لا تخلو من المكر والدهاء بأن الصريع الجديد يشبه الصريع القديم وأنهنا معاً البطل ذاته. ومن غير شك؛ فإن استخدام الطقوسية الكربلائية وإيقاعاتهاء وتوظيفها ني إطار الاحتجاج على حادث قتل الحكيم» كان يخدم وبصورة مباشرة هدفا سياسيا؛ إذ من خلال الحشد السياسي الحديد للجماهير يمكن إرسال رسالة واضحة للخصوم الدينيين ( جماعة الصدر مثلاً بأكثر ما هي رسالة موجهة إلى قوات الاحتلال). وهذا ما اتضح بجلاء من الأغاني والحتافات والشعارات الدينية التى رددتها الجماهير وجرى فيها التركيز على مكانة امجلس الأعلى ومكانة شهيده. ولذا بدا استغلال حادثة النجف من جانب المجلس الأعلىء دليلاً جديداً على أن الجماعات الشيعية المتنافسة كان على استعداد باستمرار» لكي تجعل من أسلوب التحشيد سلاحاً لترويع الخصوم الدينيين والسياسيين» بأكثر نما هو مُصمم لطرح الموضوع الوطني الجامع: مقاومة الاحتلال.

على العكس من مثال المجلس الأعلى وربما في سياق مختلف. استغل أنصار مقتدى الصدر حادثة نزع راية دينية ( ما يدعى راية المهدي) من عامود كهرباء في مدينة الثورة ‏ الصدر ‏ من قبل القوات الأمريكية الغازية» لتسيير حشود هائلة راحت تستخدم الطقس العاشورائي ذاته» وبكل ما يتطلبه من نواح ولطم وضرب للظهور بالسلاسل. ولكن يجدر التنويه هناء بالدور الشجاع الذي لعبه الصدر الابن» فهو ركز أبصاره ‏ بأكثر ثما فعل الأخرون -

-318-

الفصل الثالث: مأزق التحديث على الجانب الوطني المباشر والملحاح؛ وذلك حين راحت الحشود تنادي بصوت مسموع وقوي برحيل قوات الاحتلال. كان رجال الدين الشيعة عبر هذا الاستغلال الجديد والمفاجئ للحشد الجماهيري. يقومون فعليا بطرح تصور مغاير لمفهوم السياسة؛ والترويج لمفهوم جديد للها أساسه أنها ممارسة طقوسية سوف يتمكنون بواسطتهاء من السيطرة الميدائية على حشود بشرية متزايدة انجذبت تلقائياً نحو هذا الميدان ومع كل لحظة مرت طوال أكثر من عام - منذ انهيار النظام وسقوط العاصمة ‏ أصبح بإمكان قوى متنوعة في الطائفة, أن تخرج من أجل التعبير عن هويتها الثقافية بعد سنوات من الحرمان. بيد أن هذه السيطرة كانت تؤدي؛ من منظور مواز إلى حبس الجماهير داخل فضاء دين ومذهي مغلق وشديد القتامة» حزين ومأسوي بصورة لا توصف؛ وذلك ومع خلو التظاهرات الدينية من موضوعات وطنية عريضة أو أفكار ومفاهيم ذات صلة عضوية وحقيقية بالمشكلات الوطنية المطروحة. إن الوظيفة الوحيدة للحشد كما تبين سائر التظاهرات؛ ستتخذ مع الوقت طابعاً تنافسيّاً عنيفاً حين تسعى حشود معارضة إلى تبني هتافات وشعارات ناقدة لسلوك المجلس الأعلى مثلاً - وخصوصاً بسبب اشتراكه في مجلس الحكم المؤقت الذي نصبته قوات الاحتلال. ولسوف تتجلى في كل هذه التظاهرات وفي مناسبات تالية» فكرة وحيدة هي: استعراض القوة.

لقد أصبحت مسألة إبراز القوة في الشارع» وبدلاً من أي موضوعات أو أفكار أخرى؛ هي الفكرة الطاغية مع الموجه الثالثة.

كانواء رقين إمبرايهم على تضعيد احيانب الطقويتي: تي من دون أن تكون هناك مناسبة دينية حقيقية يُمارس فيها هذا التقليد الثقافي» يعمدون إلى تحويل السياسة نفسها إلى مارسة طقوسية؛ والأصح يحولون مفهوم السياسة إلى مفهوم طقوسيء سيمنع ويعيق موضوعياً كل تحرك أو انطلاق لأعداد كبيرة

-319-

الفصل الثالث: مأزق التحديث ل لبا _ . ااا ل مالس ومتزايدة بن الشباب الشيعة خارج الموضوع المذهي, وخارج طقوسيته المستمرة والمتواصلة دون انقطاع. تحلينا الطريقة التي استخدمها الملالي الجدد في العراق» والذين سيطروا فعلياً على الجماهير وسارعوا إلى تقديم أنفسهم كقادة لماء؟ إلى شعار رئيس وقديم من شعارات الثورة الإيرانية كان ولا يزال يلقى هوى خاصاً في قلوب أعضاء المليشيات الْمسلحة.ب يقول الشعار: ( كل أرض كربلاء وكل يوم عاشوراء). في هذا الشعار الإيراني الذي ينتسب لحقبة الحرب مع العراق عام 1980 وسواه من اشعارات الحشود المليونية» التى حركها الخميني في سائر أرجاء إيران؛ كل ما يلزم لتصعيد روح الإستضحاء الطقوسي في الجتمع. في الواقع لم يتردد هاذ الشعارات في تظاهرات الشيعة مع سقوط بغداد.ولكنه ومع استمرار تسيير التظاهرات في كل يوم وتصاعد الروح الطقوسية التى تم تنشيطهاء تردد صداه بطريقة ماء في شوارع النجف وكربلاء؛ من دون أن تنطق به الجماهير العراقية أو حتى تستذكره. تحول هذا المشاف الرهيب إلى تمارسة جماعية» ففي كل يوم كان هناك بالفعل عاشوراء حزين؛ بينما أصبحت كل أرض في العراق كربلاء» لم يُسمع هذا المناف قطء ولكن الجميع شاهدوه يتجسد في أرض الواقع مع تعاظم المسيرات والتظاهرات والمناحات الجماعية في كل مكان. هذه المناحات الجماعية التى ظلت مستمرة في العراق طوال عام بعد سقوط بغداد» عبرت رمزياً وربما من دون إرادة الجماهير ولا توجيههم. عن حزن جماعي مكبوت لسقوط بغداد. ولكنهاء كانت في الآن ذاته» دليلاً من بين أدلة أخرى؛ على وجود نمط جديد من أنماط السيطرة على الكتل البشرية في امجتمع» لم يسبق للعراق القديم والحديث أن تعرف عليه. فلماذا سارع رجال الدين في العراق إلى استغلال الحادث الهلعي التاريخي ( سقوط بغداد) بتحويله إلى ممارسة طقوسية تخص الطائفة الشيعية؟ إن بعض المحللين ومن دون تبصر كافي. اقترحوا تفسيراً من المتعذر قبوله؛ فهذه الحشود من وجهة نظرهم كانت تجسيدأً لرغبة مقموعة وتعبيراً عن

-320 -

الفصل الثالث: مأزق التحديث ‏ 65 اساسسر٠س-ل(((بببب‏ ب ب ب يبيبح حرمان وكبتء؛ استمرا سنوات طويلة خلال حكم البعث. بيد أن ثمة محمولات رمزية غاية في الأهمية» كانت لا تزال تقبع خلف هذا الاستغلال والتحويل الماكر لشعارات الحرب مع إيران. من بين أكثر هذه الدلالات الرمزية سطوعاًء ثمة دلالة خاصة تخص استرداد ذكرى موت البطل. إن الثقافة المذهبية للشيعي المعاصر في العراق» تزوده ‏ في كل لحظة ‏ بإحساس تاريخي قوي بأن امتيازه» وفي مواجهة آخرين من أقرانه في ال مجتمع؛ يكمن في تصوره لنفسه كضحية استثنائية مفارقة ومُتفرقة في مأساتها. إنه على غرار مثاله وبطله التاريخى الشهيد» يعيش مأساة خاصة ومتفردة لا يشاطره فيها سوى آخرين» مُمائلين له يشاركونه في المناحة الجماعية. إن واحدة من أشكال السيطرة على لحشد تكمن هنا: فرجال الدين الشيعة كانوا يعمدون من خلال التظاهرات» إلى إحداث أوسع وأكبر قدر ممكن من الإحساس بالتماثئل بين المشاركين في الحشد. وإلى إبراز جانب رمزي بعينه دون سواه من الجوانب الرمزية الأخرى. وهو أنهم جميعاً بملكون الامتياز نفسه: إنهم ضحايا استثنائيين ومُفارقين لا نظير لمأساتهم. إنهم مظلومون عبر التاريخ. لقد انفردوا عن مأساة المجتمع وعن مجتمع نفسه. بمأساة تخصهم وحدهم.

بهذا المعنى» تشكل الحشود الجماهيرية» وهي خليط غير متجانس م طبقات اجتماعية شتى» نزلت إلى الشوارع وتجمعت في إطار مادة صمغية جديدة هي طقوسية عاشوراء؛ نموذجاً مجتمع ضحايا صغير انفصل عن الجتمع الكبير وفكك روابطه العضوية معه. إنه مجتمع عقائدي مغلق وجديد يريد أن يفرض نفسه بوصفه الأغلبية. دلل هذا المنحى من سلوك2 الحشد الجماهيري وبوضوح., على أن فكرة التضحية قد تخطت النسق القديم الذي انتظمت فيه. وتحوّلت إل مضدريمن مضادر التحشيد,ولذا ضار بوسع كل فرو تق وان كان أقل تديناء أن يفتش عن مأساته في إطار مأساة جماعية رمزية. وخلال

-321-

الفصل الثالث: مأزق التحديث لعنعنعنت تب بي ‏ منءنتت-تب الأيام والأسابيع الأولى من الاحتلال الأمريكي» وحيث تم تيسير تظاهرات صاخبة وهائلة في شوارع بغداد والنجف وكربلاء» غاب الواقع الحقيقي والمحسوس كليا أو تلاشى» وحل محله واقع آخرء طقوسي وتاريخي ولكنه غير محسوس ولا مرئي. ولذا لم تظهر الحشود خلال تظاهراتها أية مشاعر إزاء الحدث الملعي الواقعي ‏ سقوط بغداد بل ركزت أبصارها على الحدث ا ملعي الرمزي: كان الرموز تتجلى عندئلرء بقوة تفوق قوة الواقع نفسه. وعلى ال ل 1 الهيمنة» وعلى تحريك الحشود وتكتيلها. وبدلاً من أن تقوم الجماهير بالاحتكاك مع الحدث الملعي والواقعي والتلامس معه واختباره؛ قامت بتمويهه وحجبه. من أجل أن تتمكن من إبراز الجانب الوحيد المطلوب في الممارسة: الكشف عن حقيقيتها هي» الساطعة وغير القابلة للتأويل» بوصفها مجتمع ضحايا مُتراص الصفوفء خرج بنفسه ليُعيد سرد الرواية عن مأساته بكل مظاهرها ومشاهدها الحزينة.

كما أن رجال الدين ‏ ممن قادوا وانظموا تلك التظاهرات الحاشدة - كانوا يعملون على إعاقة وحرمان جماهير شيعية أخرى هائلة اكتفت بالتأييد امبطن؛ من التوجه صوب موضوعات وطنية جامعة بما فيها مقاومة الاحتلال أو النضال من أجل الدستور والديمقراطية» وذلك عبر تركيز أبصارها وأبصار امجتمع بأسره على الحق الثقافي في ممارسة الطقوسية العاشورائية علناً مع تلاشي الدولة المركزية. وأكثر من ذلك. أن رجال الدين ومن خلا التركيز على الطابع الطقوسي المحض للتظاهرات»؛ وريدها من كل مضمون سباسي اشير أو موضوعات وطئية جامعة» واصلوا - عملياً ‏ احتجاز الحشود داخل فضاء فكرة طائفية واحدة؛ مفادها أن محو الدولة وتلاشيها المفاجئع عن المسرح. لا يعنى سوى أمر واحد هو نشوء أرضيات جديدة للمُطالبة بقبول فكرة أغلبية

-322 -

الفصل الثالث: مأزق التحديث الشيعة في التركيب السكاني؛ وان محو الدولة وحده هو الذي مكن الطائفة من الحصول على حقها في تنظيم هذه الاحتفالات علنا في الشوارع العامة. لقد حولوا العراق بأسره إلى حسينيّة كبيرة» وإلى أرض مناحة طقوسية. إن فكرة حو الدولة كعامل وحيد للحصول على هذا الحق ‏ فضلاً عن فظاعتها ‏ ويكل ما تتضمنه من ادعاءات ومزاعم عن الحق التاريخي للشيعة في حكم العراق» هي مجرد استطراد في فكرة اعم عن امتياز جماعة بعينهاء وتفردها عن سائر الجماعات الأخرى في المجتمع. إنها جماعة من الضحايا مُتميزة متفردة» حتى في أغلبيتها غير المعترف بها بعد. ولأنها متميزة ومُتفردة؛ فأ ن لما الحق في فرض ثقافتها وسيطرتها.

إن العودة إلى التاريخ الاجتماعي والسياسي في العراق» كما تشكل خلال القرن الماضي» سوف تبين بعض أوجه التماثل بين الجماهيريات وفي سلوك قادتها أيضاً؛ فقد أفضت عمليات التحشيد طوال أكثر من أربعين عام حيث تكرر المشهد نفسه مع اختلاف الآلوان الأحمر والأبيض والأسود. إلى تهتك فظيع في فكرة الوطنية. لم تعد هناك هوية ثقافية جامعة؛ وبدلاً منها حلت هويات حزبية وأيديولوجية ذات طابع عصابي» قلما نظر أصحابها بشيء من الرحمة والتسامح إلى بعضهم البعض. وفي هذا الإطار فقد لعبت الأيدولوجيا في التجربة السياسية العراقية دوراً مثيراً خليقاً بالدراسة والتأمل» فهي أدت وبشكل متواصل إلى تسريع درجة المحلال وذوبان الروابط الاجتماعية بين الأفراد والمجموعات السكانية» وإلى تدمير الوعي الجماعي للشعب بأنه كيان واحدء وكرست بدلاً من ذلكء الشعور داخل المجتمع بأنه مجموعة ( مجتمعات) متناحرة ومتصادمة.

وهذا ما أرغب في توضيحه منعاً لكل التباس:

-323 -

الفصل الثالث: مأزق التحديث ب ا------- و

إبان الجماهيريات الأولى ‏ الحمراء ‏ تحشد الشيوعيون من حوفم في نهاية الخمسينات من القرن الماضي, جماهيرية هائلة وقاموا بتزويدها بأفكار بسيطة وانفعالية في الغالب» وبكل ما يلزم كذلك من الإحساس العقائدي بأنها القوة التاريخية الجديد المنتظرة» الأسطورية التى يحق للها سحق الإقطاعيين والرجعيين أو البرجوازيين» أو سحل مَنْ هم على شاكلتهم. وبالتالي أن تفرض نفسها كمجتمع أغلبية عقائدية لها ممارستها الطقوسية والرمزية الخاصة. وكانوا - الشيوعيون - إلى جانب هذاء يقومون بتصعيد صورتهم كمجتمع ضحايا أيضاً. إنهم مجتمع ضحايا سياسيين انفردوا بماساتهم عن سائر امجتمعات السياسية. انتهت التجربة كما هو معلوم. إلى إنتاج الاستبداد وإلى صناعته ونشره وإشاعة ثقافته على نطاق واسع في المجتمع العراقي» وذلك مع انتشار ممارسة التلويح بالحبال وسحل الخصوم.

وإبان نهاية الستينات من القرن الماضي تكرر المشهد ذاته؛ إذ حلت موجة ثانية من الحشود محل الموجة الحمراء مع صعود حزب البعث إلى السلطة. وهذه كانت هي الجماهيرية الثانية الكبرى في تاريخ العراق الحديث في أعقاب ما سُمي بالثورة البيضاء في تموز/ يوليو من عام 1968. آنذاك تحولت الجماهير البعثية - العقائدية الجديدة» بسرعة مدهشة وبسهولة تامة كذلكء إلى مصدر من مصادر القمع والاستبداد بفضل حبس تطلعاتها وأفكارهاء وبفضل تشجيعها على التدخل السافر والتعسفي في كل صغيرة وكبيرة في حياة الملايين من العراقيين. إنها مجتمع ضحايا استثنائي ومُفارق تم تحطيمه في حفلات ( السحل الشيوعية) وهو يريد مع صعوده ‏ أن يفرض نفسه أيضاً وبفضل هذا الامتياز» كمجتمع أغلبية عقائدية.

مع صعود البعث وعودته إلى السلطة حدث تحول جذري في العلاقة مع الجماهير.

- 324 -

الفصل الثالث: مأزق التحديث

م تعد الجماهير مجرد قوة يقبض عليها حزب عقائدي وحسب. ولا موضوعاً تنافسياً مع قوى اجتماعية وسياسية أخرى؛ بل أضحت قوة يتناوب أو ينعاضد على تطويعها والسيطرة عليها وتوجيهها جهازان صارمان: حزب عقائدي واسع النفوذ ودولة بوليسية. هذا التحول عكس بوضوح النمط الجديد من السيطرة على الجماهير. لقد أصبحت الدولة شريكاً مع الحزب في الامتياز التضحوي. أدى كل ذلك وطوال ثلاثة عقود متواصلة إلى نشوء كتلة كبيرة من السكان, هي - في الواقع ‏ حبيسة منظومة من المعتقدات والتصورات الحزبية الضيقة والمحدودة للعالم والسياسية والمجتمع. اليوم تتكرر التجربة» وعلى النحو ذاته تقريبا مع صعود موجة جديدة من الجماهير؛ تتخذ من فكرها المذهي أداة وحيدة لرؤية التناقضات في المجتمع؛ ولرؤية نفسها كجماعة متفردة المأساة. وهذا ما ينبىء بسرعة تحوها إلى قوة تهدد فكرة وأسس الديمقراطية» وأكثر من المدهش والمثير للفضول لظاهرة الحشد الجماهيري في التاريخ الاجتماعي والسياسي في العراق. وسرعة تحوله إلى كتلة هائلة مناوئة للديمقراطية؛ بل ومُعيقة للتقدم والإصلاح وربما منتجة للعنف أيضأءهو واحدة من الظاهرات الفريدة المرتبطة عضوياً بتعثر الحداثئة وضعف وتيرة التمدين الاجتماعي. وفي كل هذه النماذج من التحشيد, يمكن رؤية الدور الذي لعبته الأغاني والإيقاعات في إذكاء وتصعيد المشاعر.

إن الأناشيد الثورية الى صدحت بها جموع الشيعة طوال الأيام الأولى لسقوط بغداد» في كل من كربلاء والنجف ومدينة الصدر؛ ومنها الهتاف المريع القائل: ( وحياة الزهرة المظلومة. كل بعثي نقطع زردومة - أي عنقه) يجب أن تحيلنا إلى الأناشيد الممائلة التي سبق للجماهير أن صدحت بها مع ثورة تموز/ يوليو 1958. مثلاً هتاف الشيوعيين: ( اللي ما يصفق عفلقي - أي أن مَنْ لا يصفي فهو بعثي) أو هتاف: ( ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة). بيد أن

-325 -

الفصل الثالث: مأزق التحديثنت ‏ <ءدتيت677 سس أكثر ما يثير الاهتمام والحيرة في هذا النطاق. هو عودة الحزب الشيوعي العراقي إلى طرح شعارات وأهازيج وهتافات لحشوده الجماهيرية الهزيلة؛ ممائلة ماما لمتافاته في الستينات من القرن الماضي. يكفي التذكير بأن الأغنية التي رددها الشيوعيون من خلال حشد جماهيري هزيل كان يرقص فرحاً في الشاني عشر من كانون الثاني/ ديسمبر 2003 بعد الإعلان عن أسر الرئيس صدام حسين من قبل القوات الأمريكية» تقول ما يلي: ( صدام انلزم موتوا يا بعثية - أي: موتوا أيها البعثيون فقد اعتقل صدام). لقد أعاد الشيوعيون إنتاج شعاراتهم البذيئة بعد عقود من نسيانها. فلماذا تردد. من جديد صدى الثقافة القديمة ذاتها؟ وما الذي يجمع بين شعارات الأمس وشعارات اليوم مع أن الظروف تبدّلت جذرياً؟. إن التأويل المقبول في هذه الحالة» يجب أن ينصرف إلى معاينة وفحص مفهوم السياسة كما بلورته الأحزاب. لقد عاد الشيوعيون مع أول فرصة للتجابه مع العقائد المنافسة» مثلهم في ذلك مشل القوى والجماعات الدينية» إلى شعاراتهم العنيفة والقديمة. أي عادوا إلى الخزان الثقاني ذاته ليغرفوا منه ما يلزمه لجعل المعركة أكثر قسوة.

إذا ما قمنا بإعادة تركيب هذه التقابلات العنيفة للجماهير في الميدان» طوال ما يقرب من خمسة عقود إبتداء من العام 1958؛ فإن الصدام سوف يبرز في صورة متتنالية عنيفة يتكرر فيها المشهد نفسه: الشيوعيون يندفعون لتصفية التيار القومي بالقوة خلال أعوام 1958 1962 مُستخدمين حشوداً هائلة راحت تتدفق إلى الشوارع وتسهر الليل كله تغنى وتصاح بأناشيدها وموسيقاها. ( ولنتذكر أن مهرجان السلام الذي نظمه الحزب الشيوعي في الموصل عام 1959 انقلب من مهرجان أغاني للسلام إلى مهرجان قتل وذبح للقوميين في المدينة). ثم وفي أعوام 63 - 64 رأينا البعثيين يندفعون لتصفية

-326 -

الفصل الثالث: مأزق التحديث ال-8 ب كب اس ببح التيار الشيوعي - اليساري ( المد الأحمر) مُستخدمين هم أيضاً حشودهم الجماهيرية الى راحت تصدح بأغاني الوحدة مع مصر.

أخيراً هاهم الإسلاميون يندفعون لتصفية البعثيين تحت شعار: اجتفشاث البعثية.

هذا الصدام الدامي والعنيف للجماهيريات ما كان ليحدث ويستمر على هذا النحوء لو لم تكن هناك في الأصل تناقضات حادة ومُستعصية على الحلء هي نتاج أزمة اجتماعية عميقة أخفقت العقائد العنيفة الشيوعية والقومية والإسلامية في تقديم مقاربات عقلانية للخروج من أسرهاء أو حتى في فهم واستيعاب درجة خطورتها؛ تامأ مثلم أخفقت النخب السياسية والفكرية العراقية في تحليل نتائجها المدمرة. وإلى هذا كله لو لم يكن هناك مفهوم للسياسة تبلور - دون انقطاع وطوال خمسة عقود ‏ داخخل مجتمعات عقائدية صغيرة»؛ طقوسية ومنغلقة ومذعورة» رأت إلى نفسها باستمرار بوصفها المخلص الُعبر الوحيد والتفرد عن أحلام وتطلعات الشعب. في هذا الإطار لعبت الحشود الجماهيرية دورها كاملاء مرة كأداة ترويع في يد الدولة لفرض مزيد من القيود على تطلعات المجتمع؛ ومرات كأدوات ترويع في قبضة القوى العقائدية.

وعلى سبيل المثال: فمقابل الحشود الإيرانية التي سيرها الإمام الخميني في شوارع طهراه والمدن الإيرانية إثناء الحرب. وهي تنشد بصوت واحد مُروع: كل يوم عاشوراء وكل يوم كربلاء» كانت هناك حشود مُتزايدة من الجماهير, التي سيرها الرئيس صدام حسين في بغداد والمدن العراقية وهي تغني( إحنا المشينا للحرب. عاشق يغني محبوبته ‏ نحن الذين نمشي إلى الحرب مثل عاشق يغنى لمحبوبته). دون التافان الصاخبان في الوقت عينه تقريباً في كل من طهران

-327-

الفصل الثالث: مأزق التحديثنث ‏ < <ببلت"اجعلطع:دسع: _ م وبغداد؛ وكانا من الناحية الرمزية الصرف تعبيراً بليغا عن الوظيفة الجديدة للجماهير كما تخيلتها الدولة: إن مهمتها الوحيدة باتت اعتباراً من هذه الآونة هي إرغام الجتمع كله في إيران والعراق» على مواصلة الاندفاع على طريق الحرب وممارسة الإستضحاء بنشوة كاملة» وتقديم المزيد من التضحيات من دون تردد أو انقطاع. وإذا ما قمنا بدمج الصور والشعارات التىي صدحت بها الحشود في طهران وبغداد» فإننا سنكون وجهاً لوجه أمام الجماهير ذاتها وكأنها تهتف بشعار واحد يدعو المجتمع:

( أن يمشي إلى الحرب ويغني لما كما يغنيى العاشق لحبوبته» لأن كل أرض هي كربلاء» ولأن كل يوم هو عاشوراء).

هذا الدمج الافتراضي للشعارات؛ والذي نقوم به هنا حصراً ‏ بين الشعارين العراقي والإيراني» يكشف لنا عن المضمون الحقيقي للحشود السياسية. في هذا السياق. لعبت الإيقاعات والأغاني العقائدية سود ية مع الموسيقي والأناشيد الدينية» الدور نفسه في تصعيد الإحساس بلمهابة من الحشود. إنها جماهير مليونية تسير مصحوبة بالموسيقى والأناشيد وبالأغنية الوحيدة التي تروق لا. من المؤكد أن مشاعر الرفض والاشمئزاز من بشاعة الحرب في المجتمعين الإيراني والعراقي كانت قوية ومسموعة؛ حتى في أوساط الجماهير نفسها التى كانت تسير في شوارع طهران وبغداد. بيد أن مسار الأحداث والتطورات التراجيدية المتسارعة كان يفرض على الجماهير والقادة معا في البلدين» تصعيداً لا مثيل له للطقوسيات والرموز. سنعود إلى التاريخ مرة أخرى من أجل رؤية العلاقة بين هذه الطقوسية وبين الخوف من الخارج.

ثمة رابطة قوية بين هذا الخوف الذي كرسته الأحزاب الجماهيرية في الفكر السياسي» وبين وصول الوعد بالتحديث إلى طريق مسدود. وبالتالي

-328 -

الفصل الثالث: مأزق التحديثغ د ب ا فشل محاولات دين الجتمع ونقله إلى مصاف الأمم الراقية» بحسب برامج أحزاب الطبقة السياسية المتعاقبة على الحكم منذ عام 1921 حتى سقوط الملكية في العام 1958. هذا الخارج الذي تجسد صبيحة سقوط بغداد في صورة ا ا ال 0 الديمقراطية والحدائة ‏ هو الشبح الذي كان يتجول بخيلاء في شوارع بغداد ووسط الحشود الجماهيرية.

سأتوقف هنا قليلاء عند بعض العوائق التى ارتطمت بها محاولات التمدين المبكرة في اجتمع العراقي؛ منذ أن بدأت علائم وتأثيرات الشورة الدستورية في إيران وتركيا عام 1906.

لقد عاش العراق باستغراق وجداني حار سنوات السجال مع فكرة التحديث, أثناء محاولة مدحت باشا ثم ناظم م جد سنوات اندلاع الثورة المشروطية؛ والرامية في الجوهر إلى إحداث تحول حقيقي في بنية ا جتمع نل خلدل رمحلا نطاء | عدلحي ار إيكد لهو تناك رهائنة 2 جم وق سيل إعادة هيكلة الاقتصاد أيضاً؛ ولكن من دون أن تتبلور لا داخل المجتمع ولا في المؤلفات الفكرية والثقافية للنخبة مفاهيم متماسكة عن معنى الحدائة وحدودها. في حين» وعلى عكس التوقعات» تطورت أساليب التلاقي أو التناقض مع أفكار التحديث عند رجال الدين في النجف وكربلاء. يتعين الاعتراف في هذا المقام» أن رجال الدين وطلاب المدارس الدينية في النبجف وكربلاء» كانوا بمثلون في تلك السنوات طبقة من المتعلمين أكثر نشاطاً وتأثيراً في المجتمع من سائر الفئات والجماعات الأخرى. ومع ذلك كان هناك على الدوام نوع من الانفصال بين الموقف السياسي - الديني ( الفقهي) وبين الموقف الاجتماعي ‏ الفكري من مسألة التحديث. وهذا أمر مثير للاهتمام بالفعل إذ أن التحركات السياسية والدينية التي انبنت عليها مواقف النخب. لم تكن

- 329 -

الفصل الثالث: مازق التتحديث ‏ ب<+الب"التلتاناالاء[_ بج جا لالم لتقترن بفكرة واضحة عن المقصود بالتحديث؟ في البداية أشاع رجال الدين وخصوصاً رجال الدين الشيعة في النجف. وهم القوة الجتمعية الأكثر تنظيماً والأفضل تعليماً ‏ بفضل انتشار مفادها: وتقاليد التعليم الديني حيث يُحرص على تعليم الأطفال القراءة والكتابة وحفظ الشعر والأحاديث النبوية والقرآن - فكرة وحيدة عن معنى التحديث مفادها: إن التحديث يعنى خضوع الإسلام والمسلمين هيمنة ثقافية وافدة مُتحللة» فاسدة وشريرة مُخالفة لشرع الله. وبكلام آخر الاستسلام أمام الخارج.

ويبدو أن هذا الفزع التقليدي من الخارج» والذي يتغذى من عقود مريرة من الهيمنة الأجنبية على البلاد» منذ سقوط الدولة العباسية وعاصمة الإسلام بغداد في يد المغول. قد أفضى في النهاية إلى إحياء فزع قديم وفلكلوري في الثقافة الشعبية العراقية. هذا الفزع يتجلى في وجود نظرات تشكيك وارتياب لا حدود لطاء إزاء كل وأي محاولة لفرض التحول بالقوة. ولذا كان ميسوراً بالنسبة لرجال الدين» وفي غياب دور حقيقي للنخب العلمانية» تمرير هذا الذعر ونشره على أوسع نطاق والتلاعب به. ولكن. ومع أولى الإصلاحات الفعلية التي طاولت نظام التعليم والإدارة جزئيأء والسماح لأشكال محدودة من حرية النشر والصحافة كذلك. أرغم رجال الدين في النجف على تعديل طفيف للنظرة السائدة عن التحديث؛ فهو ليس شرا مُطلقاً وإنما فيه منافع للناس. وهكذا اضطرت طبقة رجال الدين جزئياً وعلى نحو مُتدرجء إلى الانتقال من الرفض الُْطلق إلى استغلال الواقع الجديد والاستفادة من فرص انتشار المجلات والكتبء وتحسين أشكال الاتصال الثقافي مع الجماهير التي أتاحتها فرمانات السلطان عبد الحميد, الرامية إلى تكوين قوة شيعية متمنعة إزاء الأطماع البريطانية. خصوصاً بعد فشل محاولته استمالة إيران القاجارية إلى حلف شيعي - سني لمقاومة النفوذ الأوربي في الشرق المسلم

- 330 -

الفصل الثالث: مازق التحديث وهذا ما يؤكده الدور الفعال الذي لعبته جمعية حرس الاستقلال العراقية التتى ضمت الشيعة والسنة. يمكن القول إن العراق» وطوال نصف قرن من العام 1900 - 1950 عاش من المنظور الثقافي ثلائة مفاهيم كبرى للتحديث لا مفهوما واحدا. لكن أيا من هذه المفاهيم لم يساهم جديا في صياغة أسس التعايش التاريخى بين العناصر والمكونات الاجتماعية والثقافية؛ بل على العكس من ذلكء. فاقمت من حدة تنافرها وربما في ارتطامها ببعضها. الأول: التحديث ( تراوح بين الرفض واستغلال منافع الإصلاح المحدود والتعايش مع نتائجها). والثاني:

مفهوم مواز بلورته الطبقة السياسية» التى كان رجالها يتناوبون على الحكم. ويقوم على قاعدة أن التحديث مستحيل من دون التبعية للغرب وبشكل خاص الصداقة مع بريطانيا. أما الثالث:

فهو مفهوم مضاد تبلور في الشارع السياسيء. بفضل صعود أدوار الأحزاب الجماهيرية الشيوعي, البعث. القوميون, وهو يقوم على فكرتين تبدوان متصارعتين:

تقول أحداهما إن الحداثة يجب أن تنبع من الخصوصية الثقافية العربية - وهذا ما سعى إلى بلورته بصورة شبه تمنهجة تيار عروبي نشط وجد في أفكار الشهيد الصباغ ورفاقه العقداء الأربعة مرجعية فكرية صا حة -. وفي نطاق هذا

- 331 -

الفصل الثالث: مأزق التحديث ‏ د ا ب ر ا ا المفهوم جرى التأكيد على أن التحديث يجب أن يكون مُستقلاً عن المعسكرين العالميين الشرقي والغربي» وإن على العرب أو يشقوا بأنفسهم الطريق إلى التحديث من خلال الوحدة العربية. فيما تقول الأخرى إن التحديث مستحيل في ظل انشطار العالم إلى معسكرين بعد الحرب العالمية الثانية» وبالطبع من دون انحياز إلى عالم الاشتراكية والعمل والكادحين والفقراء دون تردد. وبالتالي فإن الحلم بالتحديث سيكون مُمكناً فقط في ظل انحياز كامل لمعسكر الاشتراكية العالمي وضد الغرب الاستعماري.

عززت هذه المفاهيم مع الوقت» مخاوف وتشوشات تقليدية إزاء مفهوم التحديث في المجتمع العراقي؛ وأدت بشكل مأسوي إلى تراجع فظيع في فكرة النضال من أجل الإصلاح. كانت فكرة الإصلاح في الفكر السياسي العراقي مع صعود أدوار الأحزاب الجماهيرية تترادف مع كلمة الرجعية أو التخاذل.ولذا نظر بكثير من الحذر والتشكيك للدعوات أو المطالب السياسية الإصلاحية؛ وربما أتهم أصحابها بالتواطؤ مع الاستعمار وأعوانه» وذلك بسبب المناخ الراديكالي الذي كانت تشيعه الأحزاب من خلال دعواتها الثورية. وحتى تى اليوم يمكن للمرء أن يلاخظ كيف أن الفكر السياسي العراقي ظل أميناً هذه الروح الجذرية» إذ نادراً ما أبدي تقبلاً واضحاً لشعارات ودعوات الإصلاح. وعلى العكس ظل يرفض كل دعوة أو نداء لا يتجه صوب فكرة وحيدة هي الثورة وإسقاط النظام. ولذلك جاءث ثورة تموز/ يوليو 1958 لتضع حداً لكل هذا السجال؛ ولتحل محله نوع من السجال الثنائي بين الحداثة النابعة من الخصوصية الثقافية القومية» وبين الحداثة النابعة من الانحياز إلى معسكر خارجي ( شرقي اشتراكي عند الحزب الشيوعي وبعض الشخصيات الماركسية المستقلة وقومي عروبي مصري - سوري عند البعثيين والقوميين).

-332-

الفصل الثالث: مأزق التحديثن ‏ بعد جس> ‏ سس

بكلام آخر: كانت ثورة تموز/ يوليو من هذا المنظورء انتصاراً لامعا لمفهوم عن الحداثة مناوئ في الجوهر للغربء وانتصارا لثقافة مذعورة منه نكا

هذه المفاهيم وكما بينت التجربة التاريخية, لم تساهم في خلق روابط توحيدية داخل المجتمع؛ وعلى العكس ساهم كل واحد منها في تسريع درجة تنافر الكتلات الاجتماعية. فالتحديث ( الشيوعي) الموعود. عنى بالنسبة لرجال الدين الشيعة والسنة والجماعات القومية» تحطيماً لأسس الثقافة القديمة والدين والتقاليد ونظام القيم؛ بينما تراءى التحديث العروبي الموعود النظري - في أعين اليساريين كما لو كان تكريساً للتخلف والرجعية. ومن النادر أن يلاحظ الباحث وطوال الحقبة الممتدة من الخمسينات وحتى سقوط بغداد 3 وجود محاولة فكرية منهجية ‏ من جانب النخب في العراق ‏ لصياغة مفهوم للتحديث:؛ يمكن أن يكون محركاً اجتماعياً حقيقياً ومقبولاً من الجتمع كما هو الحال مع الثورة المشروطية في إيران» أو الثورة الكمالية في تركياء أي في البلدين اللذين ظل العراق الكاريزمي يتطلع بحسرة إلى تقدمها المطرد في تلك السنوات.

امحاولة الوحيدة لإنجاز مقاربة بين مفهومي الحداثة الإيديولوجية عند الشيوعيين والبعثيين» كانت محاولة سياسية ولم تتحول إلى مشروع فكري. وهكذا؛ فإن التقارب البعثي ‏ الشيوعي خلال مطلع السبعينات من القرن الماضي ( تحالف 1973) كان تقارباً سياسياً هشاً لم يُبِينَ على أسس فكرية عميقة. وطوال أقل من ربع قرن من العام 1958 - 1979 كانت مفاهيم التحديث الإيديولوجية النظرية» تتصارع بأشكال مختلفة لتضاعف من درجة وحدة الانقسامات في امجتمع بدلاً من تعزيز وحدته. وعندما بدأت علائم تحطم التحالف الشيوعي - البعثي تاليا ( الجبهة الوطنية التقدمية بعد ست

-333-

الفصل الثالث: مأزق التحديث ‏ 6 ل ب بابب ا مسلا لس سنوات فقط من تقارب سياسي هش) تجذرت في الوعي السياسي العراقي فكرة وحيدة عن الديمقراطية: إنها لا تعنى نظاماً من الحريات العامة, ولا تأسيساً مجتمع مدني مُحرر من الرقابة والتسلط؛ بل هي حرية الحزب وحقه لوحده في الحصول على مقرات وصحف علنية. لقد تم اختزال مفهوم الديمقراطية بصورة بشعة» حين جرى تصويره للمجتمع على أنه حرية أحزاب رجعية).

ومن هذا المنظور؛ فإن التحالف الشيوعي - البعفي من العام 1973 حتى انهياره في تموز/ يوليو عام 1979 لم يكن سوى تحالف حزبين جماهيريين» تعاضدا ضمنيا على غلق كل الأبواب بوجه المجتمع» واحتكار فكرة الديمقراطية والحرية باقتصارها على إنشاء حياة حزبية خاصة بالحزبين. إنه تحالف حزبين نظار باستمرار إلى نفسيهما كمجتمعين عقائديين من مجتمعات الضحاياء إصلاحات سياسية جذرية للبلاد والمجتمع؛ وأكتفوا على الضد من ذلك» اكتفوا بالدعوى إلى تعزيز وتعميق تحالفهما من أجل الاشتراكية. حتى الدعوات التى كانت تكررها افتتاحيات طريق الشعب - الصحيفة الناطقة لب المفهوم:

نعنيى الدعوة الصريحة لإعادة السياسة إلى المجتمع» والسماح له باستخدام كل طاقاته لتنظيم نفسه خارج أيديولوجية الحزبين الحليفين.

فهم الشيوعيون العراقيون الديمقراطية المطالب بهاء على أنها حريتهم في كما طبقه في الحياة السياسية.

34

الفصل الثالث: مأزق التحديثن ‏ - اس_ :جح جحل بهذا المعنى سيطرت العقلية الجماهيرية ( عقلية الحشود ) على مفهوم السياسة وتم إقصاء المجتمع عنهاء في ظل فشل وإخفاق مشروعات التحديث. إن المهرجانات الموسيقية الصاخبة المليونية» التى نظمها الشيوعيون في خمسينات القرن الماضي وانقلبت بسرعة إلى مهرجانات قتل وسحل ودم؛ كانت وبأتم المعاني تحويلاً للسياسة إلى ممارسة طقوسية؛ امتزج فيها العنف بالتصعيد الشعري للرموز. إن مناظر سفك الدم التى ميزت احتفالات الشيوعيين العراقيين بالسلام أو الدفاع عن الجمهورية» ليست سوى تأكيد لهذه الرابطة: رابطة العنف الطقوسية. إن الثقافة الراسبة والتقاليد والموروث الشعبى؛ قد تكون لعبت في هذا النطاق دوراً من نوع ماء وفي لا وعي الجماهير الشيوعية: في توثيق عرى الترابط بين الحشود والدم. فالحشد السياسي يذكرها ‏ رهي في الغالب الأعم من الطبقات الفقيرة ومن أبناء المذهب الشيعي - بحشد مماثئل يجري فيه تقليدياً سفك الدم. وهذا ما يتجلى في طقوسية عاشوراء السنوية حيث تحنشد الملايين وهي تجرح أجسادها ورؤوسها بالسكاكين الطويلة ( القامات) ليصطبغ الحشد بالدم. هذه الثقافة القديمة الراسبة التي لم تتزحزح أنساقها فعليأء أمام الحدائة الإيديولوجية؛ وأمام البرامج السياسية النظرية والجوفاء الخالية من المضامين الواقعية» هي واحدة من المحركات الخفية في هذا التحويل للسياسة إلى ممارسة طقوسية. في هذا السياق انقلبت المسيرات الحاشدة ( المليونية أيضاً) التى نظمها البعث طوال سنوات 1968 - 2003 حيث أرغم فيها الجتمع بأسره وبالقوة على الاستجابة والتأييد؛ هي الأخرى إلى مصدر رعب وتخويف لم يخلو من مشاهد سفك الدم. وهذا هو الطريق ذاته الذي تسير فيه اليوم الموجة الجماهيرية الثالثة ( الشيعية ‏ الإسلامية). إن تورط ميليشيات فيلق بدر وحزب الدعوة بعمليات قتل مروعة في الشوارع ضد

-335 -

الفصل الثانث: مأزق التحديتث ببح البعثيين ونشر الذعر في عوائلهم؛ بل والإستيلاء على منازل أسر بعثية يندرج في إطار هذا التلازم بين فكرة الحشد والدم.

هذه الجماهيريات تطرح اليوم في صورتها الراهنة ومن منظور مواز؛ فكرة جديدة بالفعل عن الغرب ( الخارج) الذي لطالما كان مصدر الذعر في أدبيات أحزابهاء وكان مادة من مواد نضاها. مفاد هذه الفكرة إنه ليس العدو القديم نفسه. وإن من الضروري القبول به كعامل حاسم في الحصول على الحداثة التى سيفرضها على المجتمع بالقوة. الخارج لم يعد مصدر التهديد؛ والغرب المحرر جاء بنفسه لنشر قيمة التي يرغب بها المجتمع. وهذه فكرة غريبة. ساعطي مثالا واحداً عن حدود هذا التحول وظروفه:

عندما ولد حزب البعث في مقهى المافانا بدمشق في النصف الثاني من أربعينات القرن الماضي كحزب برلماني» فقد تبدى في أعين نقاده كحزب ضعيف العداء للغرب؛ وربما متحرر من عقدة الخوف من الخارج ‏ بدليل أنه استمد من الغرب على ما يُدعى» فكرته القومية ونظريته وتصوراته عن نفسه ع ولنقل تبدى كحزب أقل صخباً في العداء للغرب وأفكاره من الجماعات القومية الأخرى. لكن أفكاره الأولى عن العالم والسياسية والمجتمع» في المقابل» تبدت آنئل كخليط شبه متجانس من مواعظ وأحاديث بسيطة التعابير» مؤثرة بصورة تفوق التوقع» وموجهة في الصميم لإيقاظ روح جيل جديد من الشباب العربي وتبصيره بقضايا أمته وبشكل خاص المخاطر المحيقة بفلسطين. هذا الخليط من الحماسات الفلسفية العفوية والبسيطة القومية في الجوهرء كان لا تزال تحت تأثير أفكار الغرب عن القومية والبرلمانية. حتى أن القوميين العرب وبشكل خاص مؤسس الحركة جورج حبش صديق البعثيين الحميمء عابوا على البعث علنا فكرته عن النضال بوسائل غير عنيفة وبرلانية.

- 336 -

الفصل الثالث: مأزق التحديثن 0 <تلدهع ل

في أوئل الخمسينات من القرن الماضي. نشب صراع فكري بين القوميين العرب والبعث حول هذا الجانب من تفكير الحزب. لم يكن البعث قد تشبع بعد فكرة الجماهيرية» التى بدث على يد ميشيل عفلق وكأن معناها الوحيد هو ( تنشئة جيل عربي جديد( بينما ستتحول على يد أكرم الحوراني - شريطه في تأسيس البعث العربي الاشتراكي - وكأنها تعنى تكريس الحزب لنفسه كحزب فلاحي. ولذلك يبدو أمراً لافتاً أن البعث الذي ولد كحزب برلماني؛ أعاد خلق نفسه فيما بعد وقام بتكوينها ني العراق على أساس معاه للبرلمانية. لقد استهوته فكرة الانقلابية التي نادى بها ميشيل عفلق» ووقع في غرام فهم مشوه هذه الفكرة. كان عفلق ينادي بإحداث انقلاب فكري على واقع التجزئة والتخلف. وتأسيس وعي جديد لجيل جديد من العرب. على هذا النحو امتلك حزب البعث إلى جانب مفهومه عن التحديث المشروط بالخصوصية العربية» مفهوماً موازياً لأسلوب تحقيق ذلك هو الانقلابية. بيد أن البعث وطوال العقود الثلاثئة والنصف التى أمضاها في السلطة» عاش ذعراً متواصلاً من الخارج؛ وكان شديد الحساسية إزاء ثقافته وأفكاره. وبالتالي إزاء كل دعوة للوصلاح السياسي: كان الخارج يتبدى في صورت شبح يترضد خطوات الحزب في العراق» يتابعه ناقدا وناقما وقلقا في الآن ذاته من طموحات؛ في حين كان البعث يواصل دون تردد صياغة مفهومه الخاص للعلاقة بين الدولة والمجتمع؛ ومُنشغلاً بتحقيق حلم حدائة خاصة أيضاًء مستقلة سياسياً عن الغرب أو لنقل لا علاقة لها الخارج. وكان هذا مُستحيلاً من الناحية العملية أو الواقعية

إذا كان البعث قد التهى إلى حزنب معاد للبرذائية وهى هي الفكرة التي نشأ عليها في الأصل - وانتقل كلياً إلى العداء المكشوف للغرب بعد سنوات طويلة من مشاعر الذعر والمخوف من دسائس الاستعمار؛ فإن خصمه وغريمه

-337 -

الفصل الثالث: مأزق التحديث الإيديولوجي الحزب الشيوعي العدو القديم للغرب, والذي ولد في الناصرية جنوب العراق عام 1934 كحزب ثوري ينتهج خطأ متشدداً إزاء الغرب والإقطاع والاستعمار» غير مؤمن أبداً باللعبة البرلمانية؛ انتهى منذ تسعينات القرن الماضيء إلى حزب ضعيف العداء للغرب ولنقل أنه بات أكثر استعداداً للتعاطي مع أفكاره وثقافته. وأخيراً أصبح من أكثر المدافعين عن أفكار الغرب وتبريراً للمشاريع الاستعمارية» مثلما تجلى ذلك في حماسته المفرطة لدعم احتلال العراق والدفاع عن هذا الاحتلال. ولنقل صراحة أنه انتهى إلى حزب عميل بصورة مخزية. لقد أصبح الحزب الشيوعي؛ وبعد أن فقل مرجعيته العالمية مع غياب الاتحاد السوفياتي السابق عن المسرح وانهيار الاشتراكية» من أكثر دعاة البرلمانية أو اللعبة الديقراطية صخبأء وبالطبع من دون إيمان حقيقي وصادق بها. إن تآكل روح العداء للغرب الإمبريالي في أدبيات الشيوعيين كان ينبئق من قلب الانهيار المريع في مرجعيتهم الدولية. ولذا تبدى هذا التآكل في ثقافة العداء التاريخية للإمبريالية» وكأنه استطراد في تأكل ثقافة مركزية ذات طابع عالمي» سرعان ما انهارت كلياً في الوطن التاريخي الذي أنجب الشيوعية. ابتداء من نهاية الثمانينات ومع اضطرام نيران الحرب العراقية ‏ الإيرانية» تحول الحزب إلى طرف في الانصالات والتحركات الإقليمية بصورة أو بأخرى؛ وتمكن في البداية من إقامة علاقة سياسية غير مباشرة مع طهران الإسلامية» كان الغرض منها تسهيل إرسال مقاتلين إلى الشمال لتنظيم هجمات ضد الجيش العراقى. لقد تخلى عن هواجسه القديمة إزاء الإسلاميين» ونحى جانباً التنافرات بين علمانيته وإسلامية طهران. كانت طهران بأمس الحاجة في هذا الوقت؛ لأطراف عراقية متنوعة في مشاربها الفكرية تقف معها وتعطيها التبريرات اللازمة لاستمرار الحرب. ثم جاء انهيار الاتحاد السوفياتي السابق على غير توقع وبشكل سريع؛ ليرغم الحزب الشيوعي العراقي على أحداث تغييرات فكرية وسياسية جوهرية تؤكد استعداد الحزب لتغيير نظرته

-338-

الفصل الثالث: مأزق التحدين < <<ادجءادءدجطظعبث ملس التقليدية» لا إزاء الإسلاميين وإنما إزاء عدوه القديم: الغرب. ولذا شرع في إزاحة المدماك الأول في سياسته القديمة وتخلى واقعياً عن أفكار العداء للومبريالية؛ وصار مع مطلع التسعينات على استعداد أكثر فأكثر للإنخراط في مشاريع سياسية ‏ عسكرية؛ طرحتها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانية لإسقاط النظام في العراق» نظام غريمه و( شريكه في امتياز التضحية وفي الجماهيرية) البعث.

وهكذا: فبينما تحول البعث من حزب برلماني ضعيف العداء للغرب. إلى حزب شديد العداء له» تحول الشيوعيون العراقيون على العكس من ذلك» من حزب شديد العداء للغرب إلى حزب متحالف مع مشاريعه الإمبريالية» وبذلك تلاشت روحه وأفكاره الأولى عن الرأسمالية والاستعمار والغرب. في المقابل» فإن الأحزاب الشيعية الكبيرة كحزب الدعوة الإسلامية والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية» والتي ولدت ف الأصلء كأحزاب جماهيرية مُتصادمة مع الغرب ومعادية له ثقافيا دينيا وسياسيا على طول الخط. وفوق ذلك يردد منتسبوها شعار الثورة الإيرانية دون كلل ولا ملل ( أمريكا هي الشيطان الأكبر) التهت منذ مطلع التسعينات إلى أحزاب متحالفة مع الغرب تحالفاً عضويا.

هذا المفارقة في حياة الأحزاب الجماهيرية الكبرى ساطعة في وضوحها؛ وهي تدلل على نحو ما على حقيقة أن مفهوم الحداثة الإيديولوجية عند هذه الأحزاب؛ لم يكن لينبى على تصورات متماسكة؛ بل كان خاضعاً للظروف والتقلبات وللتكتيكات السياسية أيضاً.

إن التحديث الذي حلم به البعث وأراد قيادته مُنفردأء ومُحتكراً لعملية التحول التاريخي» وصل إلى طريق مسدود في خاتمة المطاف. والمازق كما يتضح اليوم يكمن في الفشل الذريع على صعيد بلورة مفهوم للتحديث يتناسب مع الخصوصية كما نادى بها آباء البعث الأوائل: أن تكون حداثة نابعة من أحلام

- 339 -

الفصل الثالث: مأزق التحديث + غعيتنءجداادجتنعا ل وطموحات الشعب بالمدينة والحريات العامة وامجتمع المدني. كما يكمن في إخفاق مشاريع التنمية الطموحة التى أطلقها الحزب منذ السبعينات لإحداث تحول جذري وحقيقى على المستوى الاجتماعىي. بيد أن هذا الإخفاق كان دليلاً إضافياً» على إخفاق المفهوم الإيديولوجي للحداثة نفسه؛ كما عبر عنه البعث والحزب الشيوعي والإسلاميين على حدٍ سواء.النتيجة التي انتهت إليها محاولة البعث وبعد عقود من استلام السلطة هي أن مفهوم التحديث تركز ‏ في نهاية المطاف - في نطاق تجديد بنى الدولة» تحديئها وتعظيم قوتها البوليسية في مواجهة اجتمع؛ بدلا من أن تكون وسيلة لإعادة صياغة العلاقة بينهما على أسس عصرية وحديثة. وذلك ما أدى تاليا وفعلياً إلى مفاقمة درجة عزلة الدولة عن المجتمع» أغترابها وتحوها إلى أداة رقابة صارمة تحصي الأنفاسء وإلى فقدان أو تآكل متواصل لأسس التعايش الاجتماعى بين الجماعات المؤلفة للسكان. لقد أسفرت التنمية التي قادها البععث طوال أعوام 1973 - 1988 وحتى في ظل الحرب القاسية مع إيران» عن نجاحات كبرى على صعيد تمحديث جهاز الدولة» وإلى حد بعيد على صعيد تحديث البنية التحتية للبلاد» إذ انتتشرت الجامعات الراقية والحديئة وشبكات الطرق والكهرباء والمستشفيات عالية التقنية» وظهرت أجيال من الاختصاصيين البارعين والعلماء في شتى الجاللات. بيد أن هذه التنمية ظلت خالية من برنامج اجتماعي حقيقي يتوجه بأفكاره صوب أغلبية المجتمع. إن إخفاق الأحزاب الجماهيرية مجتمعة في إنجاز وتحقيق شكل واحد وحسبء من أشكال تمدين امجتمع حتى على مستوى الأفكار ‏ دعك عن الواقع ‏ هو الذي ساهم في بلورة مفهوم مشوه للسياسة في العراق. صارت السياسة في العراق تعنى شيئا واحدا: الدخول في حزب جماهيري عقائدي والتسلح بالنظرية. ولو أن المرء سأل أي عراقي ممن يعملون اليوم في حقل السياسة عن مفهومه للسياسة» لوجد - ويا للمفارقة ‏ إنها تعنى عنده

- 340 -

الفصل الثالث: مأزق التحديث ‏ لتنتتدتعتعتعلعللب ا ايلع انضمام الإنسان إلى حزب. وهذا يعني ببساطة أن السياسة كمفهوم ظلت غصورة داخل غير فق فن التصورات هو ( الخزيية) ولم تتحول إلى مفهوم ثقاني. ولكن السياسة ليست ولم تكن أبداً مجرد نوع من التحزب؟

من البديهي أن هذا النوع من التصورات عن السياسة بما هي انتماء إلى جماعة» كان يتلاءم مع الثقافة القديمة الراسبة في امجتمع العراقي» حيث معظم الأفراد ينتمون إلى جماعات عشائرية أو قبلية. بهذا المعنى يصبح انتماء الفرد في العراق إلى حزب. متوهماً إنه يعمل في حقل السياسة؛ استطراداً في انتماء الفرد في العراق إلى حزبء متوهماً إنه يعمل في حقل السياسة؛ استطراداً في انتماء قبلي أو عشائري. ويصبح الحزب في هذه الحالة امتداداً فيزيولوجياً للقبيلة أو العشيرة» استكمالاً أو تطويراً ها ولقدراتها.وهذا ما يُفسر لنا السبب الحقيقى حول الانماء كرب ماق العزاقه إل ها يقني انقياءا لمفسية ار بخاضة ويصبح الدفاع عن شرفها وكرامتها أكثر أهمية من الدفاع عن الوطن أو مصالح المجتمع العليا. إن درجة إحساس عضو الحزب بأهمية دوره في المجتمع وفي خدمته والدفاع عن المصالح العلياء سوف يتضاءل ويتآكل لصالح تكريس انتمائه لجماعة بعينها انفصلت عن المجتمع» وعاشت داخل عقيدتها ( أيديولوجيتها) باستغراق وجداني ملتهب.

ولأضرب مثلاً على ذلك: في مطلع الثمانينات وعندما نشبت الحرب العراقية ‏ الإيرانية عاش الشيوعيون العراقيون أجواء التباسات فكرية وسياسية فظيعة. كانت الحرب في أيامها الأولى تشهد انتصارات لامعة للجيش العراقي في حزم شهر وديسفول والشلامجة. صبت النقاشات بين الشيوعيين - في دمشق وشمال العراق وبيروت وإلى حدٍ ما في بعض البلدان الأوربية ‏ على فكرة واحدة: استغلال هذا الحدث لتطوير شعار إسقاط النظام. على هامش الحزب وعلى أطرافه كانت هناك بقايا جماعات يسارية متطرفة ثمن ناصبت الحزب

- 341 -

الفصل الثالث: مأزق التحديثن ‏ <+ يهصهوتجط>طعب 77ل سل العداء ني الماضي, تلح على فكرة معاكسة: استغلال الحرب وتحويلها إلى حرب أهلية» تيمناً بما فعله لينين إبان الحرب الروسية - الألمانية. كانت فكرة الحرب الأهلية؛ فكرة خرقاء بامتياز وم تحظ بقدر من الاهتمام الجدي.ظل الشعار المركزي للحزب ابتداء من أيلول/ سبتمبر 1980 هو إسقاط النظام الديكتاتوري ووقف الحرب. لم يكن الحزب من الناحية الواقعية يملك وسيلة حقيقية لتحقيق هذا الشعار؛ فليس لديه لا الأعداد الكافية من المجندين للقتال ولا هو يملك القوة الجماهيرية داخل العراق. كما أن التحالفات القوية للعراق مع الاتحاد السوفياتي ( السابق) مكنت البعث الحاكم من الحصول على دعم سياسي ومعنوي غير محدود. ولذلك استمع الشيوعيون السوفيت بشيء من التحفظ لدعوات رفاقهم في الحزب الشيوعي العراقي. في أيارء مايو 1982 وقع تطور مذهل غير مجرى الأحداث. لقد نظم الإيرانيون هجوماً معاكساً في خرم شهر( امحمرة) وتمكنوا من إزاحة الجيش العراقي عن أكثر التحصينات العسكرية قوة ( وهي تحصينات أقامها الشاه في هذا المكان). وبعد يومين أو أكثر من الحجوم حتى شط العرب وخوصرت البصرة. وبهذا التطور المفاجئ أصبح العراق مهدداً بالسقوط والاحتلال. في هذه الأجواء انصب النقاش على شعار الحزب: هل نطالب بوقف الحرب ثم نناضل من إسقاط النظام؟ أم نطالب بإسقاط النظام كوسيلة لوقف الحرب؟.

أظهرت سلسلة النقاشات هذه. لا عقم الفكر السياسي العراقي وجدالاته البيزنطية الفارغة» ولا عجزه عن فهم المغزى الفعلي لاندلاع الحرب وأهدافها ونتائجها الكارئية» وإنما كذلك وبدرجة أكبرء مقدرا السذاجة السياسية التىي ميزت الشيوعيين العراقيين. لكنها في المقابل بينت وبطريقة ساطعة؛ الطريقة التى كانت فيها الوطنية تتلاشى من روح الحزب. لقد كانوا يجادلون في أمرء هو بالنسبة للشعب العراقي بكل طبقاته وطوائفه من أكثر

- 342 -

الفصل الثالث: مأزق التحديث << تت "لظهغظهعوو«ججدادهددهتهتهظهيثغظطه جل ل المطالب إلحاحاً: وقف الحرب بأي ثمن. لا لأن الأهوال والخسائر البشرية والآلام أكبر من أن تحتمل» وإنما لأنها بانت تهدد أسس التعايش التاريخي بين الطوائف داخل المجتمع؛ إذ بدأت علائم ومؤشرات خطيرة على تصدعات وجدانية عميقة مع تفجر الحساسيات الثقافية.وبينما راح الجتمع العراقي بأسره يستصرخ العالم أن يوقف الحرب - فالشباب كانوا يذبحون دون رحمة على جاني الحدود في حرب عبثية وطويلة ‏ كان الشيوعيون العراقيون يصمون آذانهم عن هذه الصراخات؛ ويجادلون في سبب الحرب والبادئ بها. وحين تسنى لي أن أسأل كثرة من أعضاء الحزب عن سبب تشبثهم بهذا الموقف. كنت أتلقى جواباً واحداً: إنه موقف الحزب. ونحن نؤمن به. هذا التقديس المرّضى لموقف الحزبء حتى وإن كان موقفاً باطلاً وخاطثاء والاستعداد دون تردد لدعمة والدفاع عنه» حتى وإن كان ذلك مخالفاً لرغبة وإرادة امجتمع؛ يذلل بجلاء على الفكرة الآنفة: إن الانتماء للحزب أصبح امتداداً تلقائياً للانتماء القبلي.

وكما لا يجوز نقض قرار القبيلة أو رده أو نقده» فقد كان الشيوعيون العراقيون بعقليتهم الحزبية السقيمة» يواصلون الدفاع عن موقف هو بالضد من المصالح العليا للمجتمع. وآنئفٍ تجلت السياسة بأسطع صورها ومرة أخرى»بوصفها التساباً لحزب أي لعصبة أو جماعة؛ ولم تعد تجسيداً للفكرة أو تعبيراً عنه. هذا الموقف هو الذي سيقود الحزب الشيوعي العراقي وطوال السنوات التالية» إلى التحالف مع جماعات في المعارضة تم تصنيعها في الغرب. أكثر من ذلك قبوله إقامة نوع من الصلات مع واشنطن قادها أمينه العام حيد مجيد موسى. وهذه ‏ كما هو معروف - انتهت إلى مشاركة الشيوعيين في المجلس الذي نصبه الأمريكيون بعد سقوط بغداد. وفي كل هذه الحالات والوقائع والأحداث كان أعضاء الحزب يواصلون إيمانهم الأعمى وتشبثهم بسياسة الحزب.

343

الفصل الثالث: مأزق التحديث ‏ لس - ل + [١‏ ووو#_ٍ ينطبق هذا الأمر وإلى حد بعيد على الأحزاب الدينية» التي دربت جمهورها الحزبي على المفاهيم ذاتها. منذئلر أصبحت السياسة أكثر قابلية للتحول إلى نوع من الطقوسية؛ وأصبح الشيوعي مثله مثل البعثي والإسلامي مجرد ( ملا ) يحلم بأن يقود جماهير تصدح من ورائه بأناشيد وأغاني ديلية.

- 344 -

الفصل الثالث: مأزق التحديث 0 الملا الجديد

إن الأمثلة والنظرات التى سوف تسلط في سياق الملاحظات الختامية الثالية» ممتمفة لزوية جانت عب قري مدق امشكلة رن صنق انطاق الثقافة القديمة ‏ خارج مسألة المشاريع السياسية والبرامج الإصلاحية المطروحة - ذلك أن تشريح فكرة الجماهير يتطلب إمعان النظر في الدور الذي لعبته هذه الثقافة؛ على صعيد تنمية وتطوير الأفكار والرؤى المحركة؛ وفي رسم تصور الجماهير عن نفسها وعن المجتمع. ومن غير شك فنحن نتحدث - في النهاية - عن بشر لهم عاداتهم وثقافتهم السابقة على تلقيهم للثقافة والتقاليد السياسية والعقائدية. وهذا يعنى من بين ما يعنيه أن الجماهير لا تتكون ‏ بوصفها كتلة هلؤئية ب تتعل يراع وعؤافل راسقة وسيب وإقا فقيل ثقافة قدي مستمرة. لسوف نرى كيف أن الثقافة الراسبة والمتواصلة والعادات الغذائية المتأصلة والتقاليد كذلك؛ كانت تلعب دوراً محورياً في إعاقة مشروع التمدين أو في إبطاء سرعته في العراق. كما كانت تلعب دوراً موازياء كمعبر عن درجة تمنع إزاء الحدائة؛ وفي الآن ذاته كمعبر عن قدرة النخب السياسية على استيعاب الأفكار الجديدة المغايرة وقيادة عملية التحديث. إن قوة وتأصل الثقافة القديمة وشدة تمنعهاء تلعبان غالبا ضد التحول أو ضد تسريع التحول؛ وكذلك ضد الانتقال إلى علاقات جديدة في اجتمع.

كنا رأينا أثناء دراسة تاريخ العراق خلال أعوام 1932 - 1958.: كيف أن فكرة التحديث والإصلاح تعثرت بصورة مأسوية؛ بعد فشل النخب السياسية في تحقيق الوعود الإصلاحية المُثبتة في البرامج. كما رأينا كيف أن كل محاولة للتحويل المدني ارتطمث مسبقا بدرجة الاستقرار السياسي. فمن دون استقرار طويل ومتواصلء سيكون من العبث تخيل إمكانية الحدوث تحول في

- 345 -

الفصل الثالث: مأزق التحديثنت ‏ 9باظطظدءطا/ج ثم سم الحياة المدنية للمجتمع. بيد أن هذا الإخفاق ليس سوى استطراد للفشل التاريخي في تحقيق الإصلاح؛ سابق على سقوط بغداد والاحتلال البريطاني.

سوف أعود مرة أخرى إلى التاريخ الاجتماعي والسياسي من أجل رؤية جوانب غير مرئية لمسألة فشل مشروع الحداثة الأيديولوجي.

إن مثال إصلاحات ناظم باشا 1910 على الرغم من محدوديتها وقصر عمرها ‏ ومع الاعتراف بجرأتها من حيث مضمونها الاجتماعي المباشر» لمي دليل أكيد على أهمية وضرورة تبني تصورات عملية وواقعية غير أيديولوجية. لقد تبنى ناظم باشاء ببساطة» خطأ إصلاحياً يتناسب مع خصوصي الجتمع ومع درجة تطوره وحاجاته الآنية» وأيضاً مع درجة تقبل المجتمع نفسهلهاء وذلك بتأئير الحركة الإصلاحية في تركيا. ولكن فترة ولاينه القصيرة لم تمكنه من تحقيق سوى نتائج محدودة. ومع هذا؛ فإن فكرة إحداث تغيبير في أنمفاط الحياة والعادات ‏ وخصوصاً في أحياء بغداد الفقيرة ‏ أخذت الكثير من اهتمامه ووقته. رأى ناظم باشا أن التمدين لا يعنى تحسين التعليم في المدارس فقط» أو تطويراً متتابعاً للبنى التحتية البدائية التي وريها من أسلافه. وخصوصاً مدحك ناا '( وهذا السب ماه الفزاقون معت افيا الكان )رحسي وإنما أيضاً مساعدة الأهالى ( السكان) على الانتقال إلى علاقات جديدة في زكر الدولة وتان زاكسناب يتوق وانسالبب عديدة لتبطي عيائق. وبالضبط: تهذيبهم وتعليمهم وصهر ملوناتهم وعناصرهم الثقافية المتنافرة في إطار واحد. إن المعاهدة التى نجح ناظم باشا في إبرامها بين القبائل ورجال الدين والدولة؛ وبموجبها تم تحريم عمليات الغزو والنهب المتفشية في المجتمع - الذي كان لا يزال قبائليا بصورة صلبة - خليقة بأن يُرى إليها اليوم» كتطور غير مسبوق في دور الدولة ووظيفتها التاريخية. كان المجتمع العراقي حتى العام

- 346 -

الفصل الثالث: مأزق التحديث 0 مجتمعاً يعج بتناقضات اجتماعية قاسية» ساهم في تأجيجها وجود ثقافة قبائلية راسبة وقوية تقوم على إباحة الغزو وتبريره وحتى التباهي به.

تجاوزت عمليات الغزو المتبادل بين القبائل النجدية المقيمة في العراق» حدودها كتقليد ثقافي متوارث وأصبحت تهديداً مستمراً لبغداد نفسها كمدينة حديثة» حتى أن سكان بغداد كانوا يعيشوا في قلق دائم من وصول مجموعات الغزو القبائلية إلى أسوار مدينتهم مع كل اضطراب في الأوضاع. إن رجال العشائر الذي ظلوا يمارسون الغزو ويفاخرون به - وخصوصا القبائل النجدية المستقرة حديثاً في منطقة الكرخ ببغداد - ويعتبرونه فوق ذلك جزءاً من التقاليد القديمة» وجزءاً من الثقافة القديمة الراسبة والمستمرة» لم يجدوا أدنى حرج في التعبير عن تمسكهم بسلوك النهب. انتبه الوالي ناظم باشا إلى هذه المعضلة؛ الي كانت تضرب. في الصميم.ء محاولته تثبيت دعائم الاستقرار الاجتماعي والسلم الأهلي. تبين للوالي سلسلة اتصالات مع رجال الدين والعشائر» من أجل التوصل إلى اتفاقية يُحرم بموجبها سلوك الغزو هذا. تبين للوالي بعد وقت قصيرء ويا للعجبء أن بعض العشائر ‏ وعلى جري عاداتها القديمة المناصلة ‏ لم تكن لتدرك ولطاروة ا ورد واو وقد ولى مع الجاهلية. لقد كانت تتمسك بتقاليد الغزو ظنأ منها أن الإسلام لا يحرمهاء وكان من العسير إقناعها بالتتائج المدمرة لهذا السلوك على صعيد الاستقرار والسلم الأهلي؟

ولذا جاءت الاتفاقية قبة المبرمة بين القبائل على تحريم الغزو والتوقف عن ممارسة داخل المدن وخصوصاً داخل بغداد وعلى أطرافها؛ وهي اتفاقية جرت برعاية الدولة ودعم المرجعيات الدينية» لتعبر عن لحظة توافق مذهلة في التاريخ الاجتماعي والسياسي العراقي. كانت الاتفاقية خلاصة فتوى دينية أصدرها رجال الدين الشيعة وسارعت الدولة ‏ السنية ‏ إلى المصادقة عليها. ثم سرعان

- 347 -

الفصل الثالث: مأزق التحدين <©"<بلل_ا_الع_اظ_ااع]): تمل سم ما قبلتها العشائر وأبدت رغبتها في احترامهاء قبل أن تتولى الدولة رعايتها والسهر على تنفيذها. على هذا النحو اخذت إصلاحات ناظم باشا طابعاً مُتميزاً عن سائر الحاولات الإصلاحية الكبرى السابقة» بما فيها إصلاحات داوود باشا في العام 1830. فللمرة الأولى يتمكن الوالي من تحديد دور ووظيفة الدولة كضامن لعقد هذه الآونة سوية مع إعادة تعيين دور طبقة رجال الدين كطرف إجرائي» تتحدد وظيفته في إيجاد المخارج الفقهية والتقيبدات الدينية الضرورية» للازمة لتحريم العنف والمساعدة على نشر السلم الأهلي. بالتوازي مع هذا التطور الذي خلق بيئة جديدة من الاستقرار» شرع ناظم باشا بسلسلة من الإصلاحات شملت إنشاء سد كبر لحماية بغداد من خطر الفيضان ( وهو معضلة مستمرة من دون معالجة وكان تؤدي إلى كوارث اجتماعية). كما امتدت يد الإصلاح لتشمل تأسيس غرفة تجارة بغداد وإصلاح الطرق وافتتاح أول شارع رئيسي في بغداد ( شارع النهر). والمثير للاهتمام أن من بين أكثر الأفكار التي شغلت ناظم باشا في هذه الآونة» فكرة إنجاز حول على صعيد العادات اليومية والاجتماعية» وتعليم السكان طرقاً وأساليب جديدة لتنظيم حياتهم اليومية بمساعدة الدولة.

ومن هذه الأساليب تدريب سكان الأحياء الشعبية على أسلوب أفضل للتخلص ممن النفايات المنزلية. ولذلك أمر بأن تتولى الدولة بنفسها مهام جمع القمامة من المنازل» وتعليم السكان المحليين كيفية التخلص من عادة ذميمة وقديمة ( تجميع النفايات عند أبواب المنازل أو رميها في الباحات). هذا الحدث الاجتماعي الصغير الذي فاجأ سكان بغداد آنذاك كان له أثر بالغ؛ فقد سير الوالي العثماني عربات نقل خاصة تقرع الأجراس إيذاناً بوصولا من أجل أن يستعد السكان لجمع القمامة من المنازل» ولوضعها في الحاويات السيارة التي تجرها الخيول. جسد هذا الإجراء واحدة من أفكار ناظم باشا عن معنى

- 348 -

الفصل الثالث: مأزق التحديثن ‏ + ظجللتجلجتالكةظه جل سم التمدين الاجتماعي ودور الدولة في تهذيب وتعليم رعاياها. وني هذا النطاق امحدود. ولكن الضروري والملح أيضأء من فكرة تدخل الدولة لا بواسطة القوة» والنفايات التدابير العملية المساعدة» أمكن لناظم باشا أن يضع اللمسات الأولى للتمدين الاجتماعي.بالطبع لم يكتف الوالي بلوم السكان أو تقريعهم لأنهم لم يتواصلوا إلى طرق أفضل للتخلص من مشكلة النفايات؛ بل سارع إلى تعليمهم, فالدولة هي التي تتحمل مسؤولية التدهور في درجة التمدن» وهي القادرة على الدفع به إلى أمام.

ستبدو هذه الفكرة ‏ اليوم - مضحكة بالنسبة لجمهور واسع من السياسيين والمثقفين الأيديولوجيين؛ ولكن أهميتها تكمن في أنها أدخلت» اعتباراً من هذا الوقت وبعد عهود طويلة من الإهمالء أسلوباً عصرياً إلى الحياة الاجتماعية واليومية للبغداديين؛ سوف ينظر إليه الجتمع برمته على أنه إجراء جدير بالاحترام. كان المجتمع العراقي حتى العام 1910 يغرق في الظلام» بينما الجيران الأتراك والإيرانيون يحثون الخطى على طريق المدينة السياسية والاجتماعية. وبينما بدا العراق المملوكي - التركي يسير مُتعثرا بأذياله؛ فإن أصداء المدنية والتقدم والحداثة كانت تزمجر بقوة» ولكن من دون أن تحدث الأثر المطلوب. إن عادات الطعام والنظافة المنزلية ونظافة المدينة أو المحلة» وتعلم واكتساب عادات جديدة مهذبة والإقبال على العلوم الحديثة. تشكل بمجموعها أرضية لازمة لكل عملية تمدين اجتماعي. ارتأى خيري العمري ( حكايات سياسية ‏ مصدر مذكورء ص: 36) أن الإصلاحات الممتازة التي حققها ناظم باشا كانت بدافع النزعة الإصلاحية التى تشبع بها منذ أن كان في فرنسا أثناء دراسته. لقد كان تأثير الحضارة الأوربية بيناً في أفكاره وسياساته. وبوجه أخص مبادئ الثورة الفرنسية. وعلى الرغم من قصر الفترة التي حكم بهاء فإنه تمكن من إنجاز سلسلة من الأعمال الإصلاحية الهامة» ليس

- 349 -

الفصل الثالث: مأزق التحديثن +عتتتاق ب لش د ١٠ٌحج#_‏ ل أقلها تعبيد الشوارع ( بالقير) وردم المستنقعات وفتح الشوارع العريضة وبناء مستشفى ( الغرباء) وتشييد الحديقة المسماة ( ملت بقجه سى). كما كان أول من منح امتيازاً لإنشاء خط للترام في بغداد» وكان أول من أنشا صيدلية تدار من قبل البلدية وتفتح أبوابها ليل نهارء فضلاً عن إدخاله الأسس الحديثة في إدارة السجون وتشغيل السجناء في أعمال نافعة» وإلى هذا كله فقد وضع لائحة تتضمن برنامجاً إصلاحياً واسعاً لولاية العراق.

التمدين هو الذي يخلق البيئة الجديدة للسياسة. وهو الذي كان مقدراً له في حالة العراق - لو أنه استمر بالوتيرة ذاتها وبالزخم المطلوب - أن يرسي الأساس الصحيح لحياة سياسية واجتماعية أكثر استقراراً. إن منظر شاب قذر الثياب جاهل أو نصف متعلم وغير مُهذب ‏ لمق ذلك لم يكتسب أقل وأدنى المهارات من انتمائه إلى الحزبء أو من انخراطه في مليشياته المسلحة ‏ وهو يعرض نفسه على الجتمع بوصفه رجل سياسة؛ يجب أن يطرح أمامنا السؤال التالي: هل يعلم المجتمع العقائدي عضو الجماعة أو الحزب» معارف أخرى خارج معارف العقيدة المقدسة؟ هل يساهم في تمدينه؟ إن الحزب والجماعة العقائدية في العراق كما بينت التجربة؛ لم ينشغلا جدياً في تحقيق انقلاب جذري في شخصية العضو الجديد, بل قاما باستغلالها من أجل تحويله وبسهولة إلى أداة تطش في يد القادة؛ يمكن استخدامها في الخلافات السياسية. إننا - على غرار ما فعل الوالي العثماني ناظم باشا - لا نلوم هذا الشاب المسكين على تصرف غير اللبق» ولا على تدني معارفه ولا على قذارة ثيابه» بل نلوم الجماعة العقائدية التى لم تهذبه ولم تعلمه ولم تزوده بأن مهاراتء ولم تساعده أيضاً في اكتساب عادات جديدة؛ بل كرّست فيه الروح الرعاعية القديمة وقامت باستغلالها. وكما برهنت التجربة؛ فإن الحزب الجماهيري في العراق. استغل الملايين من الشباب البسطاء والرائعين والطيبين الذين عاشوا في أحزابهم

-350-

الفصل الثالث: مأزق التحديثث تت لشظله ثظشغ بخ بم م سنوات من العذاب والشقاء والحرمان» مفضلين الموت على الحياة من أجل الحزب والمبادئ. يتجلى هذا الاستغلال في أبشع صوره. في تكريس طاقات هؤلاء داخل ميادين تبعدهم عن تعلم واكتساب الثقافة أو تلقي المعارف خارج حدود معارف الحزب وثقافته. إن الحزب الجماهيري لا يعترف بأي معرفة أخرى خارج معارفه. وبالنسبة للأعضاء؛ فإن المعرفة الوحيدة المسموح بها أو التي يتعين اكتسابها من الانتساب إلى الحزب والجديرة بالتصديق أيضأء هي المعرفة التي ينتجها الحزب والتى ينتجها الملا؛ سواء أكان هذا الملا شيوعياً أم إسلامياً. والمرء ليعجب. بالفعل» كيف أن الملك فيصلء وبخلاف الأحزاب بما فيها الأحزاب الجماهيرية» انتبه مُبكراً إلى أهمية هذا الجانب» عندما ركز أنظاره - في خطبه وأحاديثه ‏ على دور الدولة الحديثة في تهذيب المجتمع؛ وتعليمه ومساعدته على اكتساب معارف وعادات عصرية؛ بينما أشاح السياسيون بوجوههم عنه.

إن درجة التمدن الاجتماعي تتلازم بدورها مع طريقة تفهم السياسة. ومع شكل تلقيها كممارسة اجتماعية راقية وكثافة وليس كممارسة للعنف أو الطقوسية. يروي لي الصديق الكاتب والسياسي السورية الدكتور عز الدين دياب الرواية التالية» مسترداً ذكرياته عن الانتماء الحزبي؛ عندما أصبح في مطلع شبابه عضوا في حزب البعث العربي الاشتراكي في الخمسينات القرن الماضي ١‏ انظر كتابه أكرم الجوارني كما عرفته» بيسان للنشرء بيروت 1998): أنه وأثناء دراسته في حمص في مدرسة عمر بن الخطاب» وخلال إقامئه في حي باب تدمرء التقي بعامل نول يدوي لا يعرف القراءة والكتابة وكان يشاركه السكن. كان العامل يحضر كل يوم إلى الغرفة كتبأً ماركسية ويطلب من زميله البعثي عز الدين بكل لطفء أن يقرأها له بينما ينصرف هو إلى الإصغاء وشرب الشاي وتدخين لفافات التبغ( 36):

-351-

الفصل الثالث: مأزق التحديث ‏ ا ال سا _ لدلدى در _ ليس وكان يسألبى بعد قراءتى له صفحات علة. هل فهمث ما قرأت؟ وكلت أجيبه دائماً بكلمة لاء فكان يشرح لي ما تعنيه تلك الصفحات.

إن هذا الشغف الرائع والإنساني والتطلع ‏ دون تردد كذلك إلى المعرفة؛ والقدرة الفذة على تخطي الحاجز الحزبي العقائدي ‏ بين عامل النول اليدوي الشيوعي وشريكه الطالب البعثي ‏ ليدلل بجلاء كاف على الفكرة الآنفة. فالحزبية بما هي انغلاق وحجب للواقع» يمكن أن تكون قابلة للتخطي مثلها مثل حاجز الأمية الذي يحول دون تلقي عامل النول للمعرفة. لقد تجاوز عامل النول اليدوي, الأمي والفقير والشيوعيء عقدة الأمية بالفعل ‏ واستعان بزميله وغريمه الطالب البعثي لكي يقرأ له الكتب الماركسية. ورمزياً: استعان بغريمه الأيديولوجي من أجل اكتساب معرفة أرقى؛ بينما أصبح بوسع الطالب البعثئي الشاب ‏ الذي كان يملك امتياز معرفة القراءة بصورة جيدة ولكنه بحكم صغر سنه وربما بسبب ثقافته الحزبية القومية لم يكن يستوعب مايقرأ_-أن يشاطر زميله وغريمه الشيوعي في تلقي المعرفة ذاتها من دون ذعر. ومهما كان رأينا بنوع هذه المعرفة؛ فإن مجرد وجود شراكة قابلة لأن تتأسس في إطار حب التعلم؛ ويتمكن الأعضاء فيها من تخطي الحواجز الحزبية والعقائدية التي تمنع تقاربهماء لمي دليل ساطع في قوته على أن المجتمع الحقيقي والكبير» يظل أكثر انفتاحاً وتسامحاً وحيوية من مجتمعات العقائديين المتعصبين. من غير شك. فقد لعبت درجة التمدن وروح التسامح في المجتمع السوريء والعقلانية والثقافة الاجتماعية الراقية وقوة العادات المتأصلة وأنماط السلوك المهذب فيه وباستمرار؛ دوراً حاسماً في عقلنة الصراعات الحزبية في التاريخ الاجتماعي والسياسي في سورية المعاصرة؛ بل وتقييدها بقيود وضوابط مقبولة من كل الأطراف. بخلاف ما هو الحال مع العراق وتجربة العلاقات السياسية في تاريخه بين الشيوعيين والبعثيين.

-352-

الفصل الثالث: مأزق التحديثنت ‏ 7+ عد طظسجس> ل

في حكاية عز الدين ذياب مع زميله عامل النول اليدوي, يمكن لنا أن نرى هذا المغزى بعمق؛ فالتعايش بين الخصمين الأيديولوجيين - الطالب البعثئي والعامل الشيوعي ‏ جرى داخل إطار البحث المشترك عن المعرفة ومن أجل تخطى حدود الحزبية. إن العودة إلى هذه النقطة حيث تصبح السياسة؛ لا الحزبية» وسيلة لتلقي وتجسيد المعرفة ومن دون أن تتحول إلى أداة للصدام أو العنف اللاعقلاني؛ هي التي يمكن أن تعيد الحزبية في العراق إلى بدايتها الصحيحة وتخلصها من كونها تعبيراً عن تعارض عنيف. إن العراقيين عموماً ليشعرون بالحزن ‏ اليوم كما بالأمس - لافتقاد بلادهم التاريخي» لدرجة ما ممن الاستقرار السياسي الطويل ولتعثر محاولات التمدين الاجتماعي الحقيقي فيها.

وليس دون معنى أن العراقيين لا يزالون يستذكرون بحسرة الحقبة القصيرة ‏ التي دامت نحو ست سنوات ‏ بين عام 1973 - 1979 بوصفها حقبة استقرار نسبي شهد العراق خلاها قيام الجبهة الوطنية بين الشيوعيين والبعثيين» ووضعت حدا - ولكن إلى حين - للعنف المتبادل بينهما.هذه الحقبة من الهدوء لا تزال برغم كل عيوبهاء تعيد تذكير كل العراقيين بذلك الترابط العضوي بين التمدين الاجتماعي والاستقرار السياسي. في المقابل» لا بد من تأكيد حقيقة أن درجة جيدة من التمدن» خلال حكم البعث في العراق؛ طاولت الطبقات الوسطي وإلى حد ما بعض الشرائح الفقيرة» التي استفاد أفراد منها بشكل مباشر من صلاتهم مع مؤسسات الدولة. بيد أن الغالبية العظمى في امجتمع ظلت بعيدة عن كل محاولة من جانب الدولة للتمدين الشامل» فلم توضع الخطط والبرامج الاجتماعية الجذرية والحقيقية لنقل المجتمع إلى طور جديد من العلاقات المدنية العصرية» ولم تجر محاولات جادة على هذا الطريق. على العكس من ذلك ثم حرمان ملايين من العراقيين من الفرص المتاحة على هذا الصعيد.

-353 -

الفصل الثالث: مأزق التحديثث 2 <6برردلبهتبا2٠١[شٌ٠١شعج‏ لل ل

يعني هذا أن الدولة وحزبها الجماهيري القابض على مركز الثورة والنفوذ في العراق» عملاً دون كلل أن تبصر بالعواقب» على تكريس درجة من التخلف الاجتماعي» سواء أكان ذلك عن قصد ظاهره أم في سياق ارتباك البرامج الاجتماعية وفشلها في أحداث التحول. وعلى سبيل المثال؛ فإن الحملاث التى قادها وزير الداخلية الأسبق صالح مهدي عماش - في نهاية الستينات من القرن الماضي - وفور وصول البعث إلى السلطة» ضد النساء العراقيات اللواتي كن يرتدين ملابس حديثة؛» وهي الحملات التي عرفت بحملات طلاء أقدام الفتيات ممن يرتدين تنانير قصيرة» حيث شوهد رجال الشرطة وهم يطاردون النساء في شوارع بغداد حاملين الفرش وعُلب الدهان ( البويا) بينت» وعلى أكمل وجه أن فكرة الحزب الجماهيري عن دور الدولة في تمدين المجتمع» لم تكن سوى فكرة مشوشة وربما رجعية؛ فهي تراءت كما لو كانت مرادفة للاستسلام أمام الثقافة الغربية وقيم المجتمع الغربي المستوردة. ومع أن هذه الحملات توقفت بعد وقت قصير أثر تصاعد الاحتجاجات في ختلف الأوساط؛ وبدلاً منها برزت مظاهر مدنية أخرىء إلا أنها ظلت تذكر أقساماً من العراقيين حتى اليوم؛ محقيقة أن الدولة تريد تحديثاً محصوراً في نطاق جهازها المتغول؛ وتريد تمديناً محدوداً ومحصوراً في نطاق قسم من الجتمع هو ( مجتمع الدول). ولذلك لا يملك المؤرخ أو المحلل سوى القليل ن الشواهد والآدلة على وجود برنامج تمدين اجتماعي في العراق خلال السنوات 1968 -2003» بينما على العكس من ذلكء. هناك شواهد وأدلة كثيرة على وجود برنامج تحديئي طاول بُنى الدولة بشكل جذري.

وبذلك انقلب الوضع التاريخي في العلاقة بين الدولة وامجتمع رأسأ على عقب منذ وفاة فيصل الأول: لقد أصبحت الدولة أكثر قوة وحداثة من الجتمع» الذي بات أضعف وأقل مدنية مما أراده الملك عام 1932. وهكذا؛ فإن

- 354 -

الفصل الثالث: مأزق التحديث

المحاولات المتناقضة والمبتورة؛ التى تبدأ بعبد الوهاب باشا وناظم باشا وكفاحهما من أجل تنظيف البيئات الشعبية من القاذورات المنزلية» والتخلص من العادات الذميمة في المجتمع؛ أو من أجل إخراج المرأة العراقية إلى الحياة العامة كما في محاولة عبد الوهاب باشاء ولتنتهي أخيراء وبعد نحو سبعين عاماء بمحاولات طلاء سيقان النساء العراقيات بالدهان ومطاردتهن في الشوارع؟. هذه السلسلة المتناقضة من التدابير» مع التمدين وضده. عبرت عن فط التصورات المتصادمة لمسألة التحديث. لم يكن هناك قطء وفي أي حقبة من تاريخ العراق الحديث,» برنامج حقيقي موجه صوب المجتمع لإدخاله في سياق عملية تمدين. وظل برنامج الدولة الوطنية مُقتصراً على بنى الدولة وعسكرتها. ولذلك يجوز القول أن الدولة الحديثة في العراق» أنجزت أو استكملت سيطرتها المطلقة على الجتمع؛ الذي رأى إليه فيصل على أنه كان أقوى من الدولة» ولكن من دون أن تتمكن من إنجاز عملية تحديث اجتماعي شامل. وفي ظل انعدام حياة سياسية وحريات عامة أو صحف معرضة - بعد إقصاء الشيوعيين ومطاردتهم ابتداء من العام 1978 وتحطيم الأسس التى قام عليها التعايش التاريخي السنى ‏ الشيعي؛ ولنقل خلخلتها بعد سلسلة من عمليات التهجير الظالمة إلى إيران» ( والتى طاولت المئاث الآلاف من التجار الشيعة والمواطنين الفقراء بحجة أصوهم الفارسية ثم مع الحرب العراقية ‏ الإيرانية التى خلقت وضعا ثقافيا ونفسيا محتقنا لشدة الالتباسات وكذلك على أثر تدمير الحركة القومية الكردية قبل سنتين من ذلك مع اتفاقية الجزائر في العام 1977 مع الشاه) فقد حدث تصدع مخيف في العلاقة بين الدول والمجتمع. في هذا الإطار» جاءت سنوات الحرب الطويلة مع إيران لتعمل في اتجاه واحد: تعظيم سيطرة الدولة» وتحويل نفوذها في المجتمع إلى قوة طاغية» تضّيق الخناق في كل لحظة من

-355-

الفصل الثالث: مأزق التحدينت دتاظطعح<7لبمل سس لحظات حضورها الهيمن والزمجر في المجتمع؛ على تطلعات وأحلام الملايين من العراقيين. وفي كل لحظة أيضاً من هذا الحضور الرهيب للدولة المتغولة» كانت هناك تطلعات جديدة تموت اختناقاً تحت ضغط التزمت والتعصب الأعمى للأيديولوجيا.

وبيئما راحت الدولة تستثمر إمكانياتها المالية ال هائلة لتحقيق تفوق عسكري سريع على إيران» بإنشاء المصانع الحربية وتطوير المؤسسات الخاصة بالمجهود الحربي؛ تراجعت حينئل» وإلى حد كبير المشاريع العمرانية والمدنية الحديثة» وتمرّقت أكثر فأكثر الروابط داخل المجتمع بفعل النتائج المأسوية للحربء وطاولت وآثارها الكارثية نسيج القيم التقليدية والثقافية القديمة. هذا التصدع في العلاقة بين اجتمع والدولة» كان ثمرة سياسات فشلت في إدراك الوظيفة التاريخية للدولة» التى أصبحت حينئذ دولة الحزب الجماهيري الواحد. سوف يؤدي ذلك؛ وسريعا إلى نوع من الانفصال غير المسبوق: إذ أصبح لدى الدولة مجتمعها الخاص الُنفصل عن المجتمع الحقيقي والكبير. إنه مجتمع على غرار وصور المجتمع العقائدي الذي بناه الحزب؛ صورة مصغرة عنه وحسب. ولسوف يواصل هذا الجتمع الخاص انعزاله عن المجتمع الحقيقي» بينما ستندفع طبقات وفئات اجتماعية متزايد متزايدة نحو التهميش السياسي والاجتماعي. وهذه ستولد في صفوفها مادة جماهيرية جديدة من الفقراء والمحرومين والمهمشين؛ لا تكف عن التطلع إلى حلول خلاصية من الأوضاع الخائقة.

من رحم هذه البيئة المتخمة بالمهمشين والمعذبين ‏ بالحرب الطويلة مع إيران - ومن رحم فشل برامج التنمية؛ وهيمنة الحزب الواحد كذلك؛» ستولد الموجة الجماهيرية الثالثة وتترعرع نزعات التطلع إلى إشباع الهويات المذهبية في مجتمع تعاظمت فيه إمكانيات الانقسام. في الماضي جرى اختزال فكرة التحديث إلى مشروع إصلاح سياسيء كما في مشاريع الوزارات المتعاقبة في

-356-

الفصل الثالث: مأزق التحديثغ -‏ 7 ج اا العراق الملكي سنوات 1921 - 1958. وهكذاء اضر حدث انعطاف آخر في فكرة الإصلاح المختزلة هذه حين تم توجيه الأبصار إلى تحديث الدولة مقابل إضعاف المجتمع. وهكذاء وخلال ما يزيد عن ثلاثة عقود» كان الهدف الذي نشدته أفكار الإصلاح هو استئصال داء الإجرام السياسي حسب تعبير نوري السعيد. وبالطبع لم يُطاول هذا المشروع الذي ظل نظرياً إلى النهاية» لا الهياكل ولا البُنى ولا المفاهيم إلا في حدود سطحية وهامشية. وإلي هذا كله تم اختزال التحديث إلى مشروع عسكري الطابع لتجديد جهاز الدولة وتعظيم سيطرتها على المجتمع. ولذلك ظل العراق خلال حقب طويلة حبيس طموحات غير قابلة للتحقيق. وباستثناء فترات عابرة» شهدت البلاد خلاهها تغيرا حقيقيا في التعليم ومستوى الخدمات الصحية؛ وإنشاء بنية تحتية بدائية بفضل مشاريع مجلس الأعمار التى أخرجتها ثورة تموز/ يوليو 1958 من الأدراج؛ فإن أي محاولة جدية لتحديث الدولة ‏ ونحن نتحدث عن تحديث الدولة حصراً - م تجر في العراق إلا مع صعود البعث إلى السلطة مجددا.

في السبيعنات من القرن الماضيء قاد الرئيس العراقي صدام حسين - نائب الرئيس البكر عندئل - أول وأكبر عملية تغيير في بنى الدولة. كان تحديث بنى الدولة الذي قام به البعثيون بجرأة» والذي لعب في صدام حسين دوراً محورياًء يتمثل ويتجسد في صورة تعبير عن هاجس أمنى في الصميم؛ إذ استهدفت سلسلة من التدابير الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. وبالدرجة الأولى خلق مجتمع دولة قوي وثري أكثر ارتباطاء من حيث المصالح المباشرة» بالأجهزة والمؤسسات الحزبية والأمنية. وهذا ماعرف تاليا بسياسة التبعيث» التى هدفت بدورها إلى إنشاء روابط وثيقة وجديدة بين الدولة من جهة. ومجتمعها الخاص من جهة أخرى. ومع ذلك لا يمكن تجاهل حقيقة أن الخطط والبرامج الاقتصادية» مكنت العراق فعلياً من الانتقال خلال بضع سنوات من

-357-

الفصل الثالث: مأزق التحديث دولة عالم ثالثية طرفية بطيئة التطورء إلى مصاف دولة لها مؤهلات وإمكانيات التطور السريع في شتى المجالات. بيد أن هذا التغيير الذي نسف الأسس القديمة للدولة ومؤسساتها؛ وأعاد تركيبها كقوة متغولة وأخطبوطية؛ ظل متعثراً في ميدان التحويل المدني للمجتمع واصدم بجملة من المعوقات الداخلية. هذه المعوقات سوف تتلقى ومنذ وقت مبكرء ضربات متتالية مصدرها الخارج؛ الذي ظل ينظر بقلق لتسارع وتيرة التنمية والنجاحات المذهلة التي أنجزتها الخطة الانفجاري. حيث شهد العراق تزايداً مُطرداً في عدد الجامعات والمدارس البولتكنيكة» وتحسناأ ملحوظأ ولكن محدوداً في الحياة اليومية» يُضاف إليها نجاح العراق في التخلص من الأمية وحصوله على جائزة اليونسكوء وفوق ذلك كله ظهور جيش من العلماء والكادرات الفنية في شتى المجالات. وخلال أقل من عقد واحد من السنين 1980 - - 1990. أصبح لدى العراق جيش من نحو خمسة عشر ألف بالمقايبس العالمية( ونحو 500 عالم بالمقاييس الأمريكية) في كافة مناحي الحياة المدنية والعسكرية؛ كما انتشرت المصانع والمعامل والمنشآت المدنية الحديثة وما يزيد عن 300 مصنع حربي. بيد أن هذا التقدم في برنامج تحديث بُنى الدولة لم يترافق» كما يلزم؛ مع التحويل الجذري في الحياة المدنية؛ فقد بقيت البنى الاجتماعية متخلفة وأقل مدنية حتى من بعض بلدان الجوار. كانت فكرة التحديث بالنسبة للبعث. وكما تجسدث في أرض الواقع» تعنى شيئاً واحد: إنشاء منظومة من المرتكزات التى تساعد في ظهور بلد قوي عسكريأء يمتلك جيشاً من العلماء والتقنيين الممتازين. وهو ما أذّى» وفي خاتمة المطاف. إلى ظهور مجتمع ضعيف ودولة شديدة البأس.

لقد أصبح الجتمع منذئل يرتعد خوفاً في مواجهة دولة أخطبوطية. ولذا؛ ظل مفهوم الحداثة الأيديولوجية هذاء مُسيطرأ على فكر وعقل النخبة السياسية الحاكمة والمعارضة على حدر سواءء إن مفهوم الحداثة الأيديولوجية

-358-

الفصل الثالث: مأزق التحديثغ + بج د لج جا ا اجل22ن. _ ا كما يتجلى في الخطاب السياسي المعارض طوال سنوات 1978 - 1990 بالكاد يفترق عن مفهوم السلطة؛ وهذا أمر مفهوم لأن المنطلقات الفكرية كانت واحدة في الحالتين. على الطرف الآخر المعارض لسياسة البعث ‏ كان الشيوعيون المتحالفون مع الأكراد يقودون منذ نهاية الثمانينات من القرن الماضي تياراً يدعوء ومن منظور اقتصاديء إلى بديل عن برنامج البعث مُستمد في الجوهر من حلول سبق للاتحاد السوفياتي - والمنظومة الاشتراكية في أوروبا الشرقية - تجريها وتذوق طعم فشلها. لكن ومع انهيار الاتحاد السوفياتي وجد الشيوعيون العراقيون أنفسهم في قلب موجة جديدة من الدعوات إلى حلول ليبرالية اقتصادية للأزق العراق. ولذا أسرعوا الخطى للسير على الطريق ذاتها التى سوف يسير فيها دُعاة الليبرالية في المعارضة. وكان من المثير للدهشة أن يمارغ عامر عبد الله أححد أبرز وجوه الحزب الشيوعي التاريخية: إلى نشر سلسلة من المقاللات - سوف تصدر لاحقأ في كتيب يدعو فيهاء فعليا يأولكن بصورة غير مباشرة وتحت ستار الالتحاق بالنظام العالمي الجديد والتناغم مع التطورات العالمية؛ إلى الاستسلام الجماعي الفكري والثقاني الشامل للحل الليبرالي الغربي. تلقى الحزب الشيوعي هذه الدعوة الصادرة عن أحد قادته التاريخيين بالصمت,. وم يتول أي بق املفقى الخوت الرد عليها أو تطوير نقاش فكري مع موضوعاتها. عنى هذا انتصارا فكريا لامعا لليبرالية الغربية داخل الحزب الشوعيء على ماركسية متحفية محنطة ومُتلاعبا بموضوعاتها الكبرى. ولكنه كان انتصاراً عقيماً على المستوى الفكري لأنه لم يولد نقاشات أو سجالات فعالة» كما لم تنبئق نبئق عنه أفكار جديدة تؤدي إلى تطوير فكر الحزب. واحدة من أكثر منطلقات الحداثة الإيديولوجية هذه في أوساط المعارضة ‏ تجلت في وقت مُبكر» من خلال طرح سلسلة من الأفكار عن الخصخصة والليبرالية الاقتصادية وحل الجيش. وبينما كانت الدولة في العراق

-359-

الفصل الثالث: مأزق التحديثن_ 6 7 "__-“"سٌ _ٌل_ا_ٌٌحج< ‏ سم تزداد قوة وجبروتاًء والمجتمع يضعف أكثر فأكثر والنظام الاقتصادي المركزي يزداد تمركزاً؛ كان المعارضون العراقيون يطوون خطاباًء هو مزيج من التحريض الثوري القديم والدعوات المشوشة لليبرالية الاقتصادية. على هذا النحو تلاقت الأيدولوجية الثورية الجماهيرية ‏ كما نادى بها الشيوعيون مع الليبرالية الغربية التى لطالما ناصبوها العداء. لقد اتحدتا داخل خطاب سياسي جديد. ولكنء أتضح مرة أخرى أن النخب العراقية السياسية والفكرية في الخارج» كانت أعجز من اء تتلمس الصعوبات والمشكلات العويصة. التي راح العراق يغطس في أوحالها مع تفاقم التتائج المروعة للعقوبات الاقتصادية الدولية. ففي حين أخذت العقوبات الدولية القاسية تفتك بالمجتمع فتكأ رهيبا وتندفع طبقات بأكملها إلى أوضاع مزرية من الإفلاس والفاقة والعوز ‏ حتى أن الطبقة الوسطي أنحيت عن الوجود خلال سئوات الحصار كان الخطاب الليبرالي الجديد بظلاله الثوروية الشاحبة والذي لوح به المعارضون., يتراءى كخشبة خلاص بالنسبة لكثير من الشيوعيين الأرئوذكسيين. أما داخل البلا فقد أتضحء وبفعل الهيمنة المطلقة للرئيس على أجهزة الحزب والدولة» أن الحداثة الإيديولوجية قد غدت محصورة أكثر فأكثر» في نطاق مبدأ تعظيم سيطرة الدولة على الجتمع لمواجهة نتائج العقوبات الدولية» ولم تتخط» قطء نطاق تحديث آليات ضبط الأوضاع الداخلية اقتصادياً واجتماعياً؛ فظهرت سريعاً - نتيجة ذلك - أولى العلامات على تراخي قبضة السلطة في أحزمة الفقر. وعلى سبيل المثال؛ فإن مدينة الثورة ( الصدر - اليوم ) أصبحت ابتداء من التسعينات وبعد غزو الكويت؛ نموذجاً لتراخي قبضة السلطة» حيث راحت المافيات وعصابات الجرهة النظمة تعيث فساداً وتفرض سيطرتها شبه المطلقة على أسواق السلاح وتزوير الوثائق. في هذا الوقت. بدا أن مجتمع

-360-

الفصل الثالث: مأزق التحديث ‏ 6 ١‏ دددد.حل ى. ايح المهمشين والحرومين في بغداد» بات أكثر تنظيماً واتصالاً بالجماعات الدينية المناوثة للنظام.

إن فشل مشروع الحداثة الإيديولوجية؛ الذي عبر عنه ونادى به البعث. الفقر في بغداد ‏ مدينة الثورة ‏ حيث الغالبية الشيعية التي تتجاوز مليوني إنسان تندفع نحو حافة الياس والانفجار. وني الجنوب وهو الخزان الشيعي - الثقافي والبشري الأكبر ‏ تضاعفت التتائج المأسوية الناججة عن الحرب مع وغدت أوضاع السكان مثيرة للشفقة بكل المقاييس.

بالتتيجة ولدت وانهارت دولة كاريزمية» حلم بها العراقيون طويلاًء لبعث أمجاد بغداد العباسية والعراق البابلي ‏ الآشوري القديم؛ ولكن لتستثمر بأقصى ما يمكن من السرعة والبراعة والقسوة» إمكانيات البلاد وثرواتها لإنجاز وتحقيق سيطرتها على المجتمع؛ وتسريح تحولها هي» وليس المجتمع؛ إلى جهاز رقابة صارم غير قابل للزحزة؛ ومن غير أن تؤدي هذه السيطرة - في نهاية المطاف - إلى حلول جذرية لمشكلات كانت تزداد تفاقماً مع فرض العقوبات القاسية والظالمة على العراق. وإذا ما عدنا إلى الوراء قليلء أي إلى فترة الحرب مع إيران» فسوف نكتشف أبعاداً أخرى للحداثة الإيديولوجية؛ إذ يبدو أن سنوات الحرب الطويلة والمريرة مع إيران» لعبت بالضد من إرادة البعث في هذا الجانب. كان طموح البعث. كما عبر عنه مطلع السبعينات؛ يتصل عضوياً بفكرة الانتقال السريع بالبلاد إلى مصاف الدول الحديثة وتمدين امجتمع. وبصرف النظر عن موقف المعارضين من هذه الطموحات؛ فإن الأمر المؤكد هو أن هذه الأماني تحطمت في النهاية» وفي وقت مُبكر للغاية» على أ“تاب الخطأ الإستراتيجي بخوض ال حرب مع إيران؛ ثم مع قرار غزو الكويت حيث

-361 -

الفصل الثالث: مأزق التحديث ‏ 9< ل ل __‏ ل لو تلاشتء بعدئلر» وأمحيت كلياً مع سقوط بغداد في قبضة الولايات المتحدة الأمريكية.

لقد سقطت الدولة الكاريزمية أمام قوة الخارج - الغرب الذي عاشت أصلاًء تحت ظلال ثقيلة من الذعر والخوف والتوجس منه. وني لحظات انهيار ومحو الدولة المروعة» هذه؛ ولد ملالي العراق الجدد. لقد دخلوا ميدان السياسة القديم وشقوا طريقهم إلى قلب الحشود الجماهيرية لقيادتهاء ولكن تحت رايات سوداء وأناشيد دينية؛ تتحول السياسة في خضمها إلى عمل طقوسي وإلى مناحة جماعية كبرى. ْ

- 362 -

تقرير عن مصادر الكتاب وهوامشه تقرير عن مصادر الكتاب وهوامشه لقد أملت علي طبيعة الكتاب وموضوعاته الفكرية المُارة» وإلى حد بعيد» طريقة شديدة التقشف في استخدام المصادر التاريخية والسياسية. ويبدو أن هذه الطريقة كانت فعالة في جانب هام للغاية؛ إذ أمكن ‏ بوساطة استخدام متقشف ومحترس تجنب الاستغراق في التاريخ وتفادي الخوض في مشكلات نقدية عويصة؛» تخص هذه الواقعة أو تلك؛ وصحة هذه الرواية أو تلك. هو أمر يقع» بكل تأكيد خارج نطاق استراتيجيات هذا النص. ومعلوم أن التاريخ الاجتماعي والسياسي العراقي يعج على نحو فريد ليس شأنه شان أي تاريخ آخر في الوطن العربي» بتناقضات وتباينات يستحيل في كثير من الأحيان التوفيق في ما بينها. إن الواقعة الخاصة ‏ مثلاً ‏ بأحداث الموصل وكركوك في نهاية الخمسينات من القرن الماضيء. لا يمكن معالجحتها في هذا الكتاب إلا من زاوية شديدة الاقتصار: أخذ الواقعة كما جرت بصرف النظر عن تبريرات الأطراف ووجهات نظرهم في أسبابها. بالطبع يمكن معالجة الواقعة نفسها بمناسبة أخرى وفي كاب خاص. أما في هذا الكتاب؛ فإن الطريقة يقة المثلى هي في إنعام الفكر بدلالاتها في الأحداث وليس الإحداث نفسهاء فهو ليس كتاباً في التاريخ» بمقدار ما هو كتاب يتأمل فيه وينعم الفكر في وقائعه.

-363 -

تقرير عن مصادر الكتاب وهوامشه

المحتويات

ولادة حزب جماهيري ا اذ[ 1[ [ [ [ز[ [ [ [ [ 1 ا الجريمة الأولى للجماهير و م ا نوري ورفعت 0 ليلى والذئب: الجماهير المفترسة ا 2 محاولة اغتيال قاسم: صدام الجماهيريات 111 11717111111 القرامطة الجدد: يساريون عند بحيرات البترول 00000 عندما يحتقر الحزب جماهيره 100 الفصل الثاني: الدولة الكاريزمية 2111111111111«

كرسي فرعون وعرش أاشور 99 ب7ب77-بدببب-1111 1 1 1 1 111111

الاستبداد صناعة جماهيرية: حروب الكاريزما 2000000

التحديث وملالي العراق ( المعرفة» الاستبداد. الجماهير) 22131111

الفصل الثالث: مأزق التحديث 0

من أجل عودة الجماهير إلى بيوتها ا

فيصل الأول ومفهوم الدولة: الحداثة المتعثرة 00 - 365 -

تقرير عن مصادر الكتاب وهوامشه

مدرسة الأهالى والأفكار الجديدة: مفهوم ( الشعبية) بديلاً للجماهيريّة 0 نهاية الدولة الكاريزمية: حشود وإيقاعات لت من العنف إلى الطقوسية 00 ؤ زؤزؤزؤزؤز11111011[1! الملا الجديد ال ل يخ اس ا سس اس تقرير عن مصادر الكتاب وهوامشه 1[1[1[11[ز[ز[1[ز[ز[ز[ز[ز[ز[ز[ [ [ [ [ [ 0 1000

-366 -

تقرير عن مصادر الكتاب وهوامشه

الجاهيريات العنيفة

عرف التاريخ الاجتماعي - السياسي في العراق المعاصر ثلاث موجات جماهيرية كبرى» شكلت بمجموعها هذا التاريخ وطبعته بطابعها: الموجة الشيوعية ( الحمراء) في نهاية الخمسينات من القرن الماضيء ثم الموجة القومية العروبية ( البيضاء) مع نهاية الستينات.

وأخيراً: الموجة الثالفة الإسلامية ( الشيعية) مع بداية الاحتلال الأمريكي للعراق في نيسان/ أبريل 2003 والتى يسمّيها المؤلف ب( السوداء) نسبة إلى لون الرايات الدينية؛ المرفوعة حتى اليوم في التظاهرات الجماهيرية.

انطلاقاً من هذه القراءة يقدم الكاتب العراقي فاضل الربيعي كتاباً جديداً مثيراً وجريئاً في نقده.

أفكار جديدة بكل ما في الكلمة من معنى؛ وقراءة جريئة وجذرية غير

الناشر

-367-